الواقع السياسي العراقي يشهد توتراً متصاعداً بين النخب والقوى
السياسية بسبب الخلافات المتجذرة التي عرفت ترحيلاً ولم تعرف حلاً منذ
سقوط الدكتاتورية عام 2003م،.. ويتردد وبشكل علني هذه المرة العزف على
نغمة (التوازن) العرقي الطائفي في تشكيل بنية الدولة العراقية الحالية
التي يشكو الجميع من اختلال بنيتها على مستوى التمثيل المؤسسي وصناعة
القرار وإدارة الحكم.
* الدولة العراقية ومبدأ التوازن
منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة لم تعرف الأدبيات السياسية لقوى
السلطة شيئاً اسمه (التوازن)، رغم أنّ الدولة العراقية لم تعرف التوازن
طيلة عمرها التمييزي، فقد كانت مسمى دولة تم ابتلاعها من قبل سلطات
عائلية أو عسكرية أو حزبية قامت على وفق أسس عرقية طائفية واضحة. فالكل
يعلم بنية الدولة العراقية التقليدية والتصنيف (العرقي الطائفي الإثني)
لمواطنيها على مستوى مراكز القرار ومؤسسات الدولة السياسية والعسكرية
والتعليمية..الخ، وكان كل مَن يقول بالإقصاء ويشكو من التمييز يوصف
بالشعوبية والانفصالية طيلة 82 عاماً من عمر الدولة العراقية القلق
وحتى سقوطها المدوي عام 2003م،.. ولعل الكثير من سلبيات الواقع الراهن
إنما هي نتاج لممارسات الدولة العراقية التمييزية التي قامت واستمرت
على وفق مشروع (دولة المكوّن) وليس مشروع (دولة المواطنين) المتكافئين
في الحقوق والواجبات.
وللتاريخ، كان (التوازن) خطيئة الدولة العراقية الأهم، فشعور
المواطنين بالتمييز والإقصاء والحرمان أنتج ذاكرة مجتمعية وسياسية
سلبية تجاه مشروع الدولة ذاته، وجذر الانشطارات في بنية الهوية الوطنية،
وصادر الإحساس بالانتماء الوطني، وضخم الهويات الفرعية العرقية
الطائفية على حساب الهوية الوطنية،.. إنّ اختلال التوازن تعبير جلي
لفشل المشروع الوطني للدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921م.
بعد 2003، وبدل أن يتحقق التوازن من خلال مبدأ المواطنة التي تضمن
رفع التمييز وإقصاء الاستبعاد.. تم اللجوء للديمقراطية التوافقية التي
تؤسس كيانها على مبدأ المكوّن العرقي الطائفي، وتم إدخال مشروع الدولة
في نفق التوافقات والمحاصصات العرقية الطائفية، فخلق لدينا مبدأ (توازن
المكونات) في الاعتراف والامتياز بدل مبدأ (توازن المواطنين) في الحقوق
والواجبات.
* الحق مع مَن يدعي التوازن
الحق كل الحق لمن يقول بضرورة إجراء توازن عرقي طائفي في بنية
القرار والمؤسسة الرسمية للدولة العراقية الحالية ما دامت الديمقراطية
التوافقية (التي تؤسس الدولة على وفق مبادىء المكوّن والتوافق
والمحاصصة العرقية الطائفية) هي المعتمدة في العملية السياسية الجارية،
وما دام الدستور العراقي قد أقر مبدأ التوازن ولو على صعيد القوات
المسلحة والقوى الأمنية كما جاء في المادة (9 أ): (تتكون القوات
المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب العراقي، بما يراعي
توازنها وتماثلها دون تمييز أو إقصاء...الخ)،.. نعم لهم الحق كل الحق
في المطالبة بالتوازن كلما اختلت المعادلة ومالت الكفة لهذه القومية أو
تلك الطائفة، فهذا حال الدولة التوافقية التي تقسم سلطاتها وثرواتها
على وفق مبدأ المكون العرقي الطائفي وليس على وفق مبدأ المواطنة التي
ترى بأن الدولة مجموع مواطنين أحرار ومتكافئين ومتساوين بالحقوق
والواجبات دونما تمييز على أساس عرقي أو طائفي أو إثني.
