سلطات الدولة وتركيبة نظام الحكم

الانتخابات والبيعة

الشيخ فاضل الصفّار

التمهيد الأول: في سند السلطة شرعاً

 قد عرفت في المبحث الأول حاجة البشرية إلى سلطة ودولة تقيم العدل فيهم، وتوصلهم إلى السعادات المادية والمعنوية، كما عرفت سند السلطة عقلاً وعقلائياً، وأما شرعاً فإن النصوص المتضافرة من الآيات والروايات دالة على لزومها والحاجة إليها، وهي كثيرة:

منها: قوله سبحانه وتعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}[1] وإطلاق المعروف فيها يشمل كل ما يستحسنه العقل ويأمر به الشرع، ومصاديقه كثيرة، ومنها ما يرتبط بالشؤون العامة للأمة من إقامة الدولة ونظام الحكم، بل هما من أجلى هذه المصاديق؛ لأهميتهما وخطورتهما.

ومن أهم ما يتعلق بالشؤون العامة للأمة أمور ثلاثة:

أحدها: إقامة النظام.

ثانيها: بسط العدل.

ثالثها: الأمن الاجتماعي.

والخير في الآية إن قيل بأن المنصرف منه عرفاً المال والنعم المادية الظاهرة فيدل على الرفاه المادي، وهو من أهم أهداف الدول، وإن قيل بالإطلاق والتمسك بالأعم منه فيشمل حتى مثل العلاقات الإنسانية العامة، وحينئذ دلالته على المطلوب اوضح، والمنكر كذلك، فيشمل بقرينة المقابلة أيضاً ما استنكره العقل والشرع من قبيل الفوضى واختلال النظام والظلم والعدوان والفساد، وهذه في مجموعها تتضمن أهداف الدولة ومبرر وجودها؛ إذ لا يمكن للمجتمع أن يقوم بها جميعاً ولا فرادى، فلا بد من انتداب جماعة يتولون هذه المهمة نيابة عن الأمة، وتتسم هذه الجماعة بسمتين:

الأولى: أن يكون لها المؤهلات الذاتية من الخبروية والكفاءة والعلم والاستقامة ونحوها؛ بداهة توقف الأمر والنهي على معرفة الموضوع؛ لعدم انطباق الحكم ما لم يتحقق موضوعه كما هو واضح.

 الثانية: النيابة عن الآخرين في ممارسة هذا الأمر وتطبيقه في المجتمع، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بلسان الإنشاء { ولتكن منكم أمة} أي جماعة أو هيئة أو حكومة أو جهاز حاكم على اختلاف المصاديق والموارد والمراتب. ومن الواضح أن اقتصار الشارع في بيانه على الأصل وبيان الهدف المطلوب واكتفائه به عن بيان الوسائل والآليات معناه أنه أوكله إلى العرف والعقلاء؛ لما حقق في الأصول من أن طرق الطاعة عقلائية، كما أنه مقتضى الحكمة ودلالة الاقتضاء لصيانة كلام الحكيم عن اللغوية.

 وعليه فالجملة الإنشائية مضافاً إلى الأمر والنهي تدل على الوجوب، فيجب على الأمة القيام بهذا الغرض وجوباً كفائياً، فلو بادر إلى ذلك جماعة ممن لهم الأهلية والكفاءة سقط عن الباقين، وفي صورة عدم التصدي أو عدم كفاية المتصدين أو عدم كفاءتهم أو في صورة الاختلاف أو في صورة التصدي الفائض فإنه لا يبقى إلا طريق الانتخاب محققاً لهذا الغرض، فحينئذ يجب.

 وعليه ستمتلك هذه الهيئة سلطة الأمر والنهي وإصدار القرار بحسب النص الشرعي ورضا الناس، لكن حيث إن تحقيق هذا الغرض لا يتم إلا إذا لازمته الطاعة والالتزام، وإلا انتقض الغرض، ولزم الفساد والمنكر الذي أمر الشارع برفعه، وزال المعروف الذي أمر الشارع به، ولغوية الأمر والنهي، وهذا مالا يمكن التخلص منه الا بالحكم بوجوب التصدي للانتخاب على نحو الكشف او الحكومة، كما يحكم العقل بوجوب الطاعة للملازمة بينهما، ويؤيده مثل قوله تبارك وتعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}[2] بناءً على أن تفسير أولي الأمر في الأئمة (عليهم السلام) من باب بيان أفضل المصاديق وأجلاها لا من باب الحصر؛ ولذا قالوا بأن الأوامر في مثل هذه الآية إرشادية لا مولوية؛ لأنها مؤيدة أو ملفتة او كاشفة عن حكم العقل بوجوب الطاعة، وبهذا النص يكتمل وجود السلطة؛ إذ لا معنى لوجود هيئة لها الحق في الأمر والنهي دون أن يكون لها حق الطاعة.

فالطاعة إذاً هي الحلقة المكملة لحلقة الأمة، وبهما تكتمل عملية السلطة؛ إذ هناك جهة تصدر الأوامر والنواهي، وجهة أخرى تلتزم وتطيع وتنفذ، وإذا ما دققنا قليلاً في الآية الشريفة وجدنا أن مشروعية الطاعة متأتية من أنها طاعة لله أولاً، فالآية تقرر أن طاعة الله عز وجل أصل، كما أن طاعة الرسول أصل، وطاعة الإمام المعصوم أصل. أما طاعة أولي الأمر بناء على شمولها إلى غير المعصوم فهي طاعة تابعة للأصول الثلاثة، فالله والرسول والإمام بما لهم من ولاية يجب إطاعتهم والتسليم لهم، أما أولو الأمر فطاعتهم متوقفة على انطباق الأدلة في المؤهلات والاختيار، وبهذا النص يصبح لمقررات السلطة المنتخبة من قبل الأمة قوة إلزامية على مستوى الأمة، وبذلك تكتمل مكملات السلطة العامة، فالأمة تمارس سلطاتها من خلال الخلافة، فتنتخب الهيئة التي تقوم بما لا تستطيع بمجموعها القيام به من أمور الدولة ونظام الحكم، وتمارس هذه الهيئة سلطاتها على الناس بحسب القوانين والشريعة التي أسسها الباري عز وجل وحكم العقل بلزوم إطاعتها. ومن الواضح أن السلطة حتى تحقق أهدافها لا بد وأن تستوعب شؤون البشر، وتسد حاجاتهم دفعاً لنقض الغرض، فكان لا بد من شمولها لمختلف الحاجات البشرية، وحيث إن أهم الحاجات البشرية ثلاث هي:

أولاً: القانون المنظم.

ثانياً: القوة المنفذة.

ثالثاً: القوة الحاكمة في رفع التنازع والتخاصم.

ولولا هذه الثلاثة لا يقوم أمن في المجتمع، ولا يقام نظام، من هنا كان لا بد للسلطة العامة من أن تصنف إلى ثلاث سلطات:

الأولى: هي سلطة لها الحق في إصدار القرارات العامة التي يخضع لها المجتمع جميعاً، فلها حق التقنين للنظام، وهي ما يصطلح عليها بالسلطة التشريعية وإن كان لنا تأمل في هذا التعبير.

 الثانية: السلطة التي تنفذ هذه الأوامر والقرارات.

 الثالثة: السلطة التي تقوم بفصل المنازعات وهي سلطة القضاء.

 التمهيد الثاني: لا انتخاب في مقابل النص

عرفت مما تقدم أن السلطة المعصومة كسلطة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسلطة الإمام المعصوم (عليه السلام) لا تخضع للانتخاب؛ لتقدم النص الإلهي على رأي الأمة وتنصيبها، فالولاية المعصومة وطاعتها مضافاً إلى كونها منصبا إلهيا فهي حكم إلهي أيضاً، ولا خيار للمكلف في الأحكام الشرعية، بل عليه التعبد والالتزام، والقول بالخيار في العصمة يستلزم الاجتهاد مقابل النص، فضلاً عن مساواة الداني بالعالي والراجح بالمرجوح، وهما قبيحان عقلاً.

نعم للأمة إظهار الرضا والتسليم والانقياد بواسطة البيعة للمعصوم التي جرت عليه سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجملة؛ ولذا لا يجب البيعة في غير المعصوم على قول. نعم يستحب تأسياً واقتداءً، أو رجاء للمطلوبية على ما ستعرفه في الفصول القادمة. وعليه فالنص مقدم على الانتخاب رتبة، كما أنه مقدم على البيعة؛ إذ لا اجتهاد في مقابل النص، فعليه لا انتخاب في العصمة، وإنما الانتخاب يقال في غير المعصوم على ما ستعرف تفصيله.

المسألة الأولى: هل الانتخاب واجب ؟

احتمالات، ويرجع الاختلاف بينها إلى المستفاد من أدلة الولاية، فإن المحتملات فيها عديدة ناشئة من الاختلاف في الدلالة وأنها على نحو الطريقية أو الموضوعية، فبعضهم يرى أن أدلة الولاية طريقية، بمعنى أنها طريق لتمييز الحاكم الصالح للولاية عن غيره،وعليه فأدلة الولاية ليست تنصيبية، بل ترشيحية، وهذا ما ربما تعضده طائفة من الروايات.

