شبكة النبأ: رغم ارتفاع درجات الحرارة
في صيف العراق اللاهب، الا ان حركة الاسواق تشهد صخبا وضجيجا قبل شهر
رمضان بعشرة ايام..
حتى وكالات الانباء والفضائبات العراقية والعربية والاجنبية تكثّف
من حضورها في تلك الاسواق وخصوصا سوق الشورجة في مثل هذه الايام بحثا
عن مواد اخبارية وتقارير وصور تغطي اوقات بثها وصحفها..
تعرفت على احد المصورين وسالته اليس من المفترض ان يكون الصوم كجزء
من فلسفته هو الامتناع عن اشباع الشهوات حتى لو كانت مباحة؟ وجزء من
هذه الشهوات هي شهوة الطعام؟ ثم من لديه الشهية لياكل في مثل هذا الطقس
اللاهب؟ ومن هي تلك المراة التي لديها هذه القدرة الجبارة للوقوف امام
الطباخ في مكان قد تصل درجة حرارته الى 44 درجة مئوية لاعداد اكثر من
نوع من الطعام للصائمين في المنزل؟ هو مثلي متعجب من هذه الحالة التي
يظن من يراها وهو لا يعرف طبيعة المجتمع العراقي ان المواد الغذائية في
طريقها الى النفاد او اننا سنعيش حالة من منع التجوال.
هل لهذا الشره للطعام شراءا واستهلاكا علاقة بسنوات الحصار في
التسعينات؟ ام ان له علاقة بثقافة الطعام في المجتمع العراقي؟ تلك
الثقافة التي تميل الى الاهتمام بكمية الاكل وحجم الصحون على حساب
نوعيته ومدى مطابقته للتغذية الصحية؟
قد يكون الاثنان معا.. ويمكن بنظرة سريعة ان نتاكد من الاحتمال
الثاني وهو الاحتمال الاكثر حضورا في سلوك العراقيين من خلال انواع
الاكلات العراقية الشهيرة والاوقات المفضلة لتناولها:
الباجة العراقية – التشريب – الكباب والتكة وبقية المشويات – الكبة
– المخلمة، تؤكل كوجبات صباحية او نهارية او ليلية.. واحيانا يتم تناول
الباجة في ساعات الليل المتاخرة..
الدولمة – البرياني - السمك المسكوف، وجبات نهارية ويمكن ان يؤكل
السمك المسكوف ليلا..
في الوقت الذي تميل فيه ثقافات شعوب اخرى الى تناول الحليب ومشتقاته
في وجبات الفطور الصباحي يميل العراقي الى تناول اللحوم الحمراء في
فطوره..
رمضان العراقيين لا يمكن الحديث عنه الا عبر ارتباطه بطقوس الطعام
والشراب وليس بطقوسه الايمانية المتعارف عليها شعيرة قاهرة للشهوات
المباحة منها او غير المباحة.. هل يمكن لصائم متخم البطن بعد ستة عشر
ساعة من الجوع والعطش ان يستطيع الوقوف لصلاة طويلة او ان يسهر ليله
ذاكرا وقارئا؟ بالاضافة الى خدر التخمة سينضاف خدر من نوع اخر.. انه
خدر المشاهدة التلفزيونية والتنقل بين القنوات لمشاهدة ذلك المسلسل او
غيره.. ولا عجب ان احد الاشخاص يتابع المسلسل التركي (مراد علم دار)
عبر حلقات متواصلة من خلال (السي دي) من الساعة السادسة عصرا وحتى
الثانية والنصف صباحا.. رغم عرضه على اكثر من قناة تلفزيونية..
صائمون... ولكن
(لكن) حرف استدراك رهيب وعنيف يعمل عمل القمع في النفس.. انها مقصله
كلامية تسقط كشفرة حادة، او منعطف حاد ومفاجيء..
تلغي (لكن) الجزء الاول من الجملة.. ويمكن ان يسبب الاسراف في
استخدام هذا الحرف الى اعاقة خطيرة لروح المبادرة لدى اي انسان..
هل يدخل الكلام السابق تحت هذه المفارقة؟
لنستمر قليلا ونكتشف ذلك.. احد اصدقاء ابني ويبلغ الحادية عشرة من
عمره اخبرني ان اهالي المنطقة يعتصمون كل ليلة امام احدى البنايات
التابعة لوزارة الكهرباء احتجاجا على تردي امدادات الطاقة الكهربائية.
سالته: اما كان الاجدر بهؤلاء الاهالي التوجه الى صاحب المولدة في
المنطقة ومطالبته بالتشغيل لما يعادل ما ياخذه منا ثمنا للامبير الواحد
اسوة ببقية المحافظات؟
كان جوابه الذي فاجأني به شيء اشبه بالصدمة او الدهشة.. قال لي عبد
الله صديق ابني ذو الحادية عشرة من السنوات:
عمو اهل المنطقة يطالبون صاحب المولدة باعادة العامل القديم اليها..
كانت دهشتي حين اضاف قائلا: كان يسكر ليلا في الغرفة الملحقة بالمولدة
ولا يوقف تشغيلها علينا ليلا حتى خارج اوقات (عدم التشغيل الليلي)..
وهي شهادة تضاف الى شهادة سابقة لأحد الاخوة في مناطق الكرخ من بغداد
حين اخبرني عن صاحب مولدة يمنح ربات البيوت ساعتان مجانيتان خارج اوقات
التشغيل من العاشرة صباحا حتى الثانية عشرة ظهرا.. مقابل احدهم الذي لا
يفوت صلاة فجر واحدة ويعتبر ان ساعات الكهرباء الوطنية هي رزق ساقه
الله اليه وليس الى المشتركين وبالتالي فليس من حقهم التعويض عن هذه
الساعات.
صباح اليوم الذي سبق تلك المحادثة اتصلت بصاحب المولدة في مكان عملي
وكنت ارتجف من الغضب وانا اتحدث معه حول الانقطاعات المستمرة لامبيراته
العتيدة.. صاحب المولدة في مكان عملي من المقيمين للصلاة والصيام وبقية
الطقوس الدينية الاخرى.. سعر الامبير الواحد لست ساعات ونصف هو ثلاثة
عشر الف دينار.. ورغم هذا يسرق المشتركين جهارا نهارا.. وامسحها بهذه
اللحية الكثة التي يشذبها بعناية فائقة.. كان الشعار الذي رفعه
المتضررون من اصحاب المولدات هو ان (ابو المولدة لادين له).. واضيف
اليه (ولا شرف.. ولا ضمير له).
هل سيتغير صاحب مولدتنا في شهر رمضان؟ وهل سيتغير سائق الكيّا او
سائق سيارة الاجرة او صاحب المتجر او المسؤول او الموظف؟ هل سنرى اثر
الصوم (صوم الجوارح) والارتقاء نحو الكمال في شهر رمضان؟ من واقع
التجربة وسنوات الحياة والشيبة الساخرة على جانبي شعري اقول بكل ثقة:
صائمون... ولكن. |