القادة وإيثار الشعب على النفس... طرق الى الخلود

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: السلطة تقود السلطان الى طريقين، أما طريق الخلود، وأما طريق السقوط في قعر الحضيض، هذا ما يخبرنا به التأريخ، وتخبرنا به الوقائع الراهنة التي اجتاحت معظم حكومات ودول الشرق الاوسط.

فالحاكم يمكنه أن يسلك أحد هذين الطريقين، لكن لكل من الطريقين فوائد وتضحيات، فمن يختار طريق الخلود، عليه أن يضحي بمزايا السلطة وتجنيدها لتحقيق اهواء النفس، التي تدفع بصاحبها الى النزوات والغرائز، اذا لم يكن متحكما بها، أما من يختار طريق السقوط، فهو الحاكم الذي يضعف امام نفسه، ورغباتها، وغرائزها، فتدفعه نحو اللهاث لتحقيق رغائبها، حتى لو تم ذلك على حساب الشعب والفقراء، فتبدأ سلسلة ارتكاب الجرائم والقتل، وسحق كل من يعترض طريق الحاكم، او كل من يرفع صوته مطالبا بحقوقه التي تُستلَب منه أمام عينيه.

التأريخ يذكر لنا حكاما عظماء إختارو الطريق الاول، طريق الخلود، وآثروا كسب الناس، بعد رضا الله تعالى اولا، ودحروا النفس ولم يستجيبوا لها، إلا بما يحقق نجاحه في الوصول الى الخلود.

الامام علي ابن ابي طالب عليه السلام، مثال حي لا يتجاوزه أحد اذا اراد أن يعرف كيفية الفوز بطريق الخلود.

في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام)، يوضّح لنا سماحة المرجع الديني، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، هذا الامر بجلاء، مستشهدا بسيرة الامام علي عليه السلام، واسلوبه في ادارة قيادة الامة، يقول سماحة المرجع الشيرازي بهذا الخصوص:

(أربع سنوات أو أكثر قضاها أمير المؤمنين عليه السلام بين الكوفة والبصرة، وهو الرئيس الأعلى للبلاد الإسلامية الواسعة الأطراف. خلال هذه المدة الطويلة لم يشتر من مال المسلمين ثياباً لنفسه، ولم يأخذ من أموال البصرة والكوفة شيئاً لذلك. بل ظل على ثياب المدينة كل هذه المدّة الطويلة، إلا إذا اشترى من عطائه الخاصّ كأضعف مستضعف من مسلم آخر في طول البلاد الإسلامية وعرضها).

إن قائدا من هذا الطراز، لابد أنه كبحَ رغبات النفس كليا، وآثر طريق الخلود على غيره، وصمم على أن يكود القدوة التي ينبغي أن يقتدي بها الشعب، فالناس تقرأ شخصية قائدها، وتتفحص حكومتها، وتدرس افعالهم واقوالهم وطبيعة سلوكهم، وتتأثر بهم كنماذج، فأما من ينجح بكسب الناس نتيجة لمراعاة حقوقهم، فذلك هو الحاكم والمسؤول الذي يسلك طريق الخلود، وأما من يسلط الطريق الآخر فقد فضّل طريق السقوط بثمن بخس، تقدمه له الغرائز والرغبات التي ضعف ازائها.

يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه: (القائد تكون أعمالُهُ درساً للشعب، ومنهاجاً للأجيال، ولذلك كان القائد متحملاً لما يمارسه الشعب نتيجة تعلمه منه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.والحياة الشخصية للقائد أدق مدرسة للأجيال المتمسّكة بذلك القائد، ولهذا كان من سياسة أمير المؤمنين عليه السلام بناء حياته الشخصية على الإيمان والزهد).

ويضيف قائلا أيضا في هذا الصدد: (كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لايأكل اللحم في السنة إلا مرة واحدة، في يوم عيد الأضحى وذلك لأنّ هذا اليوم هو اليوم الذي يأكل فيه كل المسلمين اللحم، من وفور لحم الأضاحي.. فلكي يواسي إمام الأمة أضعف الأمة، يأكل اللحم في ذلك اليوم فحسب. هذا في أيام خلافته الظاهرية التي كانت مسؤولية الأمة برمتها عليه).

