في المجتمع العربي الإسلامي الأول كانت هناك أنساق سياسية متباينة
بعضها محلي موروث والآخر وافد مكتسب اجتمعت سوية لتؤسس لبادرة الثقافة
السياسية الإسلامية التي قادت المجتمع الإسلامي.
ومن خلال ما تحدث به المؤرخون عن النظام الإداري العربي الإسلامي
تتبين وراثة العرب المسلمين للنظم الإدارية لحضارات الأمم السابقة (الفرس
والروم) [1] ويتبين أنهم ورثوا عنهم أيضا فكرهم السياسي بعد أن شذبوه
من خصوصيته وأسبغوا عليه روحا عربية جعلته أقرب لأنماط حياة العرب التي
كانت روح البداوة لا تزال سابتة ومتحكمة فيها، ومن أمثلة إرثهم لمباديء
النظم الإدارية غير العربية قيام الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بتقسيم
الدولة الإسلامية إلى ثماني ولايات، فهذا التقسيم الإداري ليس من
مخترعات الخليفة، ولا من موروث الفكر العربي بل هو مأخوذ من النظم
الإدارية السياسية للحضارات الأخرى.
كذلك يرى علي حسني الخربوطلي في مسألة تشكيل القوة البحرية العربية
لأول مرة في التاريخ العربي: "أن العرب كانوا في الأصل مدينين
للبيزنطيين في هذه الناحية من الفنون الحربية" [2] وهذا لا يعني أن
المنظومة السياسية العربية كانت قاصرة عن تحقيق غاياتها وقد تبين من
خلال البحت أن العرب كانوا على قدر كبير من الفهم والتقدم الفكري جعلهم
قادرين على تطويع واحد من أصعب العلوم المعاصرة لخدمة قضاياهم وتوظيفه
للوصول إلى سدة الحكم ومنافسة من هم أكثر استحقاقا وأجدى نفعا للدين
والأمة، ألا وهو علم السياسة. إن مجرد نجاحهم بتطويع هذا العلم لخدمة
مقاصدهم يؤكد سعة إطلاعهم.
وفي موروث العرب المسلمين الأوائل الكثير من الإلماعات السياسية
الناهضة والمتطورة منها على سبيل المثال أن الحرب الإعلامية المضادة فن
لم يعرف ولم يوظف في الحروب إلا في أربعينات القرن الماضي وتحديدا في
الحرب الكونية الثانية وبعد أن تطورت وسائل الاتصال وطرائق نقل
المعلومة لمسافات كان الوصول إليها مستحيلا بما فيها المواقع خلف خطوط
العدو حيث تم استخدام الراديو ذلك الاختراع الجديد المدهش، والطائرات
تلك الآلات المحلقة ذات القدرات الكبيرة لبث الأخبار الكاذبة وتوزيع
المنشورات المحرضة والمثبطة للعزائم. لكننا نجد الفكر السياسي العربي
القديم فنانا مبدعا ومبتكرا في توظيف هذا الفن رغم ضعف الإمكانيات
المتاحة، ونجد لهم فيه وقائع كثيرة تدل على عبقرية نادرة من أمثلتها ما
نقله اليعقوبي عن استخدام الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان لهذا
الفن في حربه مع الإمام الحسن عليه السلام فقال: (وكان معاوية يدس إلى
عسكر الحسن من يتحدث أن قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار إليه! ويوجه
إلى عسكر قيس من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية وأجابه) [3]
وضمن التوجه الإعلامي المضاد نفسه وجه معاوية وفدا إلى الحسن بن علي
يتكون من المغيرة بن شعبة وعبد الله بن عامر بن كريز وعبد الرحمن بن أم
الحكم، وأتوه وهو بالمدائن نازل في مضاربه، ثم خرجوا من عنده وهم
يقولون ليسمعوا الناس ويوهمونهم: إن الله حقن بابن رسول الله الدماء،
وسكن به الفتنة، وأجاب إلى الصلح!
