حركة التحضر وربيع الشعوب

احمد جويد/مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

تعتبر لفظة حضارة مثيرة للجدل وقابلة للتأويل، واستخدامها يستحضر قيم (سلبية أو ايجابية) كالتفوق والإنسانية والرفعة، ويرى عديد من أفراد حضارات أنفسهم على أنهم متفوقون ومتميزون عن أفراد حضارات أخرى، ويعتبرون أفراد الحضارات الأخرى همجيين وبدائيين.

 ويذهب البعض إلى اعتبار الحضارة أسلوب معيشي يعتاد عليه الفرد من تفاصيل صغيرة إلى تفاصيل أكبر يعيشها في مجتمعه ولا يقصد من هذا استخدامه إلى احدث وسائل المعيشة بل تعامله هو كإنسان مع الأشياء المادية والمعنوية التي تدور حوله وشعوره الإنساني تجاهها، ومن الممكن تعريف الحضارة على أنها الفنون والتقاليد والميراث الثقافي والتاريخي ومقدار التقدم العلمي والتقني الذي تمتع به شعب معين في حقبة من التاريخ.

 إن الحضارة بمفهوم شامل تعني كل ما يميز أمة عن أمة من حيث العادات والتقاليد وأسلوب المعيشة والملابس والتمسك بالقيم الدينية والأخلاقية ومقدرة الإنسان في كل حضارة على الإبداع في الفنون والآداب والعلوم.

 وفي اللغة العربية؛ هي كلمة مشتقة من الفعل حضر، ويقال الحضارة هي تشيد القرى والأرياف والمنازل المسكونة، فهي خلاف البدو والبداوة والبادية، وتستخدم اللفظة في الدلالة على المجتمع المعقد الذي يعيش أكثر أفراده في المدن ويمارسون الزراعة على خلاف المجتمعات البدوية ذات البنية القبلية التي تتنقل بطبيعتها وتعتاش بأساليب لا تربطها ببقعة جغرافية محددة، كالصيد مثلاً، ويعتبر المجتمع الصناعي الحديث شكلاً من أشكال الحضارة.

 وقد ذهب بعض الفلاسفة والكتاب والمفكرين إلى تحديد الظروف والعوامل التي تساعد على وجود الحضارة وتطورها وكل حسب رؤيته؛

 عالم الاجتماع الفرنسي موريس دوفرجيه يعتقد إن البيئة المناخية لها تأثير كبير على درجة تحضر أي امة، وقد رسم خريطة للعالم قسم فيها العالم اعتمادا على المناخ إلى قسمين الأول البارد والمعتدل وهذا يشمل كامل قارة أمريكا الشمالية وأوروبا وروسيا واليابان والأجزاء الشمالية من الصين وشمال إيران وكذلك الجزء الشمالي من بلاد الشام والمناطق المحاذية للبحر المتوسط في شمال أفريقيا، ثم يبدأ إلى الجنوب منها الإقليم الحار الذي يشمل شبه الجزيرة العربية وجنوب إيران والهند وجنوب الصين وجنوب شرق آسيا وجنوب مصر وليبيا والجزائر وكامل أفريقيا وكامل أمريكا الوسطى والجنوبية.

واعتقد دوفرجيه إن الإقليم الحار الواقع في وسط الكرة الأرضية لا يمكن أن تقوم فيه حضارة وأنظمة حكم متقدمة بينما الإقليم البارد والمعتدل الواقع إلى الشمال والجنوب من الإقليم الحار هي المناطق المتقدمة والمتحضرة، وأما حقيقة قيام بعض الحضارات في الإقليم الحار مثل حضارة الهند القديمة أو حضارات الانكا والازتيك في أمريكا الجنوبية فقد ادعى دوفرجيه إن وجود بعض الظروف التي تحسن الوضع المناخي الحار مثل وجود الأنهار في الهند أو الارتفاع الشاهق لجبال أمريكا الجنوبية خفف من حرارة هذه المناطق وساعد على قيام الحضارة، أما بالنسبة لقيام دولة واحدة للعرب فهو العامل الديني الذي وحدهم بعد أن كانوا عبارة عن قبائل لكل منها إله تعبده وبمجيء الإسلام أصبحوا شعبا واحدا يؤمنون بالله الواحد، ويوعز السبب إلى إن سكان المناطق الحارة هم أكثر كسلاً من سكان المناطق الباردة.

