قاض نفسك قبل مقصلة (غيوتان)

عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: صورة المقصلة ماذا تعني لك، هذه الآلة المرعبة، اخترعها رجل اسمه (غيوتان) فأطلق عليها اسمه، عرفت فيما بعد ب(غيوتين).

كان غيوتان يهيم حبا ويذوب شاعرية بمشهد الرؤوس المتدحرجة بعد انفصالها عن أجسادها. كان ذلك أيام الثورة الفرنسية الكبرى وفي عهد الإرهاب بالذات بعد أن عجز الجلادون من قطع الرؤوس بالفأس لكثرة الحصاد. لقد حلت هذه الآلة الرهيبة محل جميع وسائل الإعدام التقليدية في فرنسا فكانت مبعث رعب لا يوصف.

إذا كان المؤرخون ما زالوا مختلفين حتى يومنا هذا حول الدور الذي لعبته المقصلة في فرنسا والعالم بعد أن تدحرجت تحت شفرتها القاطعة مئات الرؤوس من رؤوس النظام البائد وأبطال الثورة على حد سواء. هذا الدور الذي اتسم بالطغيان والحقد والانتقام رد إليه اعتباره منذ أن أصبحت المقصلة أداة قصاص من كل مجرم أثيم.

كن قاض نفسك، وأرخ لها، هل تستطيع؟ بماذا ستختلف عن الآخر وهو يؤرخ للمقصلة، فهل تصنع تاريخك بنفسك أم المقصلة؟.

في شهر رمضان هذا، أريد منك أن تحول المقصلة الى أداة عدل وحق ووسيلة قصاص عادل بحق نفسك، لتكون المقصلة: (ولكم في القصاص حياة يا اولي الألباب)؟

يظن البعض بأن هذه الآلة صماء بكماء، انها ليست كذالك، لها حواس كاملة، تسمع، تشم، تنطق، تنظر، تلمس، هي ذاتها حواسك، شهواتك، قدرك الذي قادك إليها!

لكل نفس سوءاتها وعوراتها المستورة من الجانب الشهواني، هي مستودع الغرائز الأولية والنزعات الفطرية، كما أن لها من الناحية الأخرى فضائلها ومثلها العليا المستمدة من الجانب الروحاني، ما يتمثل لنا فيما نسميه بالضمير وليد آداب المجتمع الإنساني وتعاليمه، وريث ثروته المعنوية التي تجمعت على مر الأجيال والعصور منذ فجر الحياة الاجتماعية. فيه تركزت مجموعة الروادع والنواهي الوالدية والدينية والأدبية، فهو المظهر الأسمى من الطبيعة البشرية، مهبط وحي العدالة المنزهة عن كل محاباة أو مجاملة، إذا ما استيقظ الضمير كان له خطره وأصبح شديد الوطأة على النفس.

لم يكن تقسيم النفس البشرية  فتحا جديدا في تاريخ البحوث النفسية، علماء الإسلام  قسموا النفس الى مراتب ثلاث مستوحاة من القرآن الكريم: نفس سفلية ذات الشهوة، ونفس أرضية الحسية، ونفس علوية القسم المعنوي من الذات.

 كثيرا ما يلجأ، المرء في التعبير عن موقف من مواقف الكفاح النفسي بين الفضيلة والرذيلة بعبارات تنطوي على هذه النواحي الثلاث.  يفصح المرء عن وجدانات نفسه بالعبارات الآتية إما لفظا أو معنى: (لقد أمرتني نفسي أن..) أو (والنفس أمارة بالسوء).. غير ان وازعا من ضميري نهاني. انظر كيف ان مظاهر النفس الثلاثة قد تجلت بصورة واضحة في هذه العبارة المألوفة والتي جرت على ألسنة الناس مجرى العرف في مجتمعاتنا.

هذه المظاهر الثلاثة كل منها يعبر عن ناحية من نواحي الطبيعة البشرية، هي نواحي الشهوة والحس والمعنى، عند الإنسان الطبيعي والمعتل، المبدع والجاف، المؤمن والكافر، الخير والشرير. لقد أصبح واضحا لك، ان في داخلك إنسان حي آخر يوهمك ويغريك ويبعدك عن الله وفضائله في الدنيا والآخرة.

صحيح أن المشاعر تغدو وتروح دون أن ندري لذلك سببا، صحيح أن للإنسان حقا في أن يعرب عن احساساته المختلفة، لكن الناس في أغلب الأحايين يقدمون على أمور تسبب لهم الأسى ثم نراهم بعد ذلك يقولون ما كان بوسعي أن اساعد نفسي. ان بوسعنا جميعا أن نساعد أنفسنا، لكن ذلك يجب أن يسبقه اتخاذ قرار أساسي: هل أنا مع نفسي أم ضدها؟.    

إذن، اجعل هذا اليوم، وهذا الشهر هو آخر شهر في حياتك!، ليكن ضميرك مقصلتك وفرصتك في هذه المحكمة الرمضانية الرحمانية، بمعونة الله. ضع هذا الإنسان الشهواني الرابض في ضميرك، المتربع على عرش قلبك، الذي ملأ جيبك وسمعك وزين لبصرك النساء،  ضعه تحت (غيوتينك)، ثم اقصله، اقصله، حتى يتدحرج رأسه بين أقدامك الثابتة بدون أدنى ارتجاف، وإلا أنت مترجرج في قرارك أمام عظمة الله، وتمثل عليه دور القديس سبحانه وتعالى، وعائد الى رغائبك القذرة بدون استحياء من الله وشهره المبارك.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 11/آب/2011 - 10/رمضان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م