يقول ابن خلدون في مقدمته: " في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة
الملك...، ورئيسهم محتاج إليهم غالبا للعصبية التي بها المدافعة، فكان
مضطرا إلى إحسان مَلَكتهم وترك مراغمتهم، لئلا يختل عليه شان عصبيته،
فيكون هلاكه وهلاكهم، وسياسة الملك والسلطان تقتضي أن يكون السائس
وازعا بالقهر وإلا لم تستقم سياسته ".
قبل الدخول في جدلية هل نظام الحكم في الإسلام يقوم على الشورى أم
الديمقراطية أم ماذا..!؟، علينا القيام أولا بقراءة تاريخية روائية
موضوعية، أيٌ نظام أٌنتهج مع وفاة الرسول (ص).
مع وفاة الرسول (ص)، يتولى السلطة أبوبكر بن قحافة دون توصية من
الرسول الكريم، والدليل أنه لم يحتج بها في سقيفة بني ساعدة، بل احتج
بحديث " الأئمة من قريش " (1)، والاحتجاج ليس من بعد ديني، بل غايته
العصبية القبلية، أي أن العرب لا تدين إلا لقريش، ولذا قال أمير
المؤمنين (ع): " استدلوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة "، وقال عمر بن الخطاب
أثناء خلافته: " إن بيعة أبي بكر كانت فلتة "، رواه الإمام أحمد -
الفتح الرباني-، الطبري - تاريخ الأمم والملوك -، واستخدم أبو بكر يوم
سقيفة بني ساعدة ورقة:" منا الأمراء ومنكم الوزراء "، والأمر بيننا
وبينكم كقد الأبلمة "، لترضية الأنصار، ولم يحتج أن الرسول (ص) أوصاه
بالأمر من بعده، بل ما تثبته الرواية في الملل والنحل:" فأول تنازع في
مرضه عليه السلام فيما رواه محمد بن إسماعيل البخاري بإسناده عن عبد
الله بن عباس، قال: لما اشتد بالنبي (ص) مرضه الذي مات فيه، قال:
ائتوني بدواة وقرطاس اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي، فقال عمر: قد غلبه
الوجع حسبنا كتاب الله، وكثر اللغط، فقال النبي (ص): قوموا عني لا
ينبغي عند التنازع. قال ابن عباس: الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين
كتاب رسول الله "، فالوصية لا مصداقية لها في تولي الخلافة حسب عمر،
وأين كتاب الله في سقيفة بني ساعدة!!.
روى البخاري: (إن رسول الله كان يغضب، فيلعن، ويسب، ويؤذي من لا
يستحقها، فدعا الله أن تكون لمن بدرت منه زكاة وطهورا)، لتبرئة الطليق
بن الطليق جٌعِل الرسول يلعن ويسب ويؤذي!!، وروى البخاري ومسلم في
صحيحهما: (إن بعض اليهود سحروا الرسول حتى ليخيل إليه أنه يفعل الشيء
وما فعله)، فالسنة النبوية محل شك!!، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما:
(أن النبي قد سمع رجلا يقرأ القرآن في المسجد، فقال الرسول رحمه الله
أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها من سورة كذا)، فالقرآن محل شك!!، في صحيح
البخاري: " قال النبي صلى الله عليه وسلم رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا
بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة فقلت من هذا فقال هذا بلال ورأيت
قصرا بفنائه جارية فقلت لمن هذا فقال لعمر فأردت أن أدخله فأنظر إليه
فذكرت غيرتك فقال عمر بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار"، هل توجد
جواري بالجنة، وهل الرسول يعمل من منطلق الخوف من عمر!!؟؟، وهل هذه
أخلاق الرسول (ص)!!، من هاته الأحاديث الموضوعة نعرف ماذا فعلت السياسة
والأهواء بقدسية الرسول العظيم، الذي تنتهي مهمته مع تبليغ الرسالة،
وهو بشر مثله مثل بقية البشر!!، رغم المخالفة الصريحة للقرآن
(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا
يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُو إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 1-4])،
(وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
[الحشر: 7])، (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44])،
والعجيب أين أفعال وأقوال الخليفة الثاني من قوله: حسبنا كتاب الله!!،
(وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: 91]).
قال عمر بن الخطاب: (ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر)، وروى
الطبري: (إن أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك فبايعوا أبا
بكر)، وقال الزبير بن البكار: (فقوي بهم أبو بكر)، فأعراب أسلم (2)
لعبت دورا عسكريا حسم به الصراع في سقيفة بني ساعدة.