 وقد قام المؤرخ الإنجليزي المعروف (أرنولد توينبي) المتوفى سنة 1963 بإضافة ملاحظة على منطق سير التاريخ، والذي ابتعد عن عامل المناخ في رسم خارطة التحضر من خلال تنبئه بناء على ملاحظته أن الحضارة قد تداولت بين الشرق والغرب أربع مرات وهي سائرة للخامسة بلا شك.. فقال أن الحضارة ولدت في الشرق في ممالك السند والهند والصين وفارس القديمة وحضارات العراق ومصر واليمن ثم انتقلت للغرب إلى اليونان ثم الرومان، ثم انتقلت للشرق على يد المسلمين وقامت الحضارة الإسلامية، ثم انتقلت للغرب على يد الحضارة الغربية الأوروبية فالأمريكية، وقال أنها تسير ولا شك للعودة للشرق والمسلمين بناء على نذر الانهيار والتحلل في الحضارة الغربية وبذور النهضة والإشراق في الشرق الإسلامي، فهو بذلك يحذر من فقدان الحضارة الغربية لبعض مقوماتها التي ساعدتها أن تكون الأولى في عالم اليوم.

 كما إن لإبن خلدون نظريته في كتابه المشهور بـ(مقدمة ابن خلدون)، وبمقتضى تلك النظرية أو الملاحظات، فإنه يذهب إلى أن الممالك والحضارات تولد وتتطور، وتشب وتهرم وتموت بأطوار شبيهة جدا بالأطوار التي يمر بها الإنسان.

ولعل (أوزولد اشبنجلر) أشهر المؤمنين بذلك، لكنه أحيانًا يعدل عن هذا التصور، فيشبه الحضارة بفصول السنة، ويرى ذلك من (الحتميات) التي لا تشذ عنها حضارة، فهو يقول: (إن لكل حضارة ربيعها المتسم بالفاعلية الروحية، يعقب ذلك صيف تنضج فيــه، ثم خــريف حيــث يسودها التحليل العقلي، وشتاء تكــون فـيه قد استنفذت جميع إمكاناتها الداخلية، فتتحول إلى الاحتمالات المــادية، والفتوحات الخارجية، وعندها تكون قد شارفت على الانحلال والانهيار).

 وهناك من ذهب إلى وجود عوامل تساعد على التحضر منها؛ عامل الجنس (العرق)، الجغرافي، الاقتصادي، العوامل الاجتماعية غير الاقتصادية، العقيدة، المعرفة، ولعله من أهم العوامل التي تساعد على التحضر هو (الدافع الحضاري): فقد تتوفر للإنسان إمكانات كبيرة، لكنه لا يتحرك ولا يستغل هذه الإمكانات، وقد تكون الفرص قليلة، والإمكانات كذلك، ولكن قوة في نفس الإنسان تدفعه للعمل والتشبث، وقل مثل هذا في الشعوب والأمم، وقد توهم بعضهم فقال: إن التحضر هو من نصيب شعوب بعينها، وثمة شعوب أخـرى غير مستعدة لذلك، وإن وافتها الفرص، إلا أن التاريخ يشهد بغير ذلك، فكل من واتته فرصة استثمرها وأقام حضارة.

وما يصدق على الأفراد، يصدق على الشعوب والأمم، وهذه اليابان، قد تجاوزت شح البلاد، وقلة الخيرات، وكثرة المخاطر التي تواجهها من زلازل وبراكين وتحرك كبير للموجات البحرية، لأنها كانت مصممة على صعود سلم التحضر، وبأسرع وقت ممكن، بينما نجد بلادًا فيها الكثير الكثير من الخيرات، وهي تراوح مكانها، أو تسير ولكن إلى الخلف، وإلى مؤخرة القافلة.

