تعيش المنطقة العربية هذه الأيام (ربيع الثورات) التي امتدت في معظم
الوطن العربي وبعضها اجتاح كل شيء وهدم كل رمز يدل على الشمولية
والدكتاتورية والعراق لم يكن ببعيد إذ حصل فيه تغيير يكاد يكون زلزالي
أدى إلى ذات النتيجة التي وصلت إليها تلك الثورات وان اختلفت الوسائل
والآليات.
ويجد المراقب مشتركا بين كل الثورات هو وقوفها بكل إجلال وتقدير
للقضاء وينظر إليه بقدسية عالية، وذلك لان الشعوب المضطهدة والثائرة
على حكامها سواء كانوا افراد متسلطين او مؤسسات متفردة بقرارها وتتحكم
بمصير الشعب وفي الوجهين التنفيذي او التشريعي لا تطالب إلا بالعدل
والمساواة، لأنها تعتقد بان العدالة بالنسبة إليها مسألة حياة او موت،
فحينما نفتقد العدالة تعم الفوضى ويتلاشى الوجود المجتمعي وعلى وفق ما
اشار اليه علماء الاجتماع حيث ان الثورات لا تأتي صدفة وانما لها
جذورها الممتدة والراسخة في المجتمع وثورة الشعب التونسي لم تكن وليدة
يوم حادثة حرق (بوعزيزي) لنفسه او ردة فعل عنها وانما جذوة متقدة
أشعلتها الحادثة المذكورة، ومثلها سائر الثورات في مصر ومعظم أنحاء
الوطن العربي.
وتعزى أسباب هذه الثورات دائما الى مجموعة من الأسباب منها انعدام
العدل وتعطيل القضاء إما بإلغائه والتأثير عليه او وضعه تحت جناح
الحاكم او السلطة التنفيذية، وفي ظل الأنظمة الشمولية كان القضاء غير
ذي قيمة اجتماعية او قانونية، لذلك تجد الثورات اول عمل لها بعد نجاحها
هو تعزيز وحفظ استقلال القضاء من التدخلات ويعد ذلك الاستقلال هو وجه
الثورة الناصع واهم منجز لها اذا ما تحقق، وفي العراق وبعد التغيير
الذي حصل عام 2003 وجدنا ان الشعب حاول الانتفاع من الظروف التي ادت
الى التغيير ونيل اهم مكسب له باستقلال القضاء عبر تشكيل السلطة
القضائية واستقلالها عن السلطة التنفيذية.
ومثلما موجود في جميع البلدان لابد وان تقاوم عملية التغيير من
الذين كانوا منتفعين من الأنظمة الشمولية السابقة او من الذين يحملون
ذات الافكار المتشابهة في حب السطوة والهيمنة والتفرد والشمولية،
فيعملون على تعطيل الحياة وقتل الابرياء وبعضهم يركب مطية الفساد
واخرون يقودون حملات تشكيك وتشهير بكل جديد أوجده الشعب ويسعون لإسقاطه
حتى لا يرى الشعب نور العدل وضمان حق التقاضي واجراء المحاكمة العادلة.
وهؤلاء المشككون ليس بالضرورة ان يكونوا من اتباع النظام السابق
وانما قد يكونوا من بين رجال العهد الجديد الا انهم يتطابقون مع سلوك
الدكتاتورية والشمولية من حيث التفرد والسطوة والهيمنة على مقدرات
الشعب ويسعى لان يكون البديل عن الحاكم السابق وهذا قد يكون ايضا ارتقى
موقع المسؤولية مستغلا سوء العملية الانتخابية التي اوصلته الى موقعه
عبر النظام الانتخابي بالقائمة المغلقة وبغفلة من الزمن متعكزا على اسم
رمز ديني او متعللا بموقف طائفي او اثني، ويوظف كل الممكنات المتاحة له
في تحقيق مأربه السيئة منتفعا بامتيازات الموقع الذي فيه والحصانة التي
امتاز بها مركزه الوظيفي فيعتلي المنابر الاعلامية ويتهجم على المؤسسة
القضائية ويكيل لها التهم جزافا ويعتدي على شخوصها ومنتسبيها وينعتهم
باوصاف غير حقيقية من اجل الطعن في هذه الاستقلالية وزعزعة ثقة المواطن
باستقلال القضاء ومن ثم خلق الفوضى الاجتماعية التي تقوض السلم والامن
الاجتماعي.
وارى بان هؤلاء المشككين من الذين يتفقون ويتطابقون مع سلوك
الانظمة الشمولية وزعوا الأدوار بينهم، فمنهم من قوض الأمن الداخلي
بالإرهاب والقتل والتفخيخ ومنهم من ركب مطية الفساد ليعطل مسيرة الأمة
بالنهوض والاخر تصدى لهدم ثقة المواطن بالقضاء من اجل دفعه الى اللجوء
الى العنف بدلا من القضاء حتى تعم الفوضى التي لا يقوى هؤلاء على العيش
بدونها فهي بيئتهم التي انتجتهم، وهذا التشكيك والقذف بحق المؤسسة
القضائية مثلما ذكرت في أكثر من مقال ودراسة لا يشكل اعتداء على تلك
المؤسسة وانما اعتداء على حق الانسان في وجود قضاء مستقل لان القضاء
المستقل هو حق من حقوق الانسان بموجب ميثاق الامم المتحدة والعهدين
الدوليين لحقوق الانسان، ومن اهم مبادئ استقلال القضاء هو عدم التعرض
الى الاحكام التي يصدرها القضاء بطريقة التشهير وانما القرار او الحكم
القضائي اذا ما اعتراه الخطاء او العوار القانوني فانه يصحح بطريق
الطعن فيه امام هيئة قضائية اعلى وعلى وفق الطرق التي رسمها القانون
وتصل الى سبعة مراحل في الطعن وعندما يكتسب القرار الدرجة القطعية يصبح
حجة على الناس كافة بما فصل فيه ويكون هو عنوان الحقيقة التي يجب ان
يسلم بها الجميع.
والتعرض الى الاحكام القضائية بالطريقة التي نسمع بها اليوم عبر
وسائل الاعلام فانها تشكل افعال جرمها القانون تحت طائلة قانون
العقوبات في المواد ( 229ـ 230) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969
المعدل فضلا عن المواد العقابية التي تتعلق بجرائم القذف والسب، ويتعرض
مرتكبها الى المساءلة القانونية حتى وان كان محصنا بحصانة برلمانية، اذ
من الممكن ان ترفع عنه الحصانة بطلب يصوت عليه البرلمان مثلما حصل مع
عدد من النواب وحتى ان رفض الطلب فان ذلك العضو الذي اقترف الفعل يبقى
مطلوبا للقضاء وتسري بحقه كافة الاجراءات القانونية عند انتهاء الدورة
البرلمانية لان الجرائم لا تتقادم في القانون العراقي، لذلك ادعوا
مخلصا هؤلاء البعض ان يعود الى خط المجتمع ويسير معه في موكب التقدم
والرقي، ولا اقصد ان نقف ولا نتحرك عند وقوع الخطاء بل نعالجه عبر
الوسائل القانونية وفي مجال القضاء علينا مفاتحة السلطة القضائية
والتباحث معها في حال حصول الخطاء من اجل تقويمه واصلاحه وسيجد الجميع
ان باب القضاء مفتوح على مصراعيه ولم يغلق باب القاضي بوجه المواطن او
المسؤول يوما، لاننا عند ذاك سنكون فعلا نسعى لتحقيق استقلال القضاء
وتعزيزه بدلا من المساهمة في تقويض السلم والامن الاجتماعي. |