منها: ما ورد عنه (عليه السلام): «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه»[3] ومن الواضح أن قوله (عليه السلام): «للعوام أن يقلدوه» ظاهر في الترشيح والتقليد ليس في الأمور الفردية والعائلية فقط، بل يجري في الأمور العامة الشاملة حتى للسياسة والاقتصاد وغيرها،وعلى فرض اقتصار الترشيح في الأمور العملية الشخصية الهامة التي تتوقف عليها حياة الإنسان الأخروية بل والدنيوية فانه يفيد الترشيح للحكومة بالأولوية؛ لأنها أهم، لتوقف الأمور الشخصية والعامة عليها. 

وكيف كان، فإن الاجتهاد يمكن أن يتحقق عند فقيه جامع للشرائط وعند فقيه آخر غير جامع، والرواية الشريفة حيث عينت الصفات وأوكلت أمر التقليد إلى الناس في اختيار من يرونه متصفاً بهذه الصفات فهو ظاهر في ترشيح هذا النوع من الفقهاء إلى التقليد، لا تنصيبه في ذلك.

ومنها: التوقيع الشريف الوارد عن مولانا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم»[4] فانه يستفاد منه الترشيح أيضاً، ووجه الاستدلال أن المراد من الحوادث الواقعة لا تخلو من احتمالات ثلاثة، وهي:

أولاً: أن يراد منها الأحكام الشرعية الكلية.

ثانياً: الأمور الفرعية الجزئية كحل الخصومات والنزاعات.

ثالثاً: الحكومة وتطبيق القوانين الإسلامية في مختلف المجالات.

والأولى مهمة إفتائية، والثانية مهمة قضائية، والثالثة حكومية، وحيث إن إطلاق التوقيع الشريف يتحمل الجميع ولا يوجد مقيد أو مخصص يضيق الدلالة أو يمنع منها فلا مانع من شموله للجميع بعد وجود المقتضي، فيثبت وجوب الرجوع إلى الفقهاء لا غير؛ لأنهم أجلى مصاديق رواة حديثهم المتفقهين، وقد عرفت سابقاً أن المقصود من رواة الحديث عرفاً ليس الراوي لمجرد كونه راوياً، بل متفقهاً لمفاد كلامهم وحدود دلالاته ومعانيه، وعلى فرض القول بانصراف الرواة إلى مجرد الراوي فيثبت الرجوع إلى الفقهاء بالأولوية؛ لكونهم رواة وأكثر.

 وكيف كان، فالمستفاد من مثل هذه الرواية هو ترشيحهم لرجوع الناس إليهم لا تعيينهم؛ لتوقف التعيين على الراجع بعد عدم النص على مصداق خاص وتعدد المصاديق، وربما يؤيده ما رواه الكليني رحمه الله بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «اعرفوا منازل الناس منا على قدر روايتهم عنا»[5] ويؤيده أيضاً ما رواه في الاحتجاج عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في حديث طويل. قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): «من خير خلق الله بعد أئمة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال: العلماء إذا صلحوا»[6] إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد منها الترشيح لهذا المقام لا التنصيب والتعيين.

 وعليه فإن الانتخاب يصبح واجباً هنا بداهة توقف الواجب - وهو نصب الحاكم- عليه؛ لكون ما يتوقف عليه الواجب واجبا. وبالتالي فإن شرعية حكومة الفقيه متوقفة على رأي الأمة وانتخابها له، كما أنها خاضعة استمراراً لبقاء رأيها.

ومن الاحتمالات أن يقال بأن أدلة ولاية الفقيه موضوعية، فتفيد تنصيب الفقيه في هذا المنصب، ولازم ذلك أن انتخاب الأمة وعدمه لا يؤثر في حكومته إلا بمقدار إظهار الولاء والالتزام بالطاعة والانقياد، كما أن عدمه لا يؤثر في عدم شرعيته بداهة أن التنصيب من قبل المعصوم (عليه السلام) يمنع من الاجتهاد والرأي في قباله، سواء كان هذا التنصيب خاصاً كالنواب الأربعة في زمن الغيبة الصغرى، أم عاماً كالفقهاء العدول في زمن الغيبة الكبرى، وهذا ما ربما يظهر من كلمات الشيخ الأعظم [7] (قدس سره)،والمحكي عن الفقيه الهمداني[8]والميرزا النائيني قدس سرهما[9].

ومن الاحتمالات ما اختاره جمع من الفقهاء على ما يظهر من كلامهم، منهم السيد الشيرازي (قدس سره) في الفقه[10] والسيد الصدر (قدس سره) في كتابه الإسلام يقود الحياة[11]،والسيد السبزواري (قدس سره) في المهذب[12]، ولعله المشهور، وهو يفيد أن الفقيه هو المجعول شرعاً للحكومة؛ لموضوعية دلالة الولاية وطريقيتها الكاشفة عن أفضليته، إلا أن فعلية ولايته متوقفة على رأي الأمة، فحكمه حكم الواجب المعلق، كالاستطاعة والحج، والصلاة والوقت، والخمس ودوران الحول، ونحوها من الواجبات.

 ومن الواضح أن رأي الأمة كما يمنح الفقيه صلاحية ممارسة السلطة لا أصلها كذلك عدمه يسلب هذه الصلاحية، وهذا يختلف عن الرأي الأول؛ لان رأي الأمة في الأول هو الذي ينصب الفقيه حاكماً، بخلاف الثالث فإنه لا ينصبه؛ لكونه منصوباً بالتنصيب العام من قبل المعصوم (عليه السلام)، وإنما الانتخاب يعطيه فعلية ممارسة السلطة، والثمرة بين الآراء الثلاثة تظهر في سعة سلطة الفقيه وضيقها في صورة تعدد الفقهاء وتصدي أحدهم، أو اختيار أحدهم، ونحو ذلك، فإنه على الرأي الأول لا مجال لغير المنتخب التصدي وممارسة مهام الفقيه السياسية والاجتماعية في الدولة، بخلافه على الثالث فإنه يحق للفقيه ممارستها، لامتلاكه حق السلطة والحكم. نعم ربما يقال بأن صلاحيته في مباشرة شؤون الدولة منحصرة بمقدار ما ارتضته الأمة.

 وبهذا يختلف القول الثاني عنهما؛ إذ يرى للفقيه حق التدخل مطلقا في شؤون الدولة وغيرها؛ لكونه الحجة المجعولة من المعصوم (عليه السلام)، سواء وقع عليه الانتخاب أم لا، بل كل مشروع أو عمل يرتبط بالشؤون العامة كالعمل السياسي أو الحزبي أو الجهادي ونحوها فإنه مشروط بإذنه.

 ومن الواضح أن الحكم يختلف بين هذه الآراء أيضا، فإن الانتخاب على الأول والثالث واجب كفائي، بينما على الثاني هو الإباحة بالعنوان الأولي، فإذا انطبق عليه عنوان راجح كتقديم الأكثر وما أشبه للحكومة يكون مستحباً، فإذا توقف عليه حفظ النظام وبسط العدل يصبح من الواجبات حينئذ.

 هذا وهناك احتمال رابع، وهو أن الحكومة إذا تصدى لها الفقيه فلا دور للانتخاب إلا بمقدار إعلان الرضا وإظهار الالتزام والطاعة، لكون أدلة الولاية موضوعية، وأما إذا تصدى غيره فيجب الانتخاب حتى لو كان تصديه بإذن الفقيه الجامع للشرائط؛ وذلك لقصور أدلة الولاية عن شمولها لصورة الحكومة غير المباشرة، إما لانصرافها إلى تولي الفقيه مباشرة أو للأخذ بالقدر المتيقن في صورة الشك، وهو صورة مباشرة الفقيه لا استنابته، أو لأن ذلك هو مقتضى الجمع بين أدلة الولاية ودليل السلطنة؛ إذ إن أدلة الولاية على الموضوعية حاكمة على دليل السلطنة في صورة المباشرة، ولا نعلم بحكومتها عليها حتى في صورة توسيط الفقيه للحكومة، ولا أقل من الشك في المسألة، وحينئذ ينبغي الأخذ بالقدر المتيقن، وهو عدم وجوب الانتخاب في صورة مباشرة الفقيه، وأما في صورة الاستنابة فواجب.

 ولعل مما يعضد ذلك أن رأي الفقيه حجة فيما إذا كان في الأحكام ونحوها، وأما في الموضوعات الخارجية فلا، وترشيح الفقيه للحاكم من قبيل الثاني لا الأول. نعم إلا إذا قيل بأنه وإن كان من الموضوعات إلا أنه من الموضوعات المستنبطة أو المشمولة بحكم الحاكم الشرعي، كإثبات الهلال، والحكم في المنازعات والأحكام العامة، فحينئذ يجب أيضاً.

هذا ولا يخفى عليك أن للانتخاب بناء على وجوبه أو رجحانه طرقا وأساليب متعددة، منها الطريق التلقائي كاختيار المقلدين مرجعهم في الفتيا، فإنه لا يخضع لطريق اقتراع أو تصويت أو صناديق رأي، بل كل مكلف يختار مقلده ويرجع إليه في شؤون التقليد والفتوى.