أعقب تولية الخليفة الأول صدامات منها مقتل سعد بن عبادة، روى
البخاري: (قال قائل: قتلتم سعد بن عبادة، فقال عمر: قتله الله)!!،
الهجوم على دار بنت رسول الله التي أعتبرها شاعر النيل منقبة للخليفة
الثاني:
وقولة لعلي قالها عمر***أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرقت دارك لا أبقي عليك بها***إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص يفوه بها***أمام فارس عدنان وحاميها
الفروسية العمرية ما عٌرِفت إلا في عالم الدونكشوتية، فالرجل ما عرف
عنه ضرب سيف ولا طعن رمح، في بدر هرب من العاص بن أبي أحيحة، يوم
الخندق أين كان فارس عدنان لما أخذ عمرو بن ود يجبن المسلمين ويتحداهم
للمبارزة، ولى دبره يوم أحد، وخيبر، غزوة ذات السلاسل الأولى، وحنين
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَو مُتَحَيِّزاً إِلَى
فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ[الأنفال: 16-15]).
قال عمر مخاطبا عليا: إنك لست متروكا حتى تبايع!، فقال له علي: "
إحلب حلبا لك شطره واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا "، قال عمر
بايع، فقال علي إن لم أبايع فمه؟ قال عمر: والله الذي لا إله إلا هو
لنضربن عنقك!!، قال علي: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله!! فقال عمر:
أما عبد الله فنعم وأما أخو الرسول فلا!! "، يقول الرسول (ص): " إن هذا
أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا "، ويقول (ص): " يا أيّها
النّاس أوصيكم بحبِّ ذي قرنيها أخي وابن عمّي عليٍّ بن أبي طالب، فإنّه
لا يُحبّه إلاّ مؤمنٌ، ولا يبغضه إلاّ منافقٌ "، الرسول يقر أخوة أمير
المؤمنين، وابن الخطاب يلغيها!!، بل ويتوعده بقطع رقبته!!، أين يصنف
هذا الحدث، ديمقراطية أم شورى.
تموت الزهراء عليها السلام وهي غاضبة على الخليفة الأول، ويدفنها
أمير المؤمنين ليلا سرًا، في صحيح البخاري: "... فغضبت فاطمة بنت رسول
الله (ص) فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول
الله (ص) ستة أشهر...، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا ولم يؤذن بها
أبا بكر وصلى عليها "، والرسول يقول: " من مات وليس في عنقه بيعة مات
ميتة جاهلية " في صحيح مسلم، " من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية " في
مسند أحمد، " من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان
شبرا مات ميتة جاهلية " في صحيح البخاري، والنتيجة العقلائية: إما
فاطمة ماتت ميتة جاهلية!!، وإما خلافة أبي بكر غير شرعية، أو المخرج
الثالث المرفوع هو حصانة أبي بكر عند الله!!، وهذا استحالة.
في صحيح البخاري: " يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين
أو سيدة نساء هذه الأمة "، " فاطمة سيدة نساء أهل الجنة "، " فاطمة
بضعة مني فمن أغضبها أغضبني "، في سير الأعلام: عن أبي هريرة، نظر
النبي (ص) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، فقال: أنا حرب لمن حاربكم
وسلم لمن سالمكم، وفي سنن الترمذي: عن ابن عباس، قال رسول الله (ص):
أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني أهل بيتي بحبي، وفي سير
الأعلام: عن أبي سعيد قال رسول الله (ص) لا يبغضنا أهل البيت أحد إلا
أدخله الله النار.
يٌضرب بوصية الرسول (ص) في أهله عرض الحائط، يغضب (ص) لريحانته، لا
معنى لغضبه أمام اجتهاد القوم!!، وأما حربه لهم، فالرسول بالنسبة لهم
ذهب إلى ربه، ولا معنى لحربه!!.
يقول الإمام في خطبة الشقشقية: " أما والله لقد تقمصها فلان -
أبوبكر - وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا ينحدر عني السيل
ولا يرقى إلي الطير. فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا وطفقت أرتئي بين
أن أصول بيد جزاء أو أصبر طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها
الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى.
فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا. أرى تراثي نهبا حتى مضى الأول
لسبيله فأدلى إلى فلان بعده - عمر - فيا عجبا. بينا هو يستقيلها في
حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته. لشد ما تشطرا ضرعيها فصيرها في حوزة
خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسها ويكثر العثار فيها والاعتذار منها فصاحبها
كراكب الصعبة أن أشنق لها خرم وأن أسلس لها تقحم. فمنى الناس - لعمر
الله - بخبط وشماس وتلون واعتراض فصبرت على طول المدة وشدة المحنة. حتى
إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم. فيا لله وللشورى متى
أعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر لكني أسففت
إذ أسفوا وطرت إذ طاروا فصغى رجل منهم لضغنه. ومال الآخر لصهره مع هن
وهن... ".
فعمر يتولى الخلافة عقب أبو بكر بتوصية إلزامية منه، مكافأة للدور
البارز الذي لعبه معه في سقيفة بني ساعدة واستكمالا للسيناريو المخطط
له سلفا، وعلى المسلمين السمع والطاعة، هل هذا يسمى شورى، أم اجتهاد
معصوم، وكيف يكون اجتهادا لمعصوم، وهو يعترف أن الشيطان يعتريه، في
تاريخ الطبري: "... ألا وإن لي شيطانا يعتريني فإذا أتاني فاجتنبوني لا
أؤثر في أشعاركم وأبشاركم... ".
عثمان يختطف عرش الخلافة تتويجا لبني أمية، بسيناريو غريب عجيب!!،
وحينها صاح أبو سفيان بعبارته المشهورة:" تلقفوها بني أمية تلقف الكرة
فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا نار"، ولذا قال أمير المؤمنين
عليه السلام فيهم: "والذى فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن
استسلموا، وأسرُّوا الكفر، فلما وجدوا أعواناً رجعوا إلى عدواتهم منا..
".
قبل نسج مسرحية الشورى العمرية!!، قال ابن الخطاب: لوكان أبو عبيدة
حيا لوليته!!، هل هذه شورى أم استبداد بالرأي؟!، لو كان سالم مولى أبي
حذيفة حيا لوليته!!، وهل سالم مولى أبي حذيفة قرشي!!، أليس هذا مخالفة
صريحة للسنة النبوية الشريفة، في صحيح مسلم: " لا يزال الدين قائما حتى
تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش"، ومخالفة
للعقد المبرم في سقيفة بني ساعدة.
نص المسرحية أن تكون الشورى بين ستة باختيار فردي، وانتقائية تدعو
إلى أكثر من تساؤل!!!، وستة بالضبط!!، في حالة اتفاق الأكثرية على
واحد، وعارضت الأقلية ضربت أعناقهم!!!، ولو اتفق ثلاثة منهم على رجل
وثلاثة على آخر كانت الكلمة لمن؟ لعبد الرحمن بن عوف!!!، ومن خالف
قتل!!!، ومدة المشاورة ثلاثة أيام!!، فإن مضت ولم يعينوا أحدا قتلوهم
عن آخرهم!!!، وصهيب الرومي هو الرقيب عليهم، وهناك خمسون رجل واقفون
بأسيافهم، ينتظرون أن يخالف أحدهم فيضربوا عنقه بأمر من عبد الرحمن بن
عوف!!!، هل هذه: شورى، ديمقراطية، هيستيريا!!!.
عثمان وافق أن يكون خليفة على أن يسير بالناس على الكتاب والسنة
وسيرة الشيخين، بينما علي (ع)، رفض سيرة الشيخين، إذن: سيرة الشيخين
مخالفة للكتاب وللسنة، وإلا لماذا تطرح كعنصر ثالث!!!، ثم فرضت البيعة
على علي (ع)، وإلا قطع عنقه!!!، يقول الرسول (ص): "عليٌّ مع الحقِّ،
والحقُّ يدور معه حيث دار، ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض"، الرسول
لا يقول علي يدور مع الحق حيث دار فقط، بل الحقُّ يدور معه حيث دار،
ولكن مع عمر وبن عوف كلام فيه نظر!!!.
كل من أبوبكر وعمر وعثمان لم يتم تعيينه بنص من الرسول الكريم (ص)،
ولا نظام شورى، وإن سلمنا جدلا أن هناك نظام شورى، فأين النصوص النبوية
الثبوتية والإثباتية له، حيث على المستوى التطبيقي الشورى تبدأ بفلتة،
ثم بقرار أحادي، ثم بمسرحية غريبة!!!، مع التهديد والتنفيذ بقطع
الأعناق!! أين حرية الرأي والرأي الآخر؟؟، وهل المخالفة بالرأي تستوجب
قطع الأعناق، لماذا كل السلطات مستجمعة في شخص الخليفة، وكل القرارات
بيده، ما دام ليس معصوما، والشورى هي نظام الحكم؟!!.