نعم، لسدنة الديمقراطية التوافقية كل الحق في الحفاظ على تركيبة
الدولة ونسب تمثيل مكوناتها على أساس من مبدأ التوازن العرقي الطائفي،
ولكن أيضاً ليس هناك من داع لكل هذه الضجة المثارة اليوم حول اختلال
التوازن في تركيبة الدولة، فالحقيقة تقول أنّ التوازن معتمد منذ 2003،
فمعادلة مجلس الحكم (55% شيعة 49% سنة وكرد) لم تعرف تخلخلا ليومنا هذا،
وإنما الخلاف بين الفرقاء يقع في أمرين، الأول: حقيقية هذه النسب
السكانية (الشيعة والسنة والكرد والتركمان وكلدوآشوريين..الخ) فليس
هناك قناعة في نسبة كل مكون، ولعبة الأرقام العرقية الطائفية غدت إحدى
أدوات الصراع التمثيلي والحصصي على مستوى مؤسسات الدولة وثرواتها،..
وهو أمر إنما يحسمه الإحصاء السكاني الذي تم تأجيله لأكثر من مرة وليس
هناك من أفق لإجرائه في المستقبل المنظور.
والأمر الثاني الذي يؤسس للقول بعد التوازن هو الخلاف فيمن يمثل
الشيعة أو السنة أو الكرد..الخ في معادلة شغل المواقع التمثيلية
والمؤسسية للدولة، وهنا يتدخل الشخصي والحزبي في قضية التمثيل للمكوّن،
فالبعض يقول بعدم التوازن لأنه يرى أنه هو الممثل لهذا المكون أو ذاك،
وهي قضية غير معيارية على مستوى التطبيق ولا يمكن حسمها، فما دام
المعيار في تولي المواقع وتسنم المسؤوليات هو الانتماء العرقي أو
المذهبي فهو متحقق منذ 2003 ولا مجال للإدعاء بعدم التمثيل والتوازن
لكل مكوّن، وإذا كان المعيار أنّ الشخص أو النخبة أو الحزب الفلاني هو
مَن يجب أن يمثل هذا المكون أو ذاك.. فسندخل عندها في دوامة لا تعرف
سقفاً لتداعياتها.
عموماً، إذا ما كانت هناك خلافات في نسب التوازن فيمكن لأصحاب
النظرية التوافقية العرقية الطائفية حسم هذه الإشكاليات بإجراء تعداد
سكاني صريح يوضح نسب الشيعة والسنة والكرد والتركمان والكلدوآشوريين...الخ،
وعلى وفق النسب يتم توزيع السلطات والمؤسسات والهيئات والوظائف الممثلة
للدولة، وهذا هو جوهر الحكم التوافقي الذي تقول به معظم النخب السياسية
اليوم ولكنها تتجنب الإفصاح عنه علناً، فالجميع يقول بالمشروع الوطني
ولكن المحاصصات العرقية الطائفية هي الحاكمة في كافة مؤسسات وهيئات
الدولة، ولا يمكن حل هذا التضاد إلاّ بشفافية سياسية حاسمة تقعد الدولة
علناً على وفق الهويات الفرعية العرقية الطائفية دونما مواربة.
وهنا فليس من حق مَن يقول بالتوازن وقيام دولة الأعراق ومملكة
الطوائف وحكومات شراكة المكونات أن يقول بالمواطنة والمشروع الوطني
والدولة الوطنية، فهما مشروعان لا يلتقيان على مستوى المعيار والمؤسسة
والسياسة.