ومن الواضح أن الاختيار في التقليد هو اختيار للحكومة أيضاً، بناء على ثبوت الولاية؛ لأنها جميعاً مناصب، إذ عرفت أن الفقيه له مناصب ثلاثة ومنها الحكومة، وربما يؤيده أن التقليد كاشف عن رضا الأمة، وهو الغرض المقصود من الانتخاب أيضاً، فحينئذٍ إذا اختار المقلد مرجعه في شؤون الفتوى دل ذلك عرفاً على أنه اختاره في كل مناصبه حتى وإن لم يكن هناك صندوق اقتراع أو مظهر مباشر للانتخاب، وإن جاز للمقلد أن يبعض في تقليده ابتداءً، فيرجع لفقيه في الأحكام ولآخر في الحكومة ابتداءً على قول، أو استمراراً على قول آخر، ومن هذه الطرق التصويت المباشر، ومنها التصويت غير المباشر بواسطة أهل الخبرة، أو هيئة موثقة مخولة، ونحو ذلك، فإن ذلك لا يضر ما دامت من الموضوعات التي سكت عنها الشارع، وليس فيها تأسيس جديد ما دامت تحقق الأغراض العقلائية في الحكومة والانتخاب.

لزوم الانتخاب بالعنوان الأولي

هذا وقد استدلوا على لزوم الانتخاب بدليل العقل أيضا من جهة السبر والتقسيم، وتقريره: أنه إن جعلت الولاية للفقهاء عامة ولاية فعلية فإما أن يكون كل واحد منهم مستقلاً بالفعل فهذا يوجب الهرج والمرج الشديدين والاختلاف الكثير؛ لاستلزامه تعدد الحكام بتعدد الفقهاء، وهذا ما لا يمكن الالتزام به؛ وإما أن تكون ولاية بعضهم مشروطة بولاية بعض، وهذا خلاف المنساق من أدلة الولاية، أو كون الولاية للمجموع من حيث المجموع، وهذا في المجال النظري قد يتصور امكانه، لكنه في مقام العمل غير ممكن، لعدم الوجود الخارجي لذلك، مضافاً إلى مخالفته لظواهر أدلة الولاية الواردة بنحو العموم الاستغراقي المنحل حكمه على مصاديقه وأفراده، كقولهم: «مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله»[13] وكقولهم: «الفقهاء أمناء الرسل»[14] ونحو ذلك من أدلة، وعليه فلا بد وأن يقال بأن الفقهاء منصوبون لذلك شأنياً، وإنما تكون فعلية ولايتهم بانتخاب الناس لا غير، أو تكون أدلة الولاية ترشيحية والانتخاب معين للحاكم، لكن أجيب عنه بجوابين:

 الأول: الخروج التخصصي؛ وذلك لأنه لا يستظهر من أدلة الولاية الشأنية، بل هي ظاهرة في الفعلية، والمحاذير المذكورة من تعدد المتصدين ونحوه يجاب عنه في تقديم المتصدي السابق؛ لأن الحق لمن سبق؛[15] بناء على شموله لمثل هذه الموارد، وعليه فإنه لو تصدى بعضهم لأمر الولاية وتدخل فيها فعلى الباقين قبول قوله وحكمه، كما هو كذلك في أمر القضاء، أو إثبات الهلال مثلاً، ولو بلغ التصدي حد التزاحم كما لو تصديا معاً فلا يبعد إعمال المرجحات بينهما استئناساً بما في مرجحات الروايات، كمقبولة عمر بن حنظلة[16]، بناءً على دلالتها على المقصود، وبسيرة العقلاء، وأدلة التزاحم الحاكمة بترجيح الراجح.

 ولا يخفى أن ملاكات باب التزاحم وتقديم الراجح مما يعتمد على تشخيص المرجحات من العلم والفقاهة والتدبير والإحاطة بالأمور والوثاقة وغيرها، وهذا إنما يقع على يد أهل الخبرة، كما هو كذلك في مرجع الفتوى والتقليد، فيخرج موضوعاً عن الانتخاب؛ لكونه من قبيل تشخيص الموضوعات المستنبطة أو الخفية، كما هو الأمر في تشخيص الطبيب للسلامة والمرض في أمر الصوم مثلاً.

 وبالجملة: جميع هذه الموضوعات يرجع فيها إلى أهل الخبرة من دون الحاجة إلى الانتخاب، والرجوع إلى أهل الخبرة مبتن على بناء العقلاء في رجوع الجاهل إلى العالم، وهذا خارج عن الانتخاب تخصصاً، وما قيل من أنه لولا الانتخاب يلزم الهرج والمرج فربما يقال فيه: إن ذلك قد جرى في مرجع الفتوى، واستقر تعيين الأعلم في الفقاهة على أهل الخبرة من العلماء في فرد معين أو أفراد معينة في كثير من الأعصار، ولم يلزم في ذلك هرج ومرج واختلال نظام في الأمة، وربما يؤيده عدم تعرض الفقهاء له في كتبهم الكاشف عن وضوح عدم المحذور فيه، فيتلخص مما تقدم عدم الحاجة إلى الانتخاب؛ لأنه إن قام بعض الفقهاء اللائقين بأمر الولاية من غير معارض كان على غيره متابعته من دون الحاجة إلى الانتخاب، وإن وقع على التزاحم فاللازم الأخذ بالمرجحات، كما ورد في غير مورد من أبواب الفقه؛ وذلك لانحصار الطريق فيه وعدم المناص عنه، والناظر في هذا الأمر هم أهل الخبرة، ومع الرجوع إلى أهل الخبرة لا يبقى موضوع للانتخاب، بل لا دليل عليه؛ لما عرفت من عدم وجوده في رواياتنا، ولا في كتب فقهائنا.

 إن قلت: قد جرت سيرة العقلاء من الأمم على الانتخاب في أمر الولاية، فتشمله أدلة الوفاء بالعقود وعموم تسلط الناس على أموالهم وعلى أنفسهم

قلت: جريان سيرة العقلاء على ذلك إنما هو لعدم اعتقادهم بتعيين إلهي من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام)، وأما نحن فبعد قولنا به وفق الأدلة السابقة وأن الوظيفة هنا معلومة من قبلهم وأن الولاية من ناحية الله عز وجل فقط لا يبقى مجال لما قيل.

الثاني: عدم إيفاء الانتخاب بالغرض؛ وذلك لأن الانتخاب الذي دار بينهم إنما هو انتخاب الأكثرين لا الجميع؛ لعدم إمكانه عادة، بل المراد من الأكثر عندهم أكثر من يشترك في الانتخاب، وقد لا يشترك فيه إلا الأقلون منهم، والملحوظ في كثير من الانتخابات أن وكلاء الناس ينتخبون بآراء قليلة بالنسبة إلى كل المجتمع، كمليون نفر من بين عشرة ملايين، ولو صحت هذه الحكومات لكانت من قبيل حكومة الاقلية على الاكثرية؛لأنها ناشئة من جمع قليل منصوب على جمع آخر كثير بغير رضا منهم ولا توكيل.

إن قلت: إن الفقيه لا يقدر على إعمال الولاية بدون مشاركة الناس في أمره وتأييدهم له وبذل أنفسهم في نصرته فالانتخاب إنما هو لجلب مساعدتهم لذلك، وهذا هو المراد من أن ولاية الفقيه لا تكون إلا اقتضائية وفعليتها في الانتخاب، أجيب عنه بأن عدم قدرة الفقيه على ذلك ليس دليلاً على عدم فعليتها بدونه، كما في سائر الحقوق، مثل: من كان مالكا لدار وغصبها منه غاصب فلا يقدر على أخذ حقه منه بدون مساعدة الناس، وأين هذا من كون مالكيته شأنية لا فعلية.

 وبالجملة: أن أصل الولاية غير منوط بمساعدة الناس، وإنما المنوط بها هو إعمال الولاية، وفرق واضح بين إعمال الولاية وأصل ثبوتها. هذا حاصل ما أوردوه على صحة الانتخاب، والظاهر أنه يمكن الإجابة عنه من وجوه أيضاً:

الأول: أن الحكم بالرجوع لأهل الخبرة لتعيين الفقيه قريب إلى المصادرة؛ بداهة حاجتهم إلى رضا الأمة في تعيين من يرونه كفئاً للحكومة، وقياس مسألة الحكومة والسلطة على سائر الموضوعات المستنبطة أو الخفية كالمسائل الطبية ونحوها مع الفارق من جهات:

 منها: أن مسائل الطب ونحوها لا ترتبط بالتصرف بكل شؤون الناس الهامة والخطيرة، بل بمسألة واحدة، لكون المريض يرجع إلى الطبيب ويسلطه على نفسه فقط لا على نفسه ونفس غيره، أما في تعيين أهل الخبرة فإنهم يولون الحاكم على أنفسهم وعلى غيرهم وعلى كل البلد؛ فلذا لا بد من أخذ رضاهم كما هو مقتضى قانون السلطنة.