لقد كانت الصحابة تكثر الأسئلة على الرسول (ع)، حتى فيما لا ينبغي
أن يسأل، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ
أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا
حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا
وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [المائدة: 101])، والرسول غطى كل الجوانب
الحياتية للفرد المسلم، حتى عند دخوله لبيت الخلاء - ماذا يقول، وماذا
يفعل -، فكيف يسكتٌ، وتسكت الصحابة عن سؤال جوهري مصيري: كيف يكون نظام
الحكم بعده؟!.
إن إصرار الرسول (ص) على إنفاذ جيش أسامة قبيل وفاته، وكان كثيرا ما
يردد وهو على فراش الموت: أنفذوا بعث أسامة، أنفذوا بعث أسامة، وكان كل
من عمر وأبو بكر تحت إمرة أسامة بن زيد في هذا الجيش، وتخلفا عن هذا
الجيش، رغم أن الرسول (ص) لعن كل متخلف!!، والتساؤل لماذا إصرار الرسول
(ص)؟ وكيف يهتم الرسول في هذا الظرف الصعب المتربص بالرسالة والمجتمع
الإسلامي الناشئ بإنفاذ بعث أسامة، ويترك أمر الأمة بعده هملاً!!، ولكن
بالعودة إلى البحث التاريخي والروائي ينحل اللغز، رزية الخميس وقول أبن
الخطاب أن الرسول يهجر!!، وقوله حسبنا كتاب الله، ومنعه الرواية
والتدوين لسنة رسول الله (ص) بعد وفاته!!.
بعد البحث الروائي لا نجد سواء على مستوى التطبيق أو البحث الروائي
– سنة الرسول (ص) – نظاما للحكم عنوانه الشورى، والأكيد لا وجود لنظام
ديمقراطي، تبقى هالة القدسية والعصمة التي أصبغها موروث الإسلام
السلطوي على كل من الخليفة الأول والثاني، تعطيهم الحق في جعلية
الأحكام الاعتبارية وإبرازها، فتكون السلطة المطلقة لهم تحصيل حاصل،
إلا أن الواقع التاريخي يكذب ذلك بقطعية جازمة، فعلى سبيل المثال
والبرهان بمثال مضاد: أبو بكر لم يعرف حكم الكلالة، وقال: أقول فيها
برأيي، فإن يك صوابا فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، وقضى في
الجد بسبعين قضية، وأما عمر قضى في الجد بمائة قضية!!، وإن قبلنا جدلا
على فرض المحال بمشروعيتهم في الخلافة بالمفهوم القرآني، فعلى الإسلام
السلطاني أن يرضخ لأطروحة إمامة أهل البيت.(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً [الأحزاب: 33]).
لقد نص الرسول (ص) على علي (ع) بخلافته إلا أن حرمانه من أحقيته في
الخلافة من طرف عمر بن الخطاب، أفقد الإمام مشروعية الخلافة كنص ديني
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ
قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي
قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124])، وفهما
قرآنيا، واعتبر كلام الرسول (ص) في هذا الأمر مجرد أنه يريد أن يؤثر
ابن عمه، ومع وضع الإمام والإمامة في قفص مسرحية الشورى والأمر بقتله
في حالة عدم الامتثال يأتي تقزيمه عليه السلام ويصبح صحابي كبقية
الصحابة أو دون ذلك، والسر في ذلك أن عمر بن الخطاب يعيش الموروث
الجاهلي المتمثل في الحسد أولا (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا
آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً [النساء:
54])، ومعتقد أن بني هاشم هم السدنة ولبني أمية الحكم والسياسة، وذلك
لكونه من عدي القبيلة المستضعفة، والتي لا تملك حقا سياديا في قريش،
وبحكم العصبية القبلية يفرض عليه أن لا يخرج عن هذا العرف، في البداية
والنهاية لابن الأثير، والاستيعاب لابن عبد البر يقول عمر عن معاوية:
"إنه فتى قريش وابن سيدها "!!، وهذا ما جعله يمهد لعودتهم عن طريق
تولية الملعون على الشام وتثبيته بها، واستخلاف عثمان من بعده.
