جولة في العقل الإستراتيجي التركي

محمد محفوظ

قليلةٌ هي الكتب والدراسات التي تترك بصمات عميقة في عقل قارئها، وتساهم في التعريف ببعض المشكلات والأزمات السياسية الراهنة.. وذلك لأنها كتابات ودراسات تناقش قضايا راهنة، كما أن أصحابها، توفرت لهم فرصة ذهبية سياسية وإدارية لتحويل القناعات النظرية إلى وقائع وممارسات وبرامج سياسية.. ومن هذه الكتب كتاب الدكتور أحمد داود أوغلو وزير خارجية تركيا ومهندس سياستها الخارجية المعنون بـ(العمق الاستراتيجي.. موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية).. إذ إننا جميعا نشهد ومنذ وصول الدكتور أحمد داود أوغلو إلى موقع وزارة الخارجية وتركيا تشهد تطورات وتحولات هائلة على صعيد سياساتها وتحالفاتها الخارجية..

وكتاب الوزير الآنف الذكر، يوضح أهم المبادئ والقناعات الاستراتيجية الكبرى، التي يؤمن بها الدكتور أحمد داود أوغلو، ويسعى إلى تجسيدها من خلال عمله في وزارة الخارجية التركية..

الذي يتأمل الواقع السياسي الجديد في تركيا، يلحظ أن حزب العدالة والتنمية ومنذ وصوله إلى الحكم، لم يلغِ عناصر قوة اعتبارية قد تحققت لتركيا من خلال الجهد السياسي والدبلوماسي للحكومات التي سبقته، وإنما عمل على إضافة عناصر قوة جديدة من خلال رؤيته الاستراتيجية لموقع تركيا في المنطقة والعالم.

والكتاب في كل نصوصه وفصوله يؤكد أن الدولة التركية إذا أرادت أن تتبوأ مواقع متميزة في سياستها الخارجية، فعليها أن تلتزم بالمبادئ الستة التالية:

1- التوازن السليم بين الحرية والأمن..

2- سياسة تصفير المشكلات مع دور الجوار..

3- التأثير في الأقاليم الداخلية والخارجية..

4- السياسة الخارجية متعددة الأبعاد..

5- الدبلوماسية المتناغمة..

6- اتباع أسلوب دبلوماسي جديد..

ويوضح الدكتور أحمد داود أوغلو هذه القناعة وبشكل مكثف في المقدمة التي كتبها للطبعة العربية من كتابه بقوله: (وترغب تركيا في تحويل هذا التضامن والتعاون في الشرق الأوسط إلى واقع راسخ ومؤثر على المدى البعيد، كما تسعى إلى تبني مقاربة متعددة الأبعاد، حيوية ومستديمة، تجاه كل الأقاليم الجغرافية المرتبطة بها.. وتنظر تركيا إلى هذا التفاعل متعدد الأطراف على أنه لوحة فسيفسائية متناسقة الأجزاء ومتكاملة.. وقد وجدت هذه الحيوية التركية قبولا وتقديرا واسعا من الدول الأوروبية الحليفة، ومن الأدلة على ذلك تشجيع هذه الدول الوساطة التركية في أكثر من مناسبة لحل أزمات المنطقة.. وعلى الشاكلة ذاتها، تتبوأ تركيا، وعلى نحو غير مسبوق، موقعا مركزيا على مسرح الحراك الدبلوماسي في منطقة الشرق الأوسط، بينما تدفع القوة الناعمة والمصداقية اللتين تتمتع بهما تركيا دول المنطقة للعمل بشكل مشترك على حل المشكلات الإقليمية، وهو ما يساهم في تحقيق نتائج إيجابية على صعيديْ السياسة الداخلية والخارجية)..

وهذا التحول والتميز في الأداء السياسي التركي الراهن، يجعلنا نعتقد أن الرؤية السياسية الجديدة، هي وحدها القادرة على الاستفادة من عناصر القوة التي تملكها هذه الدولة أو تلك.. وإن المشكلة الحقيقية التي تواجه بعض الدول العربية على هذا الصعيد، هي غياب رؤية سياسية وإستراتيجية جديدة لإدارة أوضاعها وعناصر قوتها المختلفة.. لذلك فإن أداءها السياسي والدبلوماسي أقرب إلى الرتابة والجمود، مع العلم أنها تمتلك عناصر قوية حقيقية، إلا أنها تفتقد رؤية إستراتيجية جديدة..