ومنها: أن المثال المذكور على المطلوب أدل؛ بداهة أن الطبيب يشخص لكونه من أهل الخبرة، ومع ذلك يبقى المريض مخيرا في اختيار من يريد من بين الأطباء، وكذلك ما نحن فيه، فإن سلطة أهل الخبرة متأخرة رتبة عن سلطة الناس على أنفسهم؛ ولذا قد تتسع وقد تضيق بقدر ما أعطاهم الناس من الصلاحية، وإلا فإن مهمتهم الأولى هي تشخيص الأفضل أو الأكفأ لا تعيينه على الناس؛ لتوقف سلطتهم على التعيين على رضا وإذن من الأمة، فيثبت أنه لا بد من إحراز رضا الأمة بواسطة الانتخاب ونحوه أولاً.

الثاني: قولهم بعدم وجود الدليل والأثر في الفقه أو في التاريخ عن الانتخاب فقد عرفت جوابه؛ إذ تقدمت طائفة من الآيات والروايات التي أقيمت على لزوم الانتخاب، مضافاً إلى كفاية بناء العقلاء وسيرتهم على ذلك لعدم صدور بيان من الشارع في كيفية التعيين، فتكون أدلته في مثل ذلك إمضائية.

وأما في التاريخ فقد اشتهر النقل في سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان إذا فتح بلدة يخيرهم بين أن يختاروا لأنفسهم حاكماً، أو يختاروا حاكمهم الأول، أو يعين لهم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) حاكماً، فما اختاروه يجريه لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)[17].

وأما قولهم بجريان سيرة العقلاء على الانتخاب في غير مورد النص فصحيح لو كان النص خاصاً، وأما في النص العام فلا مناص من الانتخاب؛ بداهة عدم تعيين حاكم واحد يرفع الإبهام، ويحل النزاع، ويمنع من التزاحم، ومع وجود المقتضي فيمن توفرت فيه الشرائط وعدم حاجة الموضوع إلى أكثر من حاكم واحد لإيفاء الحاكم الواحد بالغرض فإنه لا مخلص في التعيين إلا بالرجوع إلى القرعة؛ لأنها لكل أمر مشكل، أو الانتخاب، والثاني أفضل؛ لأنه مضافاً إلى إمكان القول بأنه من مصاديق القرعة بناء على التوسعة في موضوعها وإطلاق حجيتها حتى في غير موارد عمل الأصحاب فإنه يجمع بين الحقوق والأدلة وأدفع لمحاذير الظلم والفساد المتوقعة في مسائل الحكم والسلطة.

الثالث: قولهم إشكالاً على الانتخاب بعدم إيفائه بالغرض منقوض باختيار أهل الخبرة أيضاً؛ لطرو ذات الاحتمالات فيه، خصوصاً في صورة تعارض آرائهم، وغالباً ما يقع ذلك في الخارج، بل الإشكال في الرجوع إلى أهل الخبرة في التعيين أجلى وأوضح؛ لاستلزامه تحكيم الأقلية على الأكثرية احيانا، مع أن من ضمن الأكثرية من هو من أهل الخبرة أيضاً، بل وربما كان من هو أعلى رتبة وكفاءة منهم. هذا مضافاً إلى إمكان جعل ضوابط للانتخاب تمنع من وقوع المحذور المذكور، وعليه فلا مناص من الالتزام بالانتخاب بأنحائه الثلاثة، لأنه أفضل الاختيارات عقلاً وعقلائياً، أو ترك الناس دون اختيار، وهو فوضى وهرج ومرج، أو تولي أمورهم من قبل المستبدين بالقهر والغلبة، وهو قبيح عقلاً وحرام شرعا.هذا حكم الانتخاب بحسب العناوين الأولية.

حكم الانتخاب في العنوان الثانوي

وأما بحسب العنوان الثانوي فالظاهر اتفاق الآراء على وجوبه لدفع الاستبداد والأخطار المتيقنة أو المظنونة أو المحتملة أو الموهومة، وهذا الاتفاق من باب الإجماع على الكبرى لا الصغرى كما لا يخفى، ولعل هذا ما يستفاد من كلمات الميرزا النائيني (قدس سره) وبعض الفقهاء المعاصرين، فقد ذكر الميرزا النائيني (قدس سره) في كتاب تنبيه الأمة وتنزيه الملة بدستورية الحكومة. قال في غيبة الإمام المعصوم (عليه السلام): فإن أفضل وسيلة لتجنب انحراف السلطة هي التزام الحاكم بدستور يحدد حقوق وواجبات الدولة، ثم إنشاء مجلس يضم الأذكياء والحكماء في البلاد الذين يضمرون الخير للشعب من أجل الإشراف على تطبيق الدستور ومراقبة أعمال الدولة، ويجب أن لا يتضمن الدستور أي مواد تتعارض مع الإسلام، كما يجب أن يضم المجلس من بين أعضائه عددا" من المجتهدين الذين يراقبون التزام قوانينه بالإسلام[18].

وإطلاق هذا الكلام يشمل الحكومة التي يتولاها الفقيه الجامع للشرائط بالمباشرة أو بالواسطة، ثم بعد ذلك يضيف قائلاً: وحيث كان عدم رضاء الشارع باختلال النظام وذهاب بيضة الإسلام من الواضحات الضرورية، واهتمامه بحفظ الممالك الإسلامية وانتظامها أكثر من اهتمامه في سائر الأمور الحسبية؛ لهذا كان ثبوت نيابة الفقهاء والنواب العموميين في عصر الغيبة على إقامة الوظائف المذكورة من أوضح القطعيات في مذهبنا[19]. ويستظهر منه أنه يمكن للفقيه أن ينصب حاكماً بالنيابة.

 وعلى هذا فمن الواضح أن تحويل السلطة الجائرة الغاصبة من منحاها الظالم إلى العادل علاوة على سائر المذكورات موجب لحفظ بيضة الإسلام وصيانة حوزة المسلمين من استيلاء الكفرة الجائرين، ومن هذه الجهة يصبح تعينها من أهم الفرائض وأولها، ولا يبعد أن صدور الإذن فيها عمن له ولاية الإذن يلبسها مع ذلك لباساً شرعياً. وهذا قد يجري حتى على القول بعدم ولاية الفقيه؛ لأن انتخاب المجلس الذي يشرف على تطبيق الدستور وما أشبه ذلك لابد وأن يرجع إلى اختيار الأمة، وهذا الاختيار يكون واجباً بالعنوان الثانوي حتى على القول بعدم وجوبه بحسب العنوان الأولي.

ولعل هذا متفق عليه حتى عند المنكرين لولاية الفقيه في شأن الحكومة؛ بداهة دخول المسألة في صغريات باب التزاحم ونحوه، وحيث إن الأخطار عظيمة وكبيرة لما تتعلق بدماء الناس وأعراضهم وأموالهم بل وحاضرهم ومستقبلهم أجيالاً وأجيالاً وبثروات البلاد وكل شؤونها فيحكم العقل بوجوب دفع هذه المفاسد سواء كانت متيقنة أو مظنونة أو موهومة؛ ومن أهم طرق دفعها هو الانتخاب والرجوع إلى الناس أنفسهم في شأن الحكومة والحاكم، فبذلك نضمن أموراً:

 أحدها: دفع الاستبداد والقهر والغلبة الذي يستلزم الظلم والجور.

 ثانيها: كسب رضا الناس وتفعيلهم في بناء حاضرهم ومستقبلهم.

ثالثها: التقدم بالبلد والمواطنين وإيصالهم إلى الرفاه.

رابعها: توفير الأمن والسلام وبسط العدل الذي يتوقف على تشريك الناس في قرارات الحكومة ونظام الحكم.

 خامسها: القضاء على عناصر الفساد الداخلية والحروب الأهلية والقمع ونحوها من عوامل فساد تنشأ من الاستبداد والتفرد بالرأي، إلى غير ذلك من مظاهر التخلف والانحطاط.

 المسألة الثانية: حق الافراد في الانتخاب

 لا شك في أن كل بالغ عاقل له حق انتخاب الحاكم لإطلاق الأدلة، كما أن الظاهر لدى جمع من الفقهاء ومنهم السيد الشيرازي (قدس سره) في كتابه الحكم في الإسلام الذهاب إلى أنه يحق لغير البالغ ولغير العاقل أن يكون له صوت بواسطة وليه، لشمول إطلاقات أدلة الولاية له، وشمول إطلاقات أدلة الانتخاب.[20]

لا يقال: إن كان ذلك حقاً وجب وإلا يحرم. أما الوجوب فلقاعدة الحقوق المستفادة من مثل قولهم (عليهم السلام) «لئلا يتوى حق امرئ مسلم»[21] ويتوى في اللغة: الهلاك[22]، وهو هنا كناية عن الهضم والاستلاب، وعليه فإنه إذا كان للصغير والمجنون أو السفيه حق الانتخاب وجب عليه، وأما إن لم يكن له حق فيحرم عليه؛ لأنه يكون حينئذ تصرفاً في حق الكبار وتضييعاً لحقوقهم، لأنه يقال: الحق موضوع عرفي، فإن تحقق ثبتت أحكامه، لكون الحكم يتبع الموضوع، ومنه يعرف الحق بالنسبة إلى المجنون أيضاً، وعليه فإنه في تحديد أن ذلك حق أو لا ينبغي الرجوع فيه إلى العرف، فإذا رأى أنه حق وجب القيام به ولو بواسطة الأولياء.

