حين نشرت مقالي عن المعايير المزدوجة للإسلاميين السنة العرب
والعروبيين، ولاسيما في البلدان العربية المشرقية؛ جاءت ردود الأفعال
من بعض الإسلاميين السنة العرب المشرقيين في غاية القسوة وعدم
الموضوعية، و خلت غالبا من اي نقاش في الموضوع أو رد على الشواهد
الكثيرة التي سقتها، بل مجرد حشو من الاتهامات والسباب، الذي يزيد من
قناعتي؛ بأن هؤلاء الناس لديهم إصرار على الإستمرار في سياساتهم
ونظرتهم الى الشيعة؛ وكأنهم بذلك ينسجمون مع دوافع نفسية واستدعاءات
تاريخية ومباني سياسية وعقيدية.
ونؤمن ونحن ننشر مثل هذه الموضوعات؛ بأن الحوار ثم الحوار ثم
الحوار؛ هو الأسلوب الوحيد المؤثر في تقريب وجهات النظر، ومقاربة
الواقع، و صنع قناعات جديدة. وماغايتنا من كشف هذه الحقائق الا لتحريك
الساحة الاسلامية العراقية والعربية باتجاه الحوار بين العقلاء والنخب،
وعدم العبور على الحقائق، وعدم المجاملة على حساب الواقع، وأن لاينتهي
الحوار بتبويس اللحى؛ حيث يقول الجميع بثقة وتهذيب: ليست هناك أي مشكلة،
ونحن اخوة، ولايوجد فرق بين السنة والشيعة. ونستشهد ببعض الآيات
القرآنية والأحاديث النبوية عن الوحدة والتعاون والتضامن، ومزيد من
الكلام عن الوطن والوطنية والإندكاك بالوطن. وخلال ذلك يقوم السنة
بدعوة الشيعة للذوبان في أوطانهم وعدم التبعية للخارج، ويقوم الشيعة في
المقابل بالقسم بأغلظ الايمان انهم وطنيون وجزء من مجتمعاتهم. وبذلك
يقر الشيعة بأن السنة هم أصحاب الأوطان، وانهم كشيعة عليهم إثبات
وطنيتهم والذوبان في المجتمعات السنية وإطاعة الدولة الطائفية. ثم يقول
السنة: نريد أفعالاً ولانريد أقوالاً. ويبقى الشيعي متهماً؛ في وقت
لايجرؤ على توجيه اي اتهام او عتب لأخيه السني؛ درأً للفتنة وحرصاً على
وحدة المسلمين!!. وينتهي الحوار، ويعود كل شيء على وضعه كما كان..
هذا ليس حواراً؛ هذا نوع من الكوميديا السوداء التي نشهدها
باستمرار في اجتماعاتنا وندواتنا ومؤتمراتنا حول الوحدة والتقريب. في
حين أن الحوار الحقيقي هو الذي يغوص بشكل ممنهج في أعماق مشكلة
الإجتماع السياسي لبلداننا، على قاعدة العيش المشترك والشراكة الوطنية،
وليس على قاعدة الاكثريات والاقليات، أو قاعدة مذهب الدولة ومذهب
الخارجين على مذهب الدولة؛ فيكون الشيعة في النتيجة خارجين على الدولة
والنظام والاجتماع السياسي . كما إن الحوار في الموضوعات العقائدية
والفقهية والتاريخية لم ولن توصلنا الى اية نتيجة؛ سوى مزيد من الكتب
والبحوث التي تقبع في رفوف المكتبات وخزائن الكتب.
لابد أن يكون الإجتماع السياسي والنظام السياسي ومنظومة الحقوق
والحريات؛ في أبعادها التطبيقية المحددة بالزمان والمكان، وليس النظرية؛
هي مداخل الحوار العملي المعمق.
إن الانظمة الطائفية والجماعات الإسلامية السنية والعروبية؛ عندما
تتشدق بالديمقراطية وتدعو لها؛ فإنها تتماهي في منهجها مع المعايير
المزدوجة للغرب؛ لان الغرب يطبق الديمقراطية والليبرالية بكل تفاصيلهما
في نظمه السياسية والاجتماعية، ولكنه لايطبقها خارج حدوده، اي في مناطق
نفوذه ومساحات استعماره، وكذلك هذه الأنظمة والجماعات؛ فانها حين تصل
الى الشيعي؛ يتوقف عندها نبض الديمقراطية وحقوق الانسان.