*حلول دستورية لإشكالية التوازن
بدل التصعيد السياسي والإعلامي يمكن لأصحاب الديمقراطية التوافقية
اللجوء للدستور الذي كتبوه ووافقوا عليه لحل إشكاليات عدم التوازن –إن
وجد- لضمان تمثيل المكونات، فعلى سبيل المثال يمكن السعي الحقيقي
لتأسيس (مجلس الاتحاد) المسكوت عنه والذي عده الدستور توأماً لمجلس
النواب في السلطة التشريعية، فيمكن تأسيسه وتقعيده على أساس من تمثيل
المكونات لضمان إجراء التوازن. وأيضاً كان بإمكان نخب الديمقراطية
التوافقية تفعيل المادة 102 من الدستور العراقي والتي تنص على: (تؤسس
هيئة عامة لضمان حقوق الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، في
المشاركة العادلة في إدارة مؤسسات الدولة الاتحادية المختلفة، والبعثات
والزمالات الدراسية، والوفود والمؤتمرات الإقليمية والدولية، وتتكون من
ممثلي الحكومة الاتحادية والأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم،
وتنظم بقانون).. فيمكن لهذه الهيئة صيانة مبدأ التوازن في تركيبة
الدولة ومؤسساتها وأنشطتها حتى لمستوى البعثات والزمالات والوفود
والمؤتمرات التي تقيمها الدولة. وأيضاً يمكنهم تفعيل قانون المحافظات
وزيادة رقعة الصلاحيات القانونية والتشريعية للحكومات المحلية لضمان
عدم شعورهم بالتمييز والإقصاء. نعم، يمكنهم القيام بإجراءات دستورية
وقانونية ومؤسسية لضمان إجراء التوازن بدل حروب إعلامية تؤجج الصراعات
العرقية الطائفية، وتزيد من الانقسام والتشظي في الانتماء والهوية
والمصلحة.
* مبدأ التوازن
لكن، يشتبه مَن يظن بأن مبدأ التوازن إنما تحققه الديمقراطية
التوافقية، أو تنتجه ثقافة المحاصصة العرقية الطائفية، أو تحرسه شراكة
المكونات، أو تضمنه دولة الطوائف،.. ومهما أبدعوا من أساليب وتفننوا في
بدائل فلن تنجو الدولة من مأزق التشرذم ولا ينجو المجتمع من خطر
التشظي،.. فقيام الدولة على وفق مبدأ المكوّن العرقي الطائفي سيقتل
بالصميم أمة الدولة لأنه يؤسس الاعتراف ويعطي الامتياز ويقعد الثروة
على أساس هوياتي فرعي، فيؤصل الفرعي ويصادر الكلي بالتبع، فالفرعي
(الشيعي السني الكردي..الخ) سيصادر الكلي (العراقي) الوطني. وأيضاً
سيبتلع وحدة الدولة لصالح دويلات طائفية عرقية متلبسة بلبوس الدولة
(النموذج اللبناني)، وأيضاً سينتج حكومات (اتحادية) متضخمة كونها
إرضائية ومحاصصية، وحكومات قلقة غير مستقرة كونها تتنازع السلطة
والثروة والإدارة على وفق المصالح الإثنية، وسيقود لابتلاع الأحزاب
للدولة كونه يترجم التوافق على شكل محاصصات حزبية لأحزاب متقوقعة على
انتمائها العرقي الطائفي.
إنّ المواطنة الكاملة غير المنقوصة والتي تعتبر المواطن وحدة سياسية
تامة وناجزة ومصانة ومفعلة لمواطنيتها، والديمقراطية التعددية المنتجة
لسلطات سياسية تعتمد الأغلبية السياسية في صناعة القرار إلى جانب
معارضة برلمانية حقيقية، والتعايش المنتج لتعددية مجتمعية وسياسية
وثقافية معترف بها ومصانة قانونياً، والضمان الدستوري والقانوني
والمؤسسي لحقوق وحريات وهويات المواطنين... لهي الأسس الأمثل لقيام
الدولة الوطنية المدنية المتوازنة والقادرة على البقاء والتطور.
عموماً، الدولة مؤسسة وطنية تتجلى بوحدة أمتها السياسية ووحدة
مؤسساتها وقراراتها وسلطاتها.. والنمط التوافقي يصادر وحدة أمتها
ومؤسساتها وقراراتها، ولا يمكن لأي دولة توافقية الصمود أمام صراع
مكوناتها التنافسي (النموذج البلجيكي الحالي)، فليس لمستقبلها سوى
خيارين لا ثالث لهما: إما إعادة تشكيل الدولة على وفق مبدأ المواطنة
التي تحقق الاعتراف والانتماء والمشاركة المتساوية دونما تمييز عرقي
طائفي، أو اللجوء إلى تقسيم الدولة على وفق عدد مكوناتها العرقية
الطائفية الإثنية.
يا سادة: التوازن الحقيقي في الدولة الصالحة رهن المواطنة
الديمقراطية المصانة تشريعياً ومؤسسياً وليس رهن توافق المكونات
العرقية الطائفية.
almowatennews.com |