فأنخدع الناس وأضطرب العسكر ولم يشك الناس بصدق هؤلاء الكذابين لأن
الحسن لم يكن قد وافق على الصلح في حينه، فانتهبوا مضاربه وما فيها [4]
وهنا قد يوجه سؤال مفاده: إذا كانت السياسة العربية بكل هذه القوة
والتأثير فلماذا لم يشر إلى وجودها أحد من المؤرخين الأقدمين؟
وهو سؤال بمنتهى الدقة، وأقول جوابا عليه: لو كان الإداريون
المسلمون قد اهتموا بشأن المنهج السياسي العربي كما هو اهتمامهم بشان
الجانب المالي مثلا لكان لدينا اليوم خزينا ثرا وتصورا واضحا عن كل تلك
الحراكات السياسية الجبارة ولكنهم أغفلوا الإشارة لهذا الجانب بمعناه
الحقيقي وأشاروا له من خلال إلماعات تهتم بمسألة الدهاء والخداع وغيرها
من الطباع دون أن يربطوا هذه الصفات بالسياسة رغم أنها من أوضح صفات
السياسيين، كما أنهم أسموا تلك الحراكات بـ (الفتنة) وأنا أرى أن مصطلح
الفتنة مأخوذ من الفلسفة السياسة التي لم تكن قد أصبحت علما قائما
بذاته في ذاك التاريخ فاستعاضوا عن كلمة (سياسة) بكلمة (فتنة) ويقصدون
بها الحراكات التي وقعت في زمن الخليفة عثمان وما تلاه من العصور
الإسلامية القريبة منه.
وللدكتور صبحي الصالح رأيا ناضجا يقول فيه: (وأمهات الكتب القديمة
في "النظم الإسلامية" التي حملت اسم " الأحكام السلطانية" لم يفتها
الفصل بين تينك الزمرتين من النظم ولكن ما أكتنف عباراتها من الغموض في
"أحكام" الفقيهين الماوردي "الشافعي" وأبي يعلى "الحنبلي" لم يتح لنا
ولا للباحثين قبلنا الوقوف على الأطوار التاريخية والأنماط الحضارية
والظروف البيئية والجغرافية التي مر بها كل نظام على حدة من قبل أن
يأخذ صيغته النهائية "الرسمية" في تعاليم الإسلام) [5]
وأرى أن هذا الرأي على قدر كبير من الصحة، ولكنه بالتأكيد لا يغطي
كل جوانب الحقيقة وإنما يغطي جزء منها، وجزء صغيرا فقط لأن التغييب
المتعمد لأثر النظام السياسي، والذي كان جزء من العمل السياسي المنظم،
هو المتسبب الأكبر في هذا الغموض وألا فإن النظام السياسي بمفهومة
المعاصر كان حاضرا وفاعلا ومتحكما في مسار الأحداث والتاريخ وهو الذي
شكل الخارطة السياسية الإسلامية بشكلها المعروف حاليا.
وكلما توغلنا في الحديث عن تعامل العرب المسلمين مع متطلبات المرحلة
التي عاشوها بحسناتها وسيئاتها سيتضح لنا دور السياسة في ترتيب البيت
العربي الإسلامي وفق هواها، وفي مراحل من هذا الحراك قادهم الهوى
السياسي بعيدا عن هوى الدين ومسؤولياته، وهذا النجاح يؤشر إلى الدور
الكبير الذي لعبته السياسة في الحياة العربية الإسلامية القديمة.
....................................................
الهوامش
[1] ينظر: الحضارة العربية الإسلامية، علي حسني
الخربوطلي، ص 18
[2] المصدر نفسه، ص 63
[3] تاريخ اليعقوبي، الجزء 2، ص 214
[4] المصدر نفسه،ص 215
[5] النظم الإسلامية، الدكتور صبحي الصالح، ص 8 |