والمرأة كالرجل في حق الانتخاب، كما أن لها حق انتخاب مرجع التقليد والقاضي وإمام الجماعة وغير ذلك فكذلك في الحكومة، لعدم الخصوصية في التقليد ونحوه، أو لفهم عدم الخصوصية، بل وللاشتراك في التكليف. نعم لا حق لها في أن تتقلد رئاسة الدولة اذا توقفت عليها مهمات قضائية أو إفتائية، لما ذكره الفقهاء في باب تولي المرأة للقضاء ولمرجعية التقليد من الأدلة الشرعية والعقلية، ولوضوح أن المرأة عاطفية ومثلها لا تصلح للأمور العقلائية التي تتوقف على مزيد من إعمال النظر والتفكير والعمل بالضوابط العقلية المجردة عن العاطفة، كما أن الرجل عقلاني، ومثله لا يصلح للأمور العاطفية عادة، وقد أثبتت التجارب العلمية والبشرية عدم استعداد المرأة بنفسها لخوض هذا الميدان.

ففي البلدان التي تزعم أنها ساوت بين الرجل والمرأة لم تصل المرأة بعد إلى هذا المنصب إلا نادراً ندرة قد تلحقه بالمعدوم، وفي هذا قال السيد الاستاذ (قدس سره) في كتابه الحكم في الإسلام: إن التجارب دلت على أن وقت تسنمها هذا المنصب اضطربت البلاد، ووقعت فيها المشاكل، كما في زمان أنديرا غاندي في الهند وغيرها[23]، وهذا قد يكشف عن عدم التناسب بين قابليات المرأة النفسية ومقتضيات السلطة العليا.

 المسألة الثالثة: في تحديد مدة الانتخاب

يمكن وضع مدة محددة لتولي الحاكم لمنصب الحكومة، ولكن لا معين للمدة من ناحية الكم أو الكيف إلا رضا الأمة، أما بقاء الرئيس في منصبه مدة أكثر أو اقل مما منحته الأمة فلا يجوز، كما أن الرئيس يعزل بمجرد خروجه عن الأهلية، وكذلك بعد انتهاء مدته؛ لفقده حينئذٍ شرط رضاية الأمة. ولو اختلفت الأمة في الرئيس بأن انتخب جماعة هذا وانتخب آخرون غيره فإن كانا متساويين اشتركا في الحكم مع رضا الأمة بالاشتراك، أو أخرج الرئيس بالقرعة؛ لأنها لكل أمر مشكل.

ويمكن اختياره للرجوع إلى مرجع آخر في صورة رضا الأمة بالرجوع إلى مرجع ثالث لحسم الاختلاف، وأما إذا حدث في الانتخاب أكثرية وأقلية فالرئيس هو منتخب الأكثرية، ويدل على ذلك العقل والسيرة العقلائية والنقل، بل إن ظاهر قوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم}[24] وقوله عز وجل: {وشاورهم في الأمر}[25] أن الغالب الذي يندر خلافه أن تنتهي الشورى إلى إجماع الكل، بل الغالب انتهاء الأمر إلى رأيين أو آراء، وتكون الغلبة لرأي الأكثرية للابدية العقلية حينئذ؛ وذلك لأنه يدور الأمر بين تقديم رأي الأقلية على الأكثرية أو عدم تقديم رأي كل منهما، أو العمل برأي كل منهما، وهذه الثلاثة كلها باطلة. أما تقديم الأقلية على الأكثرية فلأنه ترجيح للمرجوح على الراجح، وأما عدم الأخذ برأيهما فلأنه خلف وتناقض، وانتهاء الأمر إلى عدم القرار الذي ينتهي إلى الفوضى واختلال النظام، وأما العمل بكلا الرأيين فلأنهما اما متناقضان فيستحيل الجمع بينهما، أو متخالفان فيتعذر الجمع ؛ وعليه لا يبقى حل إلا بتقديم رأي الأكثرية وهو مقتضى الجمع بينهما.

 وفي كتاب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى معاوية[26]وكذا الى طلحة والزبير[27] مايشهد لذلك مع وضوح أنه لم يبايعه كل المسلمين، ولا كل أهل الحل والعقد، بل اكتفى عليه السلام برأي الاكثرية على ماعرفت نصه.

 المسألة الرابعة: في صور انتخاب رئيس الدولة

يمكن انتخاب الرئيس بصور متعددة، ومن أهمها صورتان:

 الأولى: أن تنتخبه الأمة مباشرة، فيقوم المرشح ونوابه بحملات انتخابية، بشرط أن يكون المرشح لائقاً لهذا المنصب، بمعنى أن تتوفر فيه المؤهلات الشرعية والعقلائية، وبشرط أن تكون الحملات النيابية حملات نظيفة مطابقة للقوانين الشرعية.

 الثانية: أن تنتخب الأمة النواب مع تفويضهم أن ينتخبوا الرئيس، فتكون هذه صورة أخرى عن انتخاب أهل الحل والعقد، ثم إذا اختلفت الأمة وأهل الحل والعقد حول الرئيس فأراد أحدهم هذا وأراد الآخر ذاك كان المرجع رأي الأمة؛ لأن أهل الحل والعقد أو النواب وما أشبه وكلاء عنهم، ولا رأي لوكيل مع مخالفة الأصيل، وأما الخصوصيات الأخرى فالمرجع فيها رأي الأمة في إطار رضا الله عز وجل.

المسألة الخامسة: في وجوب الترشيح للحكومة

الظاهر أن وجوب الترشيح للحكومة ولشعبها المختلفة واجبٌ عيني لمن توفرت فيه الشرائط في صورة الانحصار، والا فكفائي؛ إذ الحكومة من ضروريات حياة البشر كما عرفت، وعليها يتوقف حفظ كيان الإسلام والمسلمين وحفظ ثغورهم وبلادهم ودفع الظلم والاستغلال عنهم، وتعطيلها يوجب تضييع الحقوق وتعطيل الحدود والأحكام وبعبارة أخرى فإن تعطيل الحكومة يوجب تعطيل الإسلام بمفهومه الواسع الشامل لأحكامه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية وغيرها، فإن اخترنا كون الفقهاء الواجدين للشرائط منصوبين من قبل الأئمة (عليهم السلام) للحكومة والولاية، فعليهم التصدي لشؤونها كفاية، وعلى المسلمين إطاعتهم والتسليم لهم فيما يرتبط بأمر الحكومة، وإن قلنا بصلاحيتهم لذلك فقط وإن الولاية الفعلية تتوقف على انتخاب الأمة فعليهم ترشيح أنفسهم، وعلى المسلمين انتخابهم، والتارك لذلك من الفريقين مع الإمكان مخالف.

 المسألة السادسة: في حكم صفات الحاكم

هل الشروط المذكورة التي ينبغي توفرها في الحاكم كالفقاهة والعدالة والكفاءة وما أشبهها من قبيل الأحكام التكليفية أم الأحكام الوضعية؟ والفرق بينهما أنه على الأول تكون شروط ابتدائية، فإذا سقطت بعد التعيين أو الانتخاب لا تبطل حكومة الحاكم، وأما إذا كانت وضعية فتبطل حكومته أيضاً، وينعزل الحاكم بمجرد فقدانها، بناء على المشهور من كون الأحكام الوضعية مجعولة بالجعل المستقل عن الحكم التكليفي، كالطهارة والنجاسة والصحة والفساد والملكية والحرية، وأما على مختار الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه والسيد الاستاذ رضوان الله عليه كما في المكاسب[28] والفرائد[29] وفي غير موضع من الفقه من عدم الجعل المستقل للأحكام الوضعية وانتزاعيتها من الأحكام التكليفية[30] فينعزل كذلك، وكما أنه بناء على أنها أحكام تكليفية فإنه يجب توفرها في المرشّح حين الانتخاب فقط، وأما بناءً على أنها وضعية فينبغي استمرارية هذه الصفات، وإلا يبطل الانتخاب وتسقط شرعية الحاكم، وظاهر أدلة الولاية هو الوضعية أما على القول بنصب الفقهاء من قبل الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) فالمسألة واضحة؛ إذ المنصوب من قبلهم هو العنوان الواجد للشرائط المذكورة على ما تقتضيه الأدلة، وأما غير الواجد فليس له اقتضاء الولاية من أول الأمر، وبالتالي فهو ليس بمنصوب، وأما على القول بالانتخاب فظاهر الآيات والروايات المتعرضة للأوصاف أيضاً كونها في مقام بيان الحكم الوضعي وأن الإسلام والفقهاهة والعدالة وغيرها شروط للحاكم فلا تنعقد الحكومة لمن عقدها وإن اختاروه بآرائهم.

 ولعلّ مما يؤيد ذلك قوله عز وجل: {لا ينال عهدي الظالمين}[31] وقوله عز وجل: {ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون}[32] وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم»[33] وقول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله»[34] وقول مولانا المجتبى (عليه السلام) في خطبته بمحضر معاوية: «إنما الخليفة من سار بكتاب الله وسنة رسول الله وليس الخليفة من سار بالجور»[35] وكذا قول سيد الشهداء (عليه السلام) في جوابه لأهل الكوفة: «فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق»[36] إلى غير ذلك من النصوص القرآنية والروائية المتعرّضة للشرائط المستظهر منها أنها في مقام بيان الحكم الوضعي وبيان الحاكم الذي يحق له تولي هذا المنصب من غيره.