على مستوى الميثولوجيا جعل من كعب الأحبار مستشارًا، وتميم الداري
قاصًا في مسجد الرسول (ص)، لتجتمع الجاهلية ورواسبها مع الانحرافات
والأساطير اليهودية المسيحية، فالجاهلية التي يجسدها ابن الخطاب
وأقرانه بيئتا ومجتمعا تمثل من جانب إعجاز نبوة الرسول الأعظم (ص)،
لكون قريش وما يحيطها من أعراب، معزولون عن كل الحضارات وليس لهم
احتكاكات بالديانات السماوية، عقولهم جد ضحلة على المستوى الثقافي
والفكري وغارقة في السذاجة والجِلفة، فابن هذا المجتمع يصنع صنما من
التمر صباحا ليأكله أن جاع مساءًا، يئد ابنته خوفا من العار، يتعصب
لقبيلته بجاهلية رعناء، وتسال الدماء من أجلها لا لشيء داحس تسبق
الغبراء، وتنبثق من هذا الوسط الرسالة المحمدية التي حيرت ألباب
العقول، يستحيل إلا أن تكون رسالة سماوية، ومن جانب آخر قمة الإبتلاء
لأهل البيت يٌغتصب حقهم فتهمش الحكمة ويبتعد عن الصراط المستقيم،
فالذهنية الجاهلية لا تعرف من الدين إلا قشوره.
قال أمير المؤمنين في نهج البلاغة: " لما قبض الله نبيه، وكنا أهله
وورثته وعترته وأولياءه من دون الناس لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع
في حقنا طامع، إذ انبرى لنا قومنا، فغصبونا سلطان نبينا، فصار الأمر
لغيرنا، وصرنا سوقة، يطمع فينا الضعيف، ويعتزر علينا الذليل، فبكت
الأعين منا لذلك، وخشيت الصدور، وجزعت النفوس، وأيم الله لولا مخافة
الفرقة بين المسلمين وأن يعود الكفر ويبور الدين لكنا على غير ما كنا
عليه "، وذنب علي عليه السلام أنه ليس ابن هذه البيئة، الرجل يقول
اسألوني قبل أن تفقدوني بلا سائل؟ فهذه البيئة نقمت منه باسم الثأر
للعصبية الدموية القبلية، وما عرفت حق قدره لسبب بسيط: ملكات العصبية
الجاهلية، (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50]).
يقول تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ [الشورى: 38])، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ
لَهُمْ وَلَو كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ
حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي
الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ
يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159]).
إن الاستبداد بالرأي صفة سلبية، والرسول الكريم على خلق عظيم
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4])، ومنزه عن الصفة
السلبية، والإيجاب هو المشورة، والمشورة ليست في الأحكام التشريعية، بل
من حيث الممارسة العملية، وهذا ما يجعل كل فرد في المجتمع الإسلامي
يقوم بعملية بنائية، من خلال التحفيز على النماء الفكري والارتقاء
العقلي، وروح المبادرة، وتكوين شخصية معتدة بنفسها، لها القدرة في
مواجهة الأزمات وإيجاد الحلول المناسبة، يقول العلامة الطباطبائي في
تفسير الميزان: " وكيف كان ففيه إشارة إلى أنهم أهل الرشد وإصابة
الواقع، يمعنون في استخراج صواب الرأي بمراجعة العقول فالآية قريبة
المعنى من قول الله تعالى: "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" -
الزمر: 18"، وذهب الإسلام السلطوي إلى تفسير الشورى في القرآن على أنها
نظام حكم!!، وبالاستقراء التاريخي والروائي لم نشهد هذا النظام سواء
على مستوى التطبيق، أو النصوص الروائية، بل هذا الفهم خالف القرآن
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً
[الأحزاب: 36])، حيث ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي (ص)، أن الرسول
أوصى لعلي بن أي طالب (ع) بالخلافة من بعده، في مسند أحمد: عن البراء
قال: كنا مع رسول الله (ص) في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلوة
جامعة، وكسح لرسول الله (ص) تحت شجرتين فصلى الظهر، وأخذ بيد علي (رض)
فقال: ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم (3) قالوا: بلى. قال:
فأخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد
من عاداه. قال: فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت
وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.
