
شبكة النبأ: يرى الباحثون المعنيون في
تعريفهم للمركزية، بأنها منهج حياة شامل، ينحو نحو تركيز السلطات
بأنواعها في شخصية القائد، فردا كان أو مجموعة، وبهذا يتم شخصنة السلطة
التي تأخذ بالتنامي والاشتداد على حساب الفردية، وما تنطوي عليه من
مواهب وقدرات متنوعة.
هذا الرأي المستنتَج من أخبار التأريخ، ووقائع العصر الراهن، يدل
على أن المنهج المركزي يؤسس لثقافة الرعية، أو ثقافة القطيع كما يطلق
عليه البعض، بحيث تذوب القدرات الفردية وتتهمش لدرجة الموت أحيانا،
ويبقى الفاعل الوحيد والمتنفّذ هو المنهج المركزي القائم على حصر
السلطات كافة، في شخصية القائد كما ذكرنا، مقابل إشاعة حالة من الخنوع
تعم المجتمع، فيُقصى الفرد ومواهبه وتُحيَّد قدراته، فيما تتضخم الأنا
السلطوية، لتتحول الى رمز يبجله الجميع، وينظرون إليه على أنه الممثل
الأوحد، والأقدر على تحقيق تطلعاتهم، نحو حياة تليق بهم.
من الواضح أن تضخيم الأنا السلطوية، مقابل مسخ قدرات الفرد ومواهبه،
تزرع حالة من التشكيك في الذات، فحين تُحصَر السلطات السياسية وغيرها
بيد القائد، سنلاحظ انتعاشا واضحا للتبجيل والرياء والتملق له، وفي
الوقت نفسه، نلاحظ ضعفا في شخصية الفرد، لأنها بُنيَتْ بطريقة خاطئة،
أسَّس لها السلطان، وركّز فيها على تدمير الاستقلالية الفردية، مقابل
إشاعة الرعوية كمنهج حياة لابديل له، الامر الذي يجعل من السلطان رمزا
شعبيا مؤلّهاً ومبجَّلاً، كما حدث ويحدث مع طغاة التأريخ، أو العصر
الذي عايشنا فيه أمثلة لهذا النوع من تركيز السلطات، خاصة أننا نعيش في
مجتمعات فتح عينها على الأبوية التي مسخت شخصية الابن، لتجيرها لصالح
شخصية الاب (السلطان)، وليس في الامر شيئا غريبا حين نقول، أن منهج
تركيز السلطة السياسية، جاء كنتيجة حتمية لمنهج التسلط الابوي في
الاسرة العربية أو الشرقية على وجه العموم، إلا ما ندر.
لهذا ليس صعبا على المراقب، أن يكتشف حالة الاختلال الواضحة بين
الآمر والمأمور، في المجتمعات القائمة على سلطة الفرد مقابل خنوع
الرعية، وليس غريبا أن تزدهر حالة الانقياد الجمعي، لرأي الفرد القائد،
وفكره، وسلوكه، وقراراته، حتى لو كانت مدمرة لحياة الشعب، فالرعية لا
خيار أمامها سوى الخنوع المتأتي، من سعي المنهج المركزي الحثيث، لتدمير
القدرات والمواهب الفردية، إلا إذا كانت تصب في صالح السلطة، عند ذاك
يختلف الحال، وتصبح الموهبة الداعمة للسلطة والمركز تحت الرعاية
التامة، شريطة أن تُستثمَر قدراتها في ما يخدم السلطان، ويدعم منهجه،
لهذا غالبا ما تنتهي مثل هذه المواهب الفردية الى الموت والانطفاء،
بسبب مسخها وتذويبها الأكيد في ثقافة وآليات المنهج المركزي.
أما اللامركزية، فإنها تبتعد كليا عن شخصنة السلطات بأنواعها، بل
تبتعد عن كل ما يمت بصلة لحصر السلطات او الآراء، او حتى منهج الحياة
العامة، في مسار واحد، لا يقبل بتعدد الآراء، ولا بطرق التفكير، ولا
بمناهج العيش المتعددة، وبهذا يجد الفرد فسحة واسعة أمام مواهبه،
وتجريبها في اتجاهات لا حدود لها، لذا نجد أن الشخصية الفردية في
النظام اللامركزي، غالبا ما تكون واثقة، متوازنة، ولديها رصيد كبير من
الحيوية والانتاج، وغالبا ما تنطوي على الكثير من الذكاء والاقدام
المؤطّر بالحكمة، كما أنها غالبا ما تكون عارفة بطاقاتها الكامنة،
وتكون مستعدة دائما، لاستخدامها الامثل لصالحها ولصالح المجتمع الاوسع
في آن.
لهذا يأتي المنهج اللامركزي، كسبيل أوحد للخلاص من الرعوية
والابوية، التي تجتهد لكي تختصر الجميع في ذاتها، حتى لو ادى ذلك الى
مسخ الفرد ومزايا، ثم زجه مرغما مع القطيع، الذي يؤلّه القائد ويبجله،
وينظر إليه كرمز سامي لا يُسمَح بتجاوز رؤيته او أفكاره وتوجيهاته
وأوامره، في الوقت الذي يكون فيه هذا الرمز، طاغية يسلب حقوق الناس،
ويتجاوز على حرياتهم، وحقوقهم المشروعة، فيحيل حياتهم الى ما يقترب من
الجحيم في معظم الاحيان.
وهكذا تجد الفرد الممسوخ في المنهج المركزي، خائفا من نفسه ومن
الآخرين، مترددا، ليس له قرار ثابت او واضح، ولا قدرة له على تحمل
المسؤولية مهما صغرت، والسبب دائما، هو فقدانه للشخصية المستقلة
المتوازنة، نتيجة لإشاعة المنهج المركزي الذي يخدم الطغاة، ويجعل من
الشعوب عاجزة عن الابتكار والابداع، بسبب إنطفاء المواهب والقدرات
الفردية والجماعية في آن. |