ولعل هذه المسألة هي التي أضافها حزب العدالة والتنمية في المشهد التركي.. إذ إنه طرح رؤية إستراتيجية جديدة لإدارة المصالح التركية، وإعادة صياغة أولويات سياسته الخارجية على ضوء هذه الرؤية، والتي خلقت زخما إضافيا للدور والتأثير التركي في المنطقة..

ويحسب للدكتور أحمد داود أوغلو، أنه تمكن من صياغة إستراتيجية خارجية جديدة لتركيا، راكمت من عناصر القوة الذاتية والاعتبارية، ما أوصلها إلى مساحات تأثير حيوية على المستويين الإقليمي والدولي..

والذي يتأمل الواقع السياسي الجديد في تركيا، يلحظ أن حزب العدالة والتنمية ومنذ وصوله إلى الحكم، لم يلغِ عناصر قوة اعتبارية قد تحققت لتركيا من خلال الجهد السياسي والدبلوماسي للحكومات التي سبقته، وإنما عمل على إضافة عناصر قوة جديدة من خلال رؤيته الاستراتيجية لموقع تركيا في المنطقة والعالم.. لهذا فإن جهد حزب العدالة والتنمية، هو جهد تراكمي بعيداً عن نزعات الاستئصال والإلغاء، وإنما عمل على مراكمة عناصر القوة الاستراتيجية لتركيا وفق رؤية وزخم سياسي جديدين.. وحتى البعد الإسلامي في تجربة حزب العدالة والتنمية قد تم توظيفه بدقة لصالح المصالح العليا للدولة التركية.. فهو أحد الأبعاد المهمة التي أضافت للحكومة التركية مساحات تأثير لم تكن موجودة، وإن هذا البعد وفر لها القدرة الفعلية للمساهمة في إدارة ملفات إقليمية أو التأثير المباشر فيها..

وعلى كلّ حال، ما نستطيع قوله في هذا السياق، إن تجربة الدكتور أحمد داود أوغلو في السياسة الخارجية التركية، ومن ورائه تجربة حزب العدالة والتنمية، قد أضافت للموقع والدور التركي الكثير من عناصر القوة والحيوية.. وكتاب (العمق الإستراتيجي.. موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية) يبلور بدقة تامة الرؤية الإستراتيجية الجديدة التي تعتمدها تركيا في خياراتها السياسية، وأولوياتها الدبلوماسية.. وهذا ما يجعلنا نلحّ في القول: إن ما ينقص الكثير من دولنا العربية على هذا الصعيد هو رؤية إستراتيجية وسياسية جديدة سواء على صعيد الخيارات السياسية أو الأولويات الدبلوماسية الإقليمية والدولية.. فأغلب دولنا العربية تمتلك موقعا إستراتيجيا وحيويا، وذات عمق بشري ولديها الكثير من الإمكانات والثروات إلا أن دورها وحيويتها الإقليمية والدولية أقل بكثير من إمكاناتها وعناصر قوتها الفعلية.. لهذا فإننا نعتقد أن صياغة رؤية إستراتيجية جديدة لأوطاننا ودولنا العربية، مع وجود تصميم سياسي مستديم لتطبيق هذه الرؤية الجديدة، هي التي ستنهي حالة الجمود في الكثير من الدول العربية، وتحقق لها حيوية سياسية تُراكم من عناصر قوتها الذاتية والاعتبارية، وتوفر لها أدواراً ووظائف جديدة على المستويين الإقليمي والدولي..

لهذا فإننا نعتبر أن تجربة حزب العدالة والتنمية في إدارة الحكم، أضافت وراكمت لتركيا الكثير من المكاسب السياسية والاقتصادية.. لأنهم وببساطة شديدة، جاءوا إلى الحكم برؤية إستراتيجية متكاملة لشبكة المصالح الاستراتيجية لتركيا، وطرق حمايتها وتعزيزها في ظل التحديات والتطورات المتلاحقة في منطقة الشرق الأوسط والعالم..