 ومن الواضح أن الأمر والنهي في هذا السنخ من الأمور ظاهران في الإرشاد إلى الشرطية والمانعية وما أشبه ذلك من الأحكام الوضعية. هذا من حيث تعلق الأوامر والنواهي بشرائط الحاكم والتزام الأمة بانتخاب الحاكم المتوفرة فيه هذه الشرائط، وأما لو فرض أن الأمة ولو لعصيانها اختارت حاكماً غير واجدٍ للشرائط وأطبقوا عليه وانتخبوه حاكماً أو انتخبته الأكثرية وفرض أنه ينفذ مقررات الإسلام ولا يتخلّف عنها، وربما ادّعي أنه أكفأ حكومياً وإدارياً ممن توفرت فيه الشرائط الشرعية مثلاً، فهل تبطل إمامته ويجوز له مخالفته والتخلف عنه بلحاظ عدم توفر الشرائط الشرعية فيه؟ أم لا يجوز ذلك بلحاظ أنه يحقق الغرض من الحكومة؟.

 المسألة مشكلة؛ إذ الخطأ والاشتباه وكذا العصيان مما يكثر وقوعها في أفراد البشر حتى ممن توفرت فيه الشرائط، وجواز التخلف عنه حينئذ يوجب تزلزل النظام وعدم قراره أصلاً، والشروط المذكورة يراد منها الطريقية لضمان تطبيق أحكام الإسلام والوثاقة بالالتزام بشروطها ما دام الحاكم كذلك، فيجوز له التصدي، وأما كونه فاسقاً أو غير ذلك فهذا لا يضر بولايته ما دام ملتزماً، وفسقه وعدالته يرجع إلى نفسه لا الأمة، لكن ربما يقال إن المسألة تدخل موضوعاً في صغريات دوران الأمر بين المقتضي والمانع، فإن الشروط من رتبة المقتضي، ومع عدمها لا يبقى مورد لتولي الحكومة، ورأي الأمة لا يعطي الموضوع مقتضياته كما هو واضح، وعليه فلا يجوز له التصدي مادام فاقداً للشروط الشرعية، وقد تدخل المسألة في صغريات الاجتهاد مقابل النص؛ إذ بعد نص الشارع على لزوم توفّر الشرائط فلا مجال للأمة أن تتجاوزها، نعم إلاّ إذا استفيد من الشروط رجحان تولي صاحبها لا لزومه، لكنه خلاف ظواهر الأدلة.

 المسألة السابعة: في تعدد المتصدين وتفاضلهم في الشروط

إذا توفرت الشرائط الشرعية في كل المتصدّين للحكومة كالفقاهة والكفاءة ولكن كان أحدهما أفضل أو أكفأ أو أفقه فإن أمكن الجمع بينهما واختارته الأمة وجب، وإن لم يمكن الجمع وعلى الأمة أن تختار فهل يجب عليها الاختيار للأكفأ والأفقه أم هي مخيرة؟.

احتمالان في المسألة:

الأول: الوجوب؛ وذلك لدوران المسألة بين التعيين والتخيير، فذهب جمع من الفقهاء إلى وجوب تقديم التعيين لبناء العقلاء عليه، وقد ذكروا ذلك أيضاً في باب وجوب تقديم الفقيه الأعلم على غيره في مسألة التقليد، وكذا في مسألة رجوع كلّ جاهل إلى العالم في أي فن من الفنون، وكذا فيما نحن فيه لانه من صغرياته.

الثاني: التخيير لكون القاعدة المذكورة تحكم برجحان التقديم لا وجوبه. نعم إلا إذا كان المورد من الأمور الخطيرة التي تريد إلى مزيد من الاطلاع ودقة نظر، فحينئذ لا مناص من الاحتياط في تقديم الأفضل.

المسألة الثامنة: هل شروط الحاكم واقعية أم ظاهرية؟

هل الشروط المطلوب توفرها في الحاكم شروط واقعية أو علمية ؟ احتمالان في المسألة:

الأول: واقعية؛ وذلك لأن الألفاظ موضوعة للمعاني الحقيقة نفس الأمرية لا المعاني المتخيلة أو الموهومة، ويمكن توضيحه بمثل حكم الشارع بأن الماء طاهر والخمر حرام يحمل على الماء الواقعي لا المتخيل أو الموهوم، وكذا الكلام في الخمر وغيره، وكذا ما نحن فيه. فإن اشتراط الفقاهة والعدالة مثلاً تحمل على الواقعية لا على المتخيلة ولا على الموهومة مما يكشف على أن العلم ليس له مدخلية في ذلك بل الواقع.

 وعليه لو انتخبت الأمة من توفرت فيه الشرائط واقعاً وإن لم تلتفت إليها حين الانتخاب أو انتخبته غير متوفر الشروط عصياناً منها ثم بان توفرها كفى في شرعية حكومة الحاكم والإشكال يرد في صورة انتخابه على أنه متوفر الشرائط ثم بان الخلاف فهل تسقط شرعية حكومته حينئذ فيجوز للناس التخلف عن مقتضيات هذه الحكومة أم لا؟ مقتضى القاعدة ذلك، إلا إذا استلزم ذلك أضراراً كبيرة كاستلزامه الهرج والمرج أو اتخذ السقوط عن الأهلية ذريعةً لمزيد من التخلص عن واجبات السلطة وحقوق الحاكم ونحو ذلك، فيفتح باباً للعصيان العام، ويمكن الجمع بين الأمرين بجعل تقنينٍ يحمل المحمول المذكور مع إسقاط الولاية ولو بانتخاب حاكم في ظل الأول -كحكومة الظل -يملأ الفراغ بعد سقوط الحاكم الأول، أو إيجاد لجنة تحقيق منصفة تشخص صحة الخروج عن الأهلية أو ما أشبه ذلك وإن كان في حكومة الفقيه الجامع للشرائط الذي يحكم البلاد بالواسطة؛ لإمكان الفقيه الجامع للشرائط بعد خروج الحاكم الذي يمثله عن ولايته الشرعية أن ينصّب حاكماً آخر ويعرضه على الأمة فتنتخبه ويكون هو الحاكم في وقت الفراغ كما هو واضح.

الثاني: أن يقال بأنها شرائط علمية؛ وذلك لتبعية الحكم للموضوع وثبوت الموضوع متوقف شرعاً على العلم به، وعليه فيكفي في شرعية الحاكم علم المنتخبين بكفاءته، خصوصاً وأن الكفاءة الواقعية مما لا يمكن الوصول إليها غالباً؛ لكونها بعيدة عن الحس، ولاختلاف الأنظار في تحديدها من حيث الأفضلية أو الأكثرية ونحو ذلك، وكون الحاكم غير كفوء واقعاً لا يسقط تكليف الأمة بطاعته والالتزام بمقتضيات حكومته ما دامت تراه كفوءاً، فتامل.

 وعلى الاحتمالين فإنه لا إشكال في لزوم الفحص قبل الانتخاب على ما هو المختار عندنا تبعاً لجمع من الفقهاء من وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية؛ لكونه طريق الطاعة للمولى، خصوصاً في مثل الأمور السياسية والحكومية المتوقفة على حفظ النظام وبسط العدل وحقن دماء الناس وحفظ حقوقهم ونحو ذلك خلافاً للمشهور من الفقهاء والأصوليين حيث ذهبوا إلى عدم لزوم الفحص، نعم لعلّهم في مثل هذه الأمور المذكورة يوجبون الفحص أيضاً لأهمية المورد وخطورته.

 المسألة التاسعة: فيما اذا فقد الحاكم الجامع للشرائط

إذا فرض توفر بعض الشرائط في بعض الفقهاء أو الحكام وبعضها في آخر وعليه فينعدم الحاكم الذي تجتمع فيه الشرائط الدينية والدنيوية طراً فما هو التكليف حينئذٍ؟ ولا يخفى أن موارد التزاحم لا تنحصر فيما ذكر، بل هي كثيرة جداً بلحاظ الشروط العديدة اللازمة في الحاكم، ولكن في العرف المذكور ترد احتمالات:

 الاحتمال الأول: أن نقول بتقديم الشرائط الشرعية كالفقاهة والعدالة ونحو ذلك؛ إذ لا مجال لغير الفقيه العادل بعد النص من قبل الأئمة (عليهم السلام) ؛ إذ المستفاد من الأدلة هو نصب الفقيه الجامع للشرائط ولا دليل على نصب غيره، فإذا لم يوجد الجامع لكلّ الشرائط فإن قلنا بصحة الانتخاب بهذه الصورة جرى البحث، وإلا وجب كفاية على من يقدر التصدي للشؤون من باب الحسبة، وظاهر صحة الانتخاب وعموم أدلته بهذه الصورة أيضاً، كما اختاره البعض[37].