والمفارقة ان جماعات المعارضة الاسلامية التي تعمل ضد انظمة
بلدانها وتحاول تغييرها باتجاه النظام الديمقراطي؛ لم نسمع منها مرة
واحدة دعوة لإحقاق حقوق الشيعة أو الاعتراف بهم كمذهب او عدم ملاحقتهم
على أساس طائفي. حتى إن دولة كالمغرب يعطي النظام للنصراني واليهودي كل
حقوقه الدينية والمدنية والاجتماعية؛ بينما يعد الشيعي خارجاً على مذهب
امير المؤمنين (ملك البلاد)، فيستحق كل أنواع الملاحقة والعقوبة. ولم
تتحدث الجماعات الاسلامية والعروبية المعارضة يوماً عن حقوق المواطنين
الشيعة المغاربة، بل ان بعضها لايزال يرسل رسائل للغرب يطمئنه فيها على
حقوق اليهود في المغرب فيما لو سقط النظام.
حين كنت اكتب مقالي السابق؛ استحضرت الأحداث المأساوية للشقيقة غزة
في عامي 2008 و2009، وما ارتكبته قوات الكيان الصهيوني من مجازر وحشية
ضد أهلنا الفلسطينيين، والى جانبها مواقف الاسلاميين الشيعة العراقيين
من مجازر غزة. كما استحضرت بعض مجازر بغداد على يد التكفيريين
والبعثيين، ومواقف الجماعات الاسلامية السنية والعروبية تجاهها. ولكني
لم أكن في وارد تدوينها ونشرها. ولكن وجدت هنا مناسباً ان نضيف شواهد
او مشاهد أخرى للمعايير المزدوجة وسياسة الكيل بمكيالين؛ لتكون مادة
إضافية للحوار مع أهلنا واخواننا أبناء الجماعات الإسلامية السنية
العربية والجماعات العروبية.
المشهد الأول:
لقد كانت ردود فعل الإسلاميين الشيعة في العراق تجاه العدوان
الصهيوني على غزة عام 2009؛ متميزة في حجمها ونوعيتها. فكل أطيافهم
وفئاتهم عبّرت عن سخطها واستنكارها للممارسات الهمجية الإسرائيلية،
وتعاطفها الكبير مع الفلسطينيين، ودعمها لحركة حماس. وتمظهر ذلك في
التظاهرات الغاضبة التي خرجت في مدن الوسط والجنوب، وخطب أئمة الجمعة
والجماعة، والبيانات التي أصدرتها المرجعيات الدينية ومؤسسات الدولة
والتنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وفي المقدمة بيانات
المرجع الاعلى الإمام السيد علي السيستاني ورئيس الحكومة نوري المالكي
ورئيس كتلة الائتلاف في مجلس النواب السيد عبد العزيز الحكيم وزعيم
التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، إضافة إلى بيانات الحوزة العلمية في
النجف الأشرف، والمجلس الأعلى الإسلامي وحزب الدعوة وحزب الفضيلة
والتيار الصدري.
وبالرغم من الضغوطات المعيشية التي يعيشها العراق فإن حكومة المالكي
أرسلت كميات كبيرة من المساعدات الطبية والغذائية والعينية. وانتشرت
حملات جمع التبرعات في الشوارع. وخصصت فضائيات الفرات وآفاق والمسار
والغدير والسلام وغيرها (وهي قنوات إسلامية شيعية عراقية تابعة للأحزاب
الشيعية الإسلامية الحاكمة) برامج مفتوحة يومية لعرض المشهد الغزاوي
بكل تفاصيله، وكانت تستقبل الاتصالات من المشاهدين الذين تراوحت آرائهم
بين شتم الصهاينة والبكاء على أهل غزة والدعاء بنصر الفلسطينيين
واستنكار مواقف الحكام العرب.
وكان اللافت للنظر هتافات المشاركين في مجالس عزاء الإمام الحسين
ودعوة خطباء هذه المجالس بالزحف لتحرير فلسطين. وكان هذا المشهد مكملاً
لمواقف الإسلاميين الشيعة في البلدان الأخرى، ولا سيما لبنان والكويت
وإيران وأفغانستان وباكستان والهند والسعودية وأذربيجان وأوروبا
وأمريكا والبحرين وغيرها.
وأمام حزني على أهلنا في غزة، وتعاطفي مع مقاومتها، واستنكاري
لوحشية الصهاينة، وغضبي من المواقف الباهتة أو المتواطئة لكثير من
الحكام العرب، فإنني كنت أشعر بسعادة بالغة للمواقف الرسمية والشعبية
التضامنية للإسلاميين الشيعة العراقيين مع أشقائهم في فلسطين؛ حتى
أشعرني تشدد بعض هذه المواقف أن شيعة العراق هم فلسطينيون أكثر من
الفلسطينيين أنفسهم. هذا ما كان يقوله أيضاً بعض المراقبين.
ولم تكن مجرد مظاهر التعبير هي التي تسعدني فقط، بل يسعدني أكثر
قدرة العراقيين على تجاوز الحواجز النفسية الرهيبة التي صنعتها مواقف
بعض الطائفتين، وقسم منهم من الداخل الفلسطيني؛ حيث صدرت فتاوى ودعوات
تبيح دماء شيعة العراق، وتصف مرجعياتهم الدينية وحكامهم وأحزابهم بأبشع
الصفات؛ أيسرها أنهم عملاء الأمريكان وذيول الصفويين.