ورواه بسند آخر، وفي مسند احمد:" عن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص)
قال: إني أوشك أن أدعى فأجيب واني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي،
كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف
الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروني بم
تخلفوني فيهما. وروى قريبا منها، وفيها تارك فيكم خليفتين ". (4)
إن الإنسان يعيش في كون تحكمه النواميس الإلهية (الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن
تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ
الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُو
حَسِيرٌ [الملك: 3-4])، وهداية تكوينية أودعها الله فيه (فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 30])، (قَالَ
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:
50])، فعلى الإنسان العاقل أن لا يقف في الاتجاه المعاكس لنظام الخلقة
والفطرة، حتى لا يكون مآله الفساد والمهلكة، ولذا فنظام الحكم الإسلامي،
يتحرك في فلك هذا النظام، والشورى تشكل روح الجماعة التي تلغي
الاستقلالية التامة للفرد، فتكون الحلقة الثانية التي تضع المعادلة
التكاملية في فاعلية المواهب والأفكار، دون إلغاء عمل الفرد في حيزه
القائم على أساس التقوى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ
بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا
وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27])، والمجتمع تشمله
حلقة أوسع وهي الولاية التي تحميه من الزيغ والانحراف، والولاية تخضع
بدورها للثابت المتكامل من نظام الفطرة والخلقة والتشريعات النابعة من
الكتاب والسنة، وتؤسس للمتغير الذي يفرضه الزمان والمكان أحكامه،
والولاية على نوعين مطلقة وهي غائبة بغياب الإمام المنتظر عجل الله
فرجه (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ
مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:
7]) (4)، وولاية مقيدة تنوب الولاية المطلقة في المجال التنفيذي
إنطلاقا من الاجتهاد الاستنباطي، وفي حالة تعدد الآراء يفصل التصويت في
تحديد الرأي القابل للتنفيذ، ليعطي ديناميكية وفاعلية أقوى، لأنه
يتماشى مع الرغبة الشعبية التي تلعب حقول العلوم الاجتماعية والنفسية
في إعدادها ثقافيا وسلوكيا، وهذا يشبه الديمقراطية الحديثة إلى حد كبير،
إلا أن الخلل في الديمقراطية دستورها الوضعي الذي تحدث فيه انحرافات عن
نظام الفطرة والخلقة (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان: 43])، (فَإِن لَّمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50])،
بخلاف الحكم الإسلامي المحمدي الأصيل لا الإسلام السلطوي.
عٌرف الشعر العربي في الجاهلية بعدم الوحدة في الموضوع، والشتات في
الأفكار السطحية وغياب البناءات الفكرية، والبعد التام عن الروح
الحضارية التي تحمل بين جنباتها تفسيرات عميقة حول الله، الإنسان،
الكون، وهول القداسة للموروث الذي أفرزه الإسلام السلطوي، والانتصار
للمذهب بأي ثمن ولو على حساب الحق، جعلت من أبناء هذه المنظومة في تيه
حول طرح سياسي، اقتصادي، اجتماعي مستخلصا من روح القرآن في قوالب
محمدية أصيلة، بعيدة عن التعصب (فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ
فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس:
32])، فالإسلام السلطوي مثله كمثل قربة مهترئة حار فيها أصحابها، كلما
سدوا ثقبا، تفتقت ثقوب، تناقضات في تناقضات، في زمن انتهى فيه تسخيف
العقول.
[email protected]
..............................................
(1) في صحيح البخاري بسنده إلى جابر بن سمرة قال:
سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول:
(يكون اثنا عشر أميرا) فقال كلمه لم أسمعها، فقال
أبي أنه قال: (كلهم من قريش).
سؤال يفرض نفسه: من هم الاثنا عشر أمير؟؟؟!!.
(2) يقول تعالى: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ
الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى
النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم
مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة: 101]).
يقول ابن خلدون عن الأعراب في مقدمته: " فصارت طبيعة
وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران. هذا حالهم على العموم.
وأيضا فطبيعتهم إنتهاب ما في أيدي الناس، وأن رزقهم في ظلال رماحهم...)
".
(3) (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم
مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً [الأحزاب: 6]).
(4) راجع التفاصيل في كتاب الغدير.
(4) الولاية المطلقة ليست محصورة في النظام السياسي،
فالإمام علي عليه السلام أن حرم من أدائه السياسي، فلا يوجد أحد على
البسيطة يحرمه الولاية والهداية التكوينية، قال الإمام الصادق (ع): لو
بقيت الأرض بغير إمام لساخت، وقال الإمام الباقر (ع): لـو أن الإمام
رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله. |