إجعلْ نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك

 

شبكة النبأ: النفس هي حجر الزاوية في البناء الفكري والمادي للانسان، فإن كان بناؤها سليما سوف تجعل من شخصية الانسان من ارقى الشخصيات واكثرها نجاحا في التفكير والسلوك، وإن حدث العكس، فإن الانسان سينزلق في منحدر الانحراف وتتحطم شخصيته المتوازنة ويتحول الى الة الاجرام وما شابه، لذا لابد أن يتم بناء الشخصية بصورة سليمة، هنا يرد التساؤل التالي: هل يمكن أن نُطلق على عملية بناء الشخصية صفة (الفن) وهل هي فعلا نوع من الفنون التي تحاول أن تشذِّب وتهذب سلوك وأقوال الانسان كي يصبح عامل تطور وازدهار في المحيط المجتمعي الذي يتحرك فيه؟ ولكن قبل ذلك نتساءل كيف يبني الانسان شخصية اجتماعية جذابة، وما هي العناصر التي تشكل عوامل الجذب للآخرين، وكيف يتحصَّل عليها لكي تصبح جزءً متأصلا في ذاته ولا تستند الى التصنّع والاقحام في أقوالها وسلوكها؟.

في هذا الصدد يقول أحد الكتاب: (لو أردنا أن نضع لافتة كبيرة في مدخل هذا الموضوع، فهل سنجد أفضل وأعمق وأكثر إيحاءً من اللاّفتة التالية:

 يا بنيّ ! اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تَظلِم كما لا تحب أن تُظلَم، وأحسِن كما تحبّ أن يُحسَن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من النّاس ما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك)*.

ولو اردنا أن نبحث في فقرات هذه الكلمة سنصل الى مقومات الشخصية الجذابة حيث تصبح النفس معيارا للتمايز والتشابه مع الآخرين، ثم المقوم الآخر الذي يتعلق بحب الذات، فإذا تمكن الانسان من أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فقد قفز في هذه الحالة درجات عالية فوق الأنانية المقيتة، واستطاع ان يصل الى مرتبة الإيثار ونكران الذات التي تقربه الى الناس بمختلف مشاربهم وجذورهم وصفاتهم، وسيرادف هذا السلوك كمحصلة متوقعة أن يكره الانسان لأخيه ما يكرهه لنفسه ويجنب الآخرين مساوئه إن كانت هناك مساوئ بل ويصد عن الآخرين انواع السوء بغض النظر عن مصادرها وهذا بدوره سيشكل عامل جذب جديد لشخصيته من  الآخرين.

ثم تبتعد هذه الشخصية الجذابة عن ظلم الآخرين، لأنها لا تحب أن تُظلّم، وبذلك يتوفر لها عنصر جذب جديد، لاسيما انها ستُحسن للآخر كما تحب أن يُحسَن لها ويرى الكاتب نفسه بأن هذه الوصية تقول لنا: (اجعلوا المقياس بينكم وبين النّاس أنفسكم) فالإيجابيّ بالنسبة لها إيجابيّ بالنسبة لهم، والسلبيّ بالنسبة لها سلبيّ بالنسبة لهم . فلو أخذنا بهذه النصيحة الذهبية، ترى ماذا يمكن أن نحصل عليه؟

1 ـ بالعمل بهـذه القاعدة نصبح العادلين، والعدل هو غاية الانسانية كلّها، فليس خلق أرفع وأجمل وأنفع من العدل يسود بين الناس. فأنت حسب هذه القاعدة لا تنتظر العدل يأتيك من الآخرين، بل إنّك تبادر إليه لتكون اوّل عامل به، وبطبيعة الحال فإنّ الخير يستجلب الخير، وانّ العدلَ يدفع إلى عدل مثله.

2 ـ بالعمل بهذه القاعدة الثمينة، نكون قد حوّلنا ساحة الحياة الواسعة من ساحة مزروعة بالألغام والمتفجرات، إلى ساحة تكثر فيها الواحات الجميلة والخمائل النضرة، أي أ نّها تتحوّل إلى جنّة مصغّرة.

فحين يكون الآخرُ ـ أخاً وصديقاً وزميلاً أو أيّ إنسان آخر ـ نصب عيني .. أستذكره في غضبي ورضاي، وأعرف ما يزعجه ـ من خلال ما يزعجني ـ فلا آتي به، وأعرف ما يحبّه من خلال ما أحبّه وأرضاه، فأفعله، فإنّني أكون أحد الساعين إلى تحويل جفاف الحياة إلى جنّة وارفة الظِّلال، تجري فيها الأنهار، وتحلق الفراشات، وتعبق الأزاهير .

يضاف إلى ذلك، أنّ هذه القاعدة ليست إسلامية فقط، إنّها إنسانية أيضاً، والاسلام ـ كما هو معلوم ـ إنسانيّ في كلّ ما جاء به، فحتّى أبناء الديانات الاُخرى يدينون بهذه القواعد الأخلاقية والاجتماعية، بل إنّ بعض أخصّائيّي علم النفس والاجتماع يدعون إلى الأخذ بها في مجال التهذيب الاجتماعي وتطوير العلاقات الإنسانية .

ولسنا نأتي بجديد حين نؤكد إنسانية الاسلام وسعة تعاليمه السمحاء التي لا تستثني أحدا، ولعل المنحى الانساني الذي يؤطر ويؤثث طروحات الاسلام شكل سمة عظمى لهذا الدين الذي يهدف الى الاصلاح الانساني قبل أي شيء آخر، من خلال تهذيب الشخصية ومنحها سمات الجذب والجمال وحب الخير للجميع وفي هذا الجانب يقول مدير معهد العلاقات الإنسانية الأهلي في نيويورك -جيمس بندر-: إن القاعدة الاُولى التي وصفها الحكماء هي تلك التي تمثّلت في القول الخالد: أحبب لأخيك ما تحبّ لنفسك.

ويدعم هذا التوجه قول آخر لصاحب كتاب -كيف تكسب الأصدقاء ؟!- (دايل كارنيجي): حيث يقول «أظهر ما استطعت من اهتمام بالناس، فهو ثروتك التي تزداد نموّاً كلّما أنفقت منها».

ولعل المشاعر الانسانية الصادقة غير المصطنعة تحقق للانسان حضورا رائعا في محيطه وتجعله ذا شخصية جاذبة للجميع، وهنا سينطبق هذا القول لأحد الحكماء على من يتمتع بحضور إنساني كهذا: إن «حسّاد أصحاب العقول كثيرون ، أمّا أصحاب القلوب فأصدقاؤهم كثيرون».

ولذلك إذا سادت اجواء الجفاف في العلاقات الانسانية الحميمة سيصح هذا القول الذي شاع بين ادباء الغرب في مرحلة سابقة (الجحيم هم الآخرون) فاعلا ومنطبقا على الواقع الاجتماعي الخالي من مشاعر التقارب والتآلف والمحبة وما شابه .

ويبقى الانسان ذو الشخصية الإسلامية الجذابة هو الاوفر حظا من غيره بالنجاح في محيطه كونه يوظف فن التعامل مع الآخرين لصالحه في جميع مجالات الحياة.

...............................

* من وصية الإمام علي بن ابي طالب لولده الحسن عليهما السلام.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 10/آب/2011 - 9/رمضان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م