الإنجازات
سألني صديقٌ وهو يستمع إلى إحدى الحناجر السلطانية العربية
الإعلامية، التي كانت تُردد إنجازات السلطان وقال:
لماذا تتغنى كتائبُ إعلام السلطان ليل نهار بتأسيس المنتجعات ودور
الرعاية والمصحات والمستشفيات العامة، فهم يعددون أَسِرَّةَ المرضى
الجديدة، في كل نشرات الأخبار منذ ثلاثة أيام؟
قلتُ:
إن ذلك دليلٌ على مرض دولة السلطان!
فهم يكررون ما يسمونه إنجازات السلطان، لأنهم يفترضون بأن السلطنة
تعيش في حالة اتهام، اتهام بالسرقة والرشوة والتدليس وإنفاق مال
السلطنة فيما وراء البحار، فليس هناك وسيلة للدفاع عن التهمة أنجع من
سرد إنجازات الدولة طوال اليوم، لأن الاتهام يظل يطارد المتهم ليل نهار،
وعليه أن يُثبت حسن نواياه ووطنيته وخدماته، أليست تلك فضيلة من فضائل
السلطان؟!
قال صديقي:
أمن العدل والإنصاف أن نسمع أبواق السلطان تواظب على هذه الأغنية،
أغنية الإنجازات العظيمة، وما إن نفتح التلفاز حتى يظهر السلطان في كل
نشرات الأخبار، فقد حفظنا طلعته المهيبة، وصوته الأجش، ومنطقه السقيم،
ألم يعلم بأن إدامة صوره، وتكرار مقولاته، يصيب الناس بالنفور
والانقباض والتعاسة والقرف؟!
لماذا يطاردوننا في التلفاز والمذياع بصورته وصوته وحاشيته، أهناك
فلسفة من وراء هذه المطاردة؟!
نعم نحن مطاردون للسلطان، فالسلطان القوي الجبَّار يطارد شعبه صباح
مساء، فأنتَ لا تستطيع أن تسير في الشارع العام بلا بطاقة من السلطان،
أو ختمٍ لأحد أعوان السلطان، ولا تستطيع أن تسافر خارج بلدك إلا
بموافقة السلطان، ولا تستطيع أن تشتري أو تبيع إلا بعد موافقة السلطان،
ولا يمكنك أن تبني بيتا، أو تقتني ركوبة، إلا بإذن من السلطان،
فالسلطانُ ولي النعم، مانحها ومانعها، قل ما شئت عنه، ولكن قل رأيك سرا،
وأخفِ جوهرك عن أقرب مقربيك، أما إن أردت أن تعيش مرفها،فعليك التخلص
من سريرتك الهدامة، وفكرك المتطرف وبغضك للسلطان، أو أن تفعل كما فعل
أحدُ معارفي، الذي رافقته طويلا فخبرتُ قرارته، فصديقي كان يكره
السلطان، ويقول لي عنه:
إنه الشيطان !
غير أنه عندما خرج من سجن السلطان واجه التلفاز، وأصبح ضيفا من ضيوف
مرآة السلطان، كنتُ في البداية خائفا عليه أن يعود للسجن من جديد، خشيتُ
أن يقول ما في نفسه عن السلطان، أحسست بالرعب خوفا على صديقي الحميم،
وأنا أستمع إليه، ولكنني حبستُ أنفاسي وأنا أسمع كلماته في حضرة مرآة
السلطان فقال:
"السلطان أعدل حكام الزمان، يستمد مشورته من كتب الدين، وهو لشعبه
كأم حنون، وفي جرأته فارسٌ مغوار"!
ولما سئل عن إنجازات السلطان، لم يذكر السجون التي كان يقول عنها،
إنها علامة فارقة ووشم العار على جبين السلطان، بل قال:
"عجزت الأقلام عن إحصاء مآثره، فهو ما فتئ ليل نهار-أعانه الله –
غارقا في مشاكل الناس"!!
وأخذ صديقي يعدد مآثره في مجال المشاريع الإنمائية والغذائية
والصناعية والثقافية والتجارية والفنية، التي كان قبل أن يجلس في مرآة
السلطان يقول عنها:
" إنها فرقعاتٌ إعلامية، ومعلبات هوائية" !
ولما رأى الدهشة في وجهي بعد الانتهاء من المقابلة، وكان استغرابي
ونفوري منه باديا للعيان قال:
صدقني لم أكن أنا الذي تحدث في مرآة السلطان، بل كان شخصٌ آخر غريب
لا أعرفه يسكنني، إنه أحد شياطين السلطان، فعندما أدخلوني أستوديو
التصوير، أحسست بأنني غِبتُ عن الوعي، فالأضواء قد نوَّمتني مغناطيسيا،
فابتلعتُ أفكاري ومبادئي، أو بعبارة أخرى أجبرتني الأضواء أن أبتلعها،
وأنا أنظر إلى فوهات كاميرات التصوير، فقد كانت عدساتُ آلاتِ التصوير
بالضبط كفوهة بندقية حارس سجن السلطان، الذي سجنني تسع سنوات، وكانت
مصوبة إلى رأسي مباشرة، فقد اغتالت منى كل مدخراتي من المبادئ
والأفكار، لم أكن أنا الذي شاهدته على شاشة التلفاز، بل كان عدوي الذي
يسكنني!
فلم تكن تلك مقابلة... سامحني فقد كنت أجلس في غرفة سجانٍ، أمام
مُحقِّقٍ من محققي السلطان!
ملاحظة السلطنة التي أقصدها في هذه السلسلة دولة لا توجد إلا في
خريطة الوطن العربي |