الاحتمال الثاني: أن يقال بملاحظة الأهم والمهم فيقدم من توفرت فيه الشروط الأهم على غيره، لا يقال: أدلة اعتبار الشروط في الحاكم مخصّصة لهذه العمومات الدالة على تولي الفقيه للولاية، بل لها نحو حكومة عليها، فإنه يقال: لا يبعد كونها بنحو تعدد المطلوب، وعليه فمع إمكان الشرائط يجب رعايتها وجوباً شرطياً، ولا تنعقد الحكومة لغير الواجد لها، ولكن مع عدم التمكن منها يكون أصل انتخاب الحاكم مطلوبا شرعاً؛ لعدم جواز تعطيل الحكومة بعد شدّة اهتمام الشارع بها، وحمل المطلق على المقيد إنما هو فيما إذا أحرزت وحدة الحكم في الجملتين، وفي الأمور المهمة الضرورية على أي تقدير لا تحرز وحدته؛ لاحتمال تعدد المطلوب، نظير ما إذا قال المولى لعبده: علّم ابني القراءة والكتابة في المدرسة، فإذا فرض أن العبد لا يتمكن من المدرسة فهل يسقط عنه وجوب التعليم أم ينبغي عليه أن يحقق غرض المولى بأي طريقة أخرى تحققت؟ ما ذهب إليه الأصوليون وعلماء المعقول هو لزوم تحقيق الغرض، فعليه إذا انعدمت الوسيلة التي نص عليها المولى وأمكن تحقيق هذا الغرض بواسطة وسيلة أخرى فإنه يجب ذلك لوجوب تحقيق الغرض المولوي.

وربما تكون الحكومة من هذا القبيل؛ إذ أدلة الحكومة دالة على اهتمام الشارع بها وعدم جواز تعطيلها، ولا سيما ما ورد في كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول في رد دعوى الخوارج: «هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله، وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر»[38] وقوله (عليه السلام): «والٍ ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم»[39] إلى غير ذلك من الأدلة.

وعلى هذا فلا يجوز تعطيل الحكومة على أي حال، وإنما ينبغي رعاية الشرائط مهما أمكن، لكن في صورة عدم إمكان رعايتها لعدم توفر الحاكم الواجد لجميع الشرائط فإنه لا مناص من لزوم رعاية الأهم فالأهم من ناحية نفس الشرائط، ومن ناحية الظروف والحاجات ومتطلبات الأمة، فالعقل والإسلام وخبروية التدبير وفهم متطلبات الأمة والعدالة والشجاعة من أهم هذه الشرائط، كما أن الحاجات والظروف مختلفة، والتشخيص لا محالة موكول إلى الخبراء في كل عصر ومكان، وربما يستأنس بالحكم برجحان تقديم بعض الائمة على البعض في صلاة الجماعة في صورة التشاح بينهم؛ إذ رجح في الفتوى من اتفق عليه المأمومون[40] للنصوص الخاصة [41]، وان تشاح المأمومون قدم الافضل، ثم الاقرأ، ثم الافقه، ثم الاسن في الاسلام، ثم من كان ارجح من سائر الجهات الشرعية لاطلاقات الادلة الناصة على تقديم الافضل والاخير[42]، وكذا في مسالة تقديم المجتهد الاعلم[43] على المشهور[44] بل ادعي عليه الاجماع[45]، ورجحان تقديم الاورع عند التساوي[46]، كما ذهب اليه الكثير قديما وحديثا[47]، بل جرت عليه سيرة المتشرعة [48]، وكذا في مسالة القضاء وترجيح حكم الاعدل والافقه والاصدق والاورع على غيره عند التعارض، كما نصت عليه المقبولة[49].

وفي الأحكام السلطانية في الترجيح بين الحكام والامراء: لو كان أحدهما أعلم والآخر أشجع روعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت، فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى لانتشار الثغور وظهور البغاة كان الأشجع أحق، وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء وظهور أهل البدع كان الأعلم أحق [50].

وهذا ما يظهر من كلمات ابي علي بن سينا أيضاً في كتاب الشفاء. قال: والمعوّل عليه الأعظم العقل وحسن الإيالة، فمن كان متوسطاً في الباقي ومتقدماً في هذين بعد أن لا يكون غريباً في البواقي وصائراً إلى أضدادها فهو أولى ممن يكون متقدما في البواقي ولا يكون بمنزلته في هذين، ويلزم أعلمهما أن يشارك أعقلهما ويعاضده، ويلزم أعقلهما أن يعتضد به ويرجع إليه[51].

ولا يخفى عليكم أن من أهم موارد التزاحم وأكثرها ابتلاءً هو التزاحم بين الفقاهة وبين القوة وحسن التدبير وأخروية العمل كما تعرض له ابوعلي بن سينا، ولعلّ الثاني أهم؛ إذ النظام وتأمين المصالح ودفع المعتدين لا تحصل إلا بالقوة وحسن التدبير والسياسة، وحيث فرض تحقق الإسلام والعدالة فيه فهما يلزمانه قهراً لتعلم الأحكام من أهلها وعدم الإقدام بغير علم، ويمكن أن يفصّل بحسب الشرائط وبحسب الأزمنة والأمكنة أيضاً كما قاله الماوردي وأبو يعلى وغيرهما، فقد تكون الأوضاع متأزمة والأجواء السياسية مسمومة فيكون الاحتياج إلى القوة وحسن التدبير أكثر، وقد يكون الأمر بالعكس فتكون الشرائط والأوضاع عادية والأجواء سليمة ولكن الاحتياج إلى التقنين والتشريع والإطلاع على الموازين الإسلامية بأدلتها أو رفع الاشتباهات والبدع الظاهرة كثيرة جداً فتلزم الفقاهة، والإطلاع العميق على مقررات الإسلام وموازينه؛ بداهة ان ذلك ضرورة، وهي تقدر بقدرها، ومن قدرها مراعاة الحاجة، ولعل من هنا التزمت بعض الدول والحكومات بتنصيب أمير لها في زمان الحرب، وتغيير هذا الأمير في زمان السلام، وعللوا ذلك بأن أمير الحرب لا يصلح أميراً للسلام.

الاحتمال الثالث: تقديم الفقاهة مطلقاً للأدلة الخاصة الناصة على ذلك، وأما باقي الشروط من الخبروية السياسية والكفاءة الإدارية ونحوها فتحل بإيجاد الفقيه مجلساً من الخبراء وأهل الحل والعقد في شؤون الدولة والسياسة لاستشارتهم في تشخيص الموضوعات وأخذ الرأي إن لم يكونوا من الفقهاء، وإلا بأن كانوا جميعاً فقهاء ولكن يتمايز هؤلاء الفقهاء كلٌّ عن بعضهم ببعض المجالات، فإنه يجمعهم في مجلس حينئذٍ يضم الفقيه الأعلم مثلاً بالفقه والفقيه الأعلم بالسياسة والثالث الأعلم بالإدارة وهكذا، ويكون الحكم للجميع بأكثرية الآراء أو بصيغة قانونية يتم التوافق عليها برضا الأمة، وهذا هو مقتضى الجمع بين الأدلة والحقوق، كما أنه الأقرب إلى استشارية الحكومة الإسلامية، بل والأقرب إلى الاحتياط، بل ولعله الاقرب الى البديهة العقلانية في مثله، ومعه لا يبقى مورد للاحتمالين الأولين.

المسألة العاشرة: في وجه عدم تفصيل الشريعة في مسائل الشورى والانتخاب

قد يقال بأنه لو كانت الشورى والانتخاب من قبل الأمة مصدراً للولاية شرعاً كان على الشارع الحكيم بيانها أصلاً وتفصيلاً في شرح حدودها وشرائطها وكيفياتها، لكنه بحسب التتبع لم يرد بيان من الشارع في ذلك، أو لم يصل إلينا بيانه، وعلى كل حال فعدم البيان أو عدم دليل عدم الاعتبار شرعاً أو عدم الوجوب وكذا عدم وصول البيان مسقط للحجية، لكن الظاهر إمكان الاجابة عنه من وجوه:

 أحدها: بأن الشارع بيّن الحكم، ولكن بيانه لا يتوقف على دليلٍ نقلي من آية أو رواية، بل حكم العقل والعقلاء هو من البيان أيضاً، كما قالوا نظيره في حكومة الاحتياط على البراءة العقلية، فإن موضوع البراءة العقلية قبح العقاب بلا بيان، وموضوع الاحتياط العقلي وجوب دفع الضرر المحتمل.

 ومن الواضح أنه في الشبهات الحكمية وخصوصاً التحريمية منها حتى وإن لم يصدر بيان لفظي من الشارع يحكم بوجوب الاجتناب إلا أن حكم العقل باحتمال الضرر على الإقدام على الشبهة يرفع موضوع اللابيان، وكذا مثله يقال فيما نحن فيه، وكم من حكم شرعي مهم أوكله الشارع على حكم العقل والعقلاء؟ ولو بيّن فيه الشارع شيئاً كان إرشادياً لا مولوياً، كحكمه بوجوب إطاعة الأمر في قوله عز وجل: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}[52] بداهة أن حكم الشارع هنا هو إلفات للحكم العقلي، وإرشاد إليه، وإلا فإن العقل إذا التفت إلى الخالق المنّان والتفت إلى رسوله المبعوث من قبله والإمام المنصوب من قبل رسوله لا يحتاج إلى بيان شرعي للحكم بوجوب الطاعة، بل يستقل بالحكم بوجوبها لحكمه بوجوب اطاعة المولى ذاتا وامتدادا، ومعه لايبقى مجال لحمل الامر في الآية على التاسيس، فيتعين حمله على الارشاد، بمعنى ان الآية الشريفة ترشد العقل وتلفته الى مصلحة وجوب الطاعة، ولو لم ترد الآية في هذا المجال لكان العقل كافياً في الحكم بالطاعة.