إن قادة اليوم ربما يتحججون بتعقيد الحياة الراهنة وتشعبها، لكن الامر يبقى مرتبطا بالذات، أي بمعنى أن هناك قادة عاشوا أيضا في حياة معقدة، وتنطوي على الملذات والجاه والنفوذ وما شابه، لكنهم مع ذلك تساموا الى مرتبة أعلى وأعلى، فخلدوا في عقول وضمائر أمتهم كما حدث مع (غاندي) الهند، الذي لم يكن يفرق بين هندوسي ومسلم وبوذي وغيره.

وكان الامام علي عليه السلام ينظر الى الجميع سواسية، فالمسيحي لديه مواطن له حقوقه المعروفة، والمكفولة والمتساوية مع حقوق المسلم، طالما انه تحت رعاية الدولة الاسلامية، واحد مواطنيها، يقول سماحة المرجع الشيرازي بهذا الخصوص:

(الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام لا ينظر إلى أهل المدينة فحسب، الذين يجدون غالباً اللحم فيأكلونه، ولا ينظر إلى أهل الكوفة فقط التي تتوفر فيها اللحوم من كل الأنواع، من الغنم، والبقر، والإبل، والدجاج، والطيور، والأسماك. وإنما ينظر إلى أقاصي بلاد الإسلام، وأهل الأرياف البعيدة، والفقراء الذين يسكنون الأخبية، فكلهم لا يجد اللحم كل يوم ليقتات به. وما دام علي عليه السلام إمامهم جميعاً. فكما عليهم أن يقتدوا به في أفعاله، يحتم على نفسه أن يقتّر على نفسه في مطعمه وملبسه ـ بل ومسكنه ـ كأضعف رعيته. عظيم جدّاً هذا الإنسان. وعظيمة جداً هذه السيرة. وعظيم جداً الإسلام الذي يربي هكذا قائد).

ولن تتحقق مثل هذه القدرات العظيمة، التي تسيطر على النفس، إلا اذا كان صاحبها عظيما حقا، وتأتي عظمة القائد الانسان من بساطته في العيش، ومن تقديمه النموذج الافضل للشعب، سلوكا، وافكارا، واسلوب حياة، لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد، قائلا في كتابه (السياسة من واقع الاسلام): (البساطة في الحياة الشخصية مما عرف بها أمير المؤمنين عليه السلام فكان لايعبأ بالتجملات إطلاقاً، ولا يصرف ثواني من وقته في سبيلها. وهكذا ينبغي أن يكون القائد الإسلامي لكي يصرف أوقاته كلها في أمور المسلمين والمستضعفين).

ومثلما يحدث دائما مع القادة والحكام، أنهم يحصلون على الهدايا المتنوعة، ومن مصادر لا تُحصى، ومنها ما يكون ذا قيمة عالية جدا، وهذا ما درج عليه الحكام منذ القدم والى الآن، ولكن هناك من تتضخم ذاته بسبب الهدايا والجاه، وتُخرَّب نفسه ويتعالى، ويفقد توازنه، ويسيء استخدام السلطة مع الشعب، وهناك –العظماء- وهم من يتقاسموا الهدايا مع شعبهم من الفقراء، بل ربما يقدمونها لمن يستفيد منها، مترفعون بذلك على متع الدنيا أيا كان نوعها أو حجمها، لذا يقول سمحاحة المرجع الشيرازي:

(كان من عادة أمير المؤمنين علي عليه السلام التي عرفت فأثرت عنه أنّه لم يكن ليحتكر الهدايا الشخصية التي تهدى إليه لنفسه فقط، بل كان يوزعها على المسلمين أحياناً، أو يشركهم مع نفسه فيها).

ويضيف سماحته قائلا ايضا: (كان أمير المؤمنين علي عليه السلام كأقل الفقراء مالاً، يستقي الماء من البئر بنفسه، ويحتطب بيديه الكريمتين، ليكون أسوة حسنة لعامّة المسلمين عبر التاريخ الطويل، وقدوة عملاقة لزعماء المسلمين.. وكذلك كان يقوم بسائر شؤونه الشخصية بنفسه).

هذا هو المثال الحي لحكام اليوم، في الدول الاسلامية والعربية أولا، ولحكام العالم أجمع، أمامكم هذا النموذج من السلطة، التي اختارت أن تكون طريقا لخلود حاكمها على مر التأريخ والوجود برمته.. فيا حكام اليوم والغد.. هل أنتم آخذين بسيرة هذا النموذج العظيم؟.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 7/تموز/2011 - 5/شعبان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م