نعم.. أسعدني كثيراً تجاوز العراقيين لهذا الواقع الموجع. وأسعدني
أيضاً عضهم على جراحهم ونسيانهم سرادقات مجالس العزاء التي أقيمت لصدام
حسين بعد إعدامه ومواكب التشييع الرمزية له ورفع صوره في كل مكان من
الضفة الغربية وقطاع غزة. هذا الرجل الذي ترك في كل بيت في العراق
نائحة وصراخاً، وقتل ما لا يقل عن مليون عراقي، ومثلهم من الإيرانيين
وآلاف الكويتيين ومئات العرب. كنت حيال الموقف المبدئي للاسلاميين
الشيعة العراقيين من العدوان الصهيوني؛ أشعر بالفخر بأني ابن التيار
الاسلامي الشيعي العراقي، وكانت عيناي تذرفان نوعين من الدموع: دموع
الألم على أهلنا في غزة، ودموع الفرح لموقف أهلنا في العراق.
المشهد الثاني:
ذهلت حينها من الإجماع الفلسطيني والعربي على تجاهل المواقف الرسمية
والشعبية الشيعية العراقية. فلم تشر أي من وسائل الإعلام إلى بيان أو
تظاهرة أو دعم أو تضامن للإسلاميين الشيعة العراقيين تجاه أشقائهم في
غزة. حتى بيان المرجع الديني الأعلى للشيعة في النجف الأشرف الإمام
السيستاني الذي تضمن فتوى بوجوب تقديم الدعم لأهل غزة وردع الصهاينة؛
تم تجاهلها بالكامل، بالرغم من أنها فتوى لا يرقى إليها كل ما صدر عن
الأزهر الشريف أو مشايخ السعودية.
وحين دأبت وسائل الإعلام على ذكر مساعدات الحكومات العربية
للغزاويين؛ فإنها ظلت تتجاهل مساعدات الحكومة العراقية. وهو ما يذكر
بالتجاهل الإعلامي لمبلغ الـ (30) مليون دولار التي قدمتها حكومة
المالكي إلى لبنان خلال العدوان الإسرائيلي في تموز 2006. فبعد العدوان
كنت ألتقي باستمرار صديقي المناضل الكبير جواد الحائري سفير العراق لدى
لبنان، وكان يحدثني بمرارة عن هذا التجاهل المتعمد؛ والذي لاتفسير له
سوى الموقف الطائفي من حكومة العراق.
المشهد الثالث:
انتحارية تكفيرية ترتدي حزاماً ناسفاً، تفجر نفسها في 4/1/2009، وسط
تجمع لمعزّين بذكرى الإمام الحسين بن علي قرب مرقد الإمام موسى بن جعفر
في مدينة الكاظمية ببغداد؛ مما أدى إلى تناثر أشلاء عشرات الرجال
والنساء والأطفال، في مشهد رهيب، لا يقل وحشية عن المشاهد التي كان
يصنعها صدام حسين، أو التي يصنعها الصهاينة في غزة. والمحصلة: مجزرة
كبيرة ضحاياها 120 شهيد وجريح. هذه الانتحارية؛ دفعتها فتاوى التكفير
والقتل وتحريض الطائفيين إلى هذا العمل؛ وإلاّ كيف تجرؤ على قتل نساء
وأطفال معزين يرتدون السواد في الشهر الحرام في مكان ديني.
حينها كنت أتمنى أن تكون حمرة دماء أتباع آل البيت في بغداد لا تقل
حمرة عن دماء أبناء غزة! بل كنت أتمنى ان يفكر الإسلاميون السنة العرب
بأن المسلمين جميعاً سواسية في حرمة الدم وقدسية العرض. وبناءً عليه
تمنيت أن يتفاعلوا مع مجزرة الكاظمية كما تفاعل شيعة العراق مع مجازر
غزة. أو يكون هناك نوع من التعاطف الإنساني الفطري مع حادث الكاظمية..
حداً ادنى..
ولكن؛ كنت أتمنى ولا اتوقع؛ لأني أعرف واقع الحال وأعيش تفاصيله
بحكم الجغرافيا. فقد ظل الصمت السلبي هو الحاكم على أجواء رجال الدين
والسياسيين والإعلاميين الإسلاميين والعروبيين في المحيط العربي؛ وكأنه
علامة رضا على مجزرة الكاظمية، أو إنه ـ في أحسن الحالات ـ تجاهل
للحادث؛ بالرغم من ضخامة حجمه وبشاعة مضمونه.
مرة أخرى نقولها صريحة لأهلنا الإسلاميين السنة العرب؛ أما أن نكون
أعضاء في جسد واحد، أو لا يكون بعضنا أعضاء وآخرون مسخّرين.
* باحث عراقي
alialmomen644@hotmail.com |