وفي تقديرنا أن هناك عناصر رئيسية ساعدت حزب العدالة والتنمية على تحقيق هذه المكاسب من أهمها:

1- دولة ديمقراطية ومؤسساتية ؛ بحيث لا تدار الدولة التركية من خلال شخص واحد، بل من مجموعة مؤسسات مستقرة ولها تقاليدها الديمقراطية والتداولية، ما يوفر لجميع القوى السياسية والمدنية فرصة المشاركة والتأثير في الحياة السياسية بكل مستوياتها..

2- حكومة سياسية تدير شؤون تركيا المختلفة، وهي تستند في عملية إدارتها وتسييرها لشؤون تركيا إلى رضا وقبول شعبي ؛ حيث إن هذه الحكومة تتشكل من خلال موازين القوى في مجلس النواب.. وبالتالي فإن الجهة السياسية التي تحظى بقبول أغلبية الشعب التركي، هي التي يتسنى لها فرصة تشكيل الحكومة وإدارة البلد وفق رؤيتها وإستراتيجيتها التي حصلت على تفويض وقبول شعبي..

ودائما حينما تكون علاقة السلطة السياسية مع شعبها إيجابية ومحل احترام وثقة متبادلين، فإن هذا الانسجام والتناغم، يوفران للسلطة السياسية قوة هائلة على الصعيدين الداخلي والخارجي.. لهذا فهي تتحرك في خياراتها بعيدا عن الكثير من الهواجس، التي تعيشها السلطات السياسية التي تفتقد الرضا والقبول الشعبي..

3- إدارة سياسية واقتصادية متوازنة وتسعى إلى تحسين علاقتها مع الحكومات والسلطات، كما لا تتغافل أهمية تشكيل علاقة وإقامة روابط ونسج علاقات إيجابية مع القوى الشعبية والمدنية، بدون نزعة أيدلوجية صارخة، تثير هواجس أحد، بل تعمل على زيادة تأثير قوتها الناعمة في الحياة الإقليمية بعيدا عن الشعارات واليافطات الديماغوجية..

ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن حزب العدالة والتنمية ومن خلال تجربته السياسية الراهنة، هو من أنجح الأطراف التركية التي وظفت القوة الناعمة لتركيا في تسويق مشروعاتها وخياراتها السياسية والاقتصادية..

ويعرف الأمريكي والذي هو أول من نحت مصطلح القوة الناعمة (جوزف س. ناي) في كتابه (القوة الناعمة.. وسيلة النجاح في السياسة الدولية) حقيقة هذا المصطلح بقوله: والقوة الناعمة ليست شبيهة بالتأثير فقط، إذ إن التأثير قد يرتكز على القوة الصلبة للتهديدات والرشاوى.. كما أن القوة الناعمة أكثر من مجرد الإقناع أو القدرة على استمالة الناس بالحجة، ولو أن ذلك جزء منها.. بل هي القدرة على الجذب، والجذب كثيراً ما يؤدي إلى الإذعان.. وعند تعريف القوى الناعمة من خلال السلوك، فإنها - ببساطة - هي القوة الجاذبة.. أما بالنسبة إلى الموارد، فإن موارد القوة الناعمة هي الموجودات التي تنتج مثل هذه الجاذبية.. وفي السياسة الدولية، تنشأ الموارد المنتجة للقوة الناعمة إلى حد كبير من القيم التي تعبر عنها منظمة أو بلد ما في ثقافته..

وعلى كل حال فإن تركيا الراهنة ومن خلال رؤيتها الاستراتيجية لذاتها ووظيفتها الإقليمية والدولية، تحولت إلى عنصر جذب واستقطاب للعديد من الدول والشعوب..

ونحن نقول وبعيداً عن نزعات الانبهار أو النمذجة، إن ما وصلت إليه تركيا، هو نتاج عوامل وأسباب مركبة، والديمقراطية بكل تفاصيلها ومستوياتها ومتطلباتها، هي حجر الزاوية في هذه التجربة، وهي التي منحت تركيا الكثير من عناصر القوة والفرص..

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 30/حزيران/2011 - 27/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م