فمن يصنع الحضارة الإنسان أم العوامل المحيطة به؟

 بالرغم كل ما تقدم، يبقى الإنسان وفكره ورؤيته وطريقة تنظيم المجتمع هي من أسباب بناء الحضارة من عدمها، أما المناخ والعوامل الأخرى فهي ضرورية لكنها تبقى هامشية وليست جوهرية وربما تكون مساعدة، لأن هناك بعض البلدان استطاعت أن تخطو خطىً كبيرة صوب التقدم العمراني والسياسي والاقتصادي والفكري رغم ارتفاع درجات الحرارة الشديدة فيها أو قلة مواردها الطبيعية قياساً بأخرى غير متحضرة إذ لا نستطيع أن نجزم إن تلك العوامل لوحدها هو السبب الرئيس في تقدم البلدان أو تأخرها.

ويرى المرجع الديني الراحل الإمام محمد الشيرازي(رحمه الله) في كتابه الفقه الاجتماع انه، كلما قوي الاجتماع، كان الإنسان أبعد عن أضرار الطبيعة، كالحر والبرد، والشمس المحرقة والظلمة، والعوائق الطبيعية، والحيوانات الضارة والمؤذية، بينما كلما ضعف الاجتماع كان الأمر بالعكس بل الإنسان يكون في ظل الحضارة الاجتماعية أكثر عمراً وأصح جسداً، وأكثر أولاداً، بل وأجمل جسماً وأهنأ نفساً، وأبعد عن المنازعات والمقاتلات، والفوضى والاضطراب، والعكس بالعكس.

 فكيف لنا نحن المسلمين أن نواجه التحديات وننهض من جديد لنواكب مسير الحضارة ونسير في ركب الدول المتحضرة؟، يوعز الإمام الشيرازي في كتابه الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه؛ أن القرآن هو أساس التقدم في الحضارة الإسلامية، فلاشك أنه أول أساس بنيت عليه الحضارة الإسلامية، التي أنقذت العالم من الويلات، ودفعته إلى التقدم الهائل في أبعاد الحياة، لذلك إذا أردنا إعادة الحضارة الإسلامية أن نبنيها على القرآن مرة ثانية فهو سرّ الانطلاقة الأولى بما أوجده في المسلمين مـن الروح المعنوية العالية، والإيمان بالله واليوم الآخر، والخوف من النار، والتحلي بالأخلاق الحميدة، تلك الانطلاقة المذهلة التي اعترف علماء الغرب بأنها كانت وراء النهضة العلمية في الغرب، وبأن المسلمين هم آباء العلم الحديث وذلك مثل غوستاف لوبون، سيدييو، ديلامبر، ليبرى، سلوريان، ويلز، والبارون الذي يقول: (إن الرومان لم يحسنوا القيام بالميراث الذي تركه اليونان، وإن العرب كانوا على خلاف ذلك فقد حفظوه وأتقنوه ولم يقفوا فيه عند هذا الحد، بل تعدوه إلى ترقيته وطبقوه باذلين الجهد في تحسينه وإنمائه حتى سلموه للعصور الحديث).

فهل يتسلم المسلمون والعرب ميراث الحضارة الجديدة وينجح ربيعهم الجديد الذي انطلق بقوة في تحقيق ربيع دائم يحقق الاصلاح والتغيير ويبني اسس التعددية الحقيقية ويؤسس لثقافة الانسان والتنمية والحقوق والحريات ويبدأ حضارة جديدة، ام سيكون مجرد ربيع عابر سيعقبه صيف ساخن...؟

الاسلوب الواعي والمتبصر في الاستجابة للتحديات والضغوطات سيكون هو القياس في نجاح الربيع العربي والاسلامي، وعدم توقف المطالب الشعبية الى حد المطالب المادية السريعة الاجل، والحركة الدؤوبة نحو مطالب استراتيجية بعيدة المدى تؤسس لمجتمعات متمدنة ومتحضرة ومتفوقة.

* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com/index.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 5/تموز/2011 - 3/شعبان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م