المثقف الوهمي... خواء لزاوية الحضور

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: لا أظن أنّ هناك أحدا بإمكانه أن يمنع الآخر من الادّعاء بالانتماء الى الثقافة، ولا يوجد احد يمكنه منعه من اطلاق كلمة (مثقف) على نفسه، فالساحة الثقافية مفتوحة إنْ في المكان أو في الزمان، والمجال من السعة، بحيث يمكن لكل من هبَّ ودب، أن يدّعي الانتماء للثقافة، وأن يخط لوحة عريضة، ويضعها  في مكان بارز، تعلن أن هذا الشخص مثقف، إذن فالجميع يمكنهم الادّعاء في هذا الجانب، ولكن هناك معايير واشتراطات تفضح المثقف الوهمي وتعزله عن الاصيل.

واذا اتفقنا على إمكانية أن يدّعي الجميع انتماءهم للثقافة، فإن شرط الانجاز والحركة والتفاعل، ونمط التفكير وما ينتج عنه من فعل مادي، يُرى ويُسمَع، بل ويُمسَك باليد أيضا، كفيل بسحب هذا التوصيف (المثقف) او إطلاقه على من يدّعيه، وهنا نلاحظ حالة من التداخل بين الفكر والثقافة، بمعنى أن المثقف قد يصبح وهما وخاويا، من دون فكر واضح ومحدد، مثلما يحتاج المفكر للثقافة العامة او الموسوعية كما يُطلَق عليها، لكي يصبح مفكرا بالقول والفعل.

يصف نعوم تشوميسكي المثقف بأنه (هو من حمل الحقيقة في وجه القوة) وهذا لا يتأتى بطبيعة الحال، إلا من خلال بصيرة ثاقبة، وحصيلة متداخلة ومتعاضدة، ناتجة عن الفكر الجيد والثقافة الانسانية الصحيحة، التي ترسّخ ايمان المثقف بمساندة الحق، في وجه القوة، كالسلطة السياسية، او غيرها من القوى.

فيما يرى أحد الكتاب العرب أن هناك من المثقفين من يتحدث عن (المثقف الوهمي) الذي يجنح في خطابه إلى التبرير والتخدير والتزييف. ويضيف قائلا: من الواضح في كثير من الكتابات، أن هناك شكوى مريرة من بعض المثقفين الذين سخَّروا أقلامهم لخدمة جهة أو لخدمة مصالحهم الخاصة، ونسوا واجبهم في قول الحق ومحاصرة الشر، وإنصاف المظلوم، وحماية المصالح العامة.

ونحن نقول أن المثقف الوهمي هو المثقف غير المفكر، وغير الفاعل، إلا اذا كان الفعل يصب في مصلحته او مصلحة القوة أيا كان نوعها او مصدرها، على العكس من المثقف المفكر، الذي غالبا ما يكون شاخصا أمام الجميع، في كل المواقف والاحداث الجسيمة، بثقافته وفكره معا، إذ ينحو الى إعمال قلمه في كشف الحقيقة، وفضح الخطأ أينما كان ومهما كان مصدره أو القائم به.

وقد يبدو الفارق ضئيلا بين المفكر والمثقف على نحو عام، لاسيما اذا كان النظر إليهما من زاوية الحضور والمساندة للحقيقة، بالضد من القوة وتوابعها، وفي هذا الصدد يرى أحد الكتاب أن (الفرق الجوهري بين المثقف والمفكر هو أن المثقف - في الغالب- أكثر من غيره في نقل ونشر وتوسيع دائرة الأفكار والرؤى، أما المفكر ففي الغالب أنه يعتبر مصنعا ومنتجا للأفكار).

وبهذا كلاهما المفكر والمثقف يشكلان إمتدادا لبعضهما، لكن الاشكالية تكمن في طبيعة المثقف نفسه، وتوجهاته ومحركاته ودوافعه، ودرجة أصالته من زيفه، فإذا كان مثقفا وهميا، فإنه لن يكون حاملا للفكر الذي يسند الانسان في تطلعاته نحو الرقي، وهنا يحدث التقاطع بين المفكر والمثقف، كذلك يمكن أن يكون المفكر سببا للتقاطع ايضا، حين ينتج فكرا مزيفا، أو مضرّا، كالفكر النازي مثلا، أو عموم الافكار التي تحاول ان تجرد الانسان من تطلعاته الانسانية، وتحصره في إطار إنتمائي ضيّق يجعل منه عبءا على المجتمع الانساني، بدلا من أن يكون سندا وعضيدا له.

وغالبا ما يكون المثقف الوهمي مصلحيا، تحكمه المنفعة الفردية أولا، حتى لو حاول تغطية هذا النقص الفاضح، بأساليب كثيرة قد تبدو للبعض مقبولة، وقد تمرأحيانا حتى على ذوي العقول المتفحصة والثاقبة، فالمثقف الوهمي يتسلح في الغالب بحالة من الخداع، عبر انتهاجه للتخفّي والوسطية اللامشروعة، فهل يمكن أن تُقبل الوسطية والاعتدال كحالة تعامل مع حكومة ظالمة، تسحق شعبها بوسائل القوة والبطش والسرقة والتهميش، وما الى ذلك من تدمير منظّم للشعب؟ ولكن مع ذلك نلاحظ أن المثقف الوهمي، بالاضافة الى عجزه التام عن تنوير المجتمع، وتثقيفه وزيادة وعيه، كونه ليس هدفا من اهدافه، فإنه ينتهج سياسة غض الطرف، اذا حدث تقاطع بين مصلحته، وبين منهج القوة الذي لا يتوانى قط، عن فرض الرأي، وحماية الذات والمنافع السلطوية، بغض النظر عن مدى ما تلحقه من أذى بالآخرين.

لهذا في الغالب تجد غيابا للمبدئية لدى المثقف الوهمي، بالمقابل تجد لديه حضورا قويا للمنهج التوفيقي، الذي يختلف تماما عن منهج التسامح، والقبول بالرأي الآخر، والتعايش، وما الى ذلك من مبادئ تسهم في تطوير المجتمع، وتجعله أكثر توازنا ومعاصرة.

ناهيك عن كون مثل هؤلاء المثقفين الوهميين، رموزا للخواء والضعف والتراجع، فأينما تميل كفة القوة يميل معها، حتى لو تسبب ذلك في تعطيل القدرات الهائلة للشعب، وتفويت الفرص الكثيرة التي تسنح له لمغادرة خانة التخلف والجهل الى خانة التطور والانطلاف في ربوع العصر الحديث.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 12/تموز/2011 - 10/شعبان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م