 هذا فضلاً عن ورود النص في ذلك كما عرفته في الأدلة المتقدمة، بل لعلّ عدم بيان الشارع تفاصيل ذلك يعدّ من ميزات الشريعة السمحة السهلة ومن مزاياها البارزة، حيث أراد الشارع بقاءها إلى يوم القيامة وانطباقها على مختلف الأعصار والبلاد والظروف الاجتماعية والإمكانات الموجودة، وهذا ما يتطلب عدم تحديد الأمة في أطر شرعية خاصة ما دامت الأطر الأخرى التي ترتضيها الأمة هي أيضاً تحقق الغرض.

ثانيها: أن مقتضى الشريعة الباقية الدائمة يتطلب بيان الأصول وإحالة التفاصيل والخصوصيات إلى المطّلعين على الحاجات والإمكانات والظروف من علمائها، وأصل الشورى قد ورد في الكتاب والسنة مؤكداً، كما أن أصل الانتخاب، كذلك وفي كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): «وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضا»[53] وعنه (عليه السلام): «ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار»[54] فهو (عليه السلام) تعرض لبعض خصوصيات الشورى، وجعل الملاك شورى أهل الحل والعقد وأهل العلم والمعرفة.

 ولا يخفى أن شورى أهل الحل والعقد ناشئة من رضا جميع الأمة وأكثرهم، ولعل هذا كان في صورة عدم إمكان تحصيل آراء الأمة مباشرة، وأما مع إمكان تحصيلها بمرحلة واحدة أو مرحلتين كما هو واقع في بعض أساليب الدولة الحرة – نسبيا - في مثل هذه الأزمنة فالواجب تحصيلها؛ لتكون الحكومة أقوى وأحكم.

 وكيف كان، فما هو الواجب على الشارع الحكيم هو بيان أصل الشورى والانتخاب والحث عليهما وقد بيّنها الشارع، وأما الكيفيات والخصوصيات والشرائط فمفوضة إلى العقلاء وأهل العلم الواقفين على حاجات الزمان والظروف والإمكانات.

ثالثها: تنظيراً بسائر الفروع والأحكام العبادية والمعاملية، حيث اكتفى الشارع ببيان أصولها وترك التفريعات على العباد بحسب مقتضيات الزمان والمكان والحاجات والضرورات، فكما أنه ليس في الكتاب والسنة اقتصاد منظم مدون بتفاصيله وإنما وردت فيها كليات وأصول رتبها وشرحها الفقهاء، وعين لها مجار وقنوات وتطبيقات كما يظهر ذلك من مراجعة الفقه الاقتصاد[55] للسيد الشيرازي (قدس سره) فكذلك الأمر في الحكومة والدولة، حيث ترى أصولها وشرائطها الحاكم، ومواصفاته مذكورة في الكتاب والسنة، وعلى الفقهاء تفصيل هذه الشروط وتطبيقها وتقديمها كما هو الشأن في المعاملات والعبادات.

 وعليه فعلى الفقهاء جمع الأدلة وبيانها، وعلى الخبراء في فنون السياسة والواقفين على ظروف الزمان تطبيقها على أساس الإمكانات المختلفة المتكاملة وبحسب الظروف والأمكنة والأزمنة كسائر الحاجات الاجتماعية وغيرها؛ إذ لم يكن الانتخاب على أساس الشورى أمراً مستحدثاً جديدا، بل كان رائجاً بين العقلاء منذ زمان الشارع، ففوض الشرع إليهم الكيفيات والخصوصيات، وقد أراد الإسلام انفتاح باب الاجتهاد وإبقاء المجتهدين في جميع الأعصار على قدر من الحرية وإعمال النظر؛ ليبقى الفقه نامياً، ويتكامل استيعابا بتكامل البشر والزمان، ويستوعب جميع الموضوعات المستحدثة والوقائع الحادثة، وهذا ما أراده الشارع كما يظهر في الحديث الوارد عن مولانا الصادق (عليه السلام) خطابا إلى العلماء والفقهاء: «إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا»[56] وعن مولانا الرضا (عليه السلام): «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع»[57].

المسألة الحادية عشرة: في معالجة تزييف الانتخاب

قد يقال: أن من معضلات الانتخاب هو إمكان التزييف والتحريف فيه، خصوصاً وإن الكثير من الناس تؤثر فيهم الدعايات الكاذبة أو في شراك الدنيا؛ لفقدانهم التقوى الكافية، فتشترى آرائهم بالتطميع، أو لا يملكون شجاعة كافية وقوّة نفسية فتُسلب آرائهم بالتهديدات، فيلزم منه نقض الغرض من الانتخاب والوقوع في الفساد الكثير، لكن يمكن أن يجاب عن ذلك بوجوه:

 الوجه الأول: بالنقض بانتخاب المفتي ومرجع التقليد حيث فوض ذلك إلى الأمة والطريق إليه هو العلم الشخصي، أو الشياع المفيد له، أو شهادة أهل الخبرة العدول، وغير ذلك، فتامل.

الوجه الثاني: أن جهل الناخبين وبساطتهم أو عدم صلاحيتهم لا يضرنا كثيراً بعدما بيّنا أن المنتخب في الحكومة الإسلامية ينبغي أن يكون مؤهلاً بتوفر جملة من الشروط الشرعية والخبروية، وعليه فلا تنعقد الحكومة لفاقدها، وفي مقام العمل والتنفيذ أيضاً يكون الحاكم مقيداً بموازين الإسلام ومقرراته وليس له حرية مطلقة بأن يتجاوز على قوانين الإسلام.

 نعم يبقى احتمال اشتباه الناخبين أو تعمّدهم لانتخاب حاكم فاسد موجود، إلاّ أنه يمكن أن يحل ذلك بإحالة تشخيص الحاكم الذي تجتمع فيه الشرائط إلى هيئة متخصصة موثقة، أو يقام بتوعية الشعب على الفحص عن الأفضل وإعطائهم المعايير الصحيحة، فتميّز الحاكم الصالح من غيره. نعم ترد هذه الإشكالات على مثل الديمقراطية الغربية حيث لا تقيد بأيديولوجية خاصة أو بضوابط شرعية خاصة، وإنما الأساس والمحور فيها أهواء الناخبين ومشتهياتهم كيفما كانت.

الوجه الثالث: لنا أن نشترط في الناخبين شروطاً خاصة كما ذكره جمع ممّن تقدم، حيث اشترط فيهم العدالة والعلم والتدبير المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، ولعلّ مرجع ذلك إلى كون الرأي لأهل الحل والعقد لا جميع الأمة.

الوجه الرابع: أن معرفة الأمة جميعاً لشخص واحد، والاطلاع على حقيقة حاله وانتخابه مباشرة مما يمكن أن يصادف إشكالات وعقبات، ولكن معرفة أهل كل بلد لفرد خبير أو أفراد خبراء من أهل بلدهم يسهل ذلك جداً، ولا سيما بعد الترشيح والإعلام الصحيح من أهل الصلاح، فتنتخب الأمة الخبراء العدول، والخبراء ينتخبون الوالي الأعظم، فيكون الانتخاب ذا مرحلتين، وهذا ما جرى في العديد من الدول الحرة نسبيا، وطبّقت هذا النظام، وكانت في الجملة ناجحة.

 وبالجملة: فان الانتخاب يمكن أن يتم بطريقتين، والاطمئنان بالصحة في هذه الصورة أكثر وأقوى بمراتب؛ إذ الخبراء قلّما يحتمل فيهم ما كان يحتمل في البسطاء من الأمة، واحتمال رعاية الخبراء لمصالحهم الفردية دون مصالح المجتمع، والمصالح النفس الأمرية يدفعه اشتراط العدالة فيهم، مضافاً إلى الخبرة وأنه لو قيل به هنا فانه يرد على غيره ايضا، ولا يمكن اجتنابه الا بالحلول الوسطية وملاحظة النسبية في المصالح والمضار. ولايخفى ان الحلول المذكورة لا تعد حلاً إلا في أجواء حرة ومفتوحة، وأما في الأجواء المستبدة أو أجواء الحرية المزيفة والديكتاتورية المتلبسة بالحرية فيمكن للمستبدين التصرف حتى في الهيئة المتخصصة وما أشبه.

نعم، توعية الأمة على الصحيح والخطأ وبيان معايير الحق والباطل والأصلح وغير الأصلح هو المعيار الأفضل الذي يمنع من تولي المستبدين والمزيفين. هذا مضافاً إلى أنه لا يوجد تسليم بأن المجتمع كله قابل للخديعة؛ إذ مهما كانت أشكال الخداع ودواعيه فإنه يبقى في المجتمع من لا ينخدع، ولا تغره الشعارات، أو ينجر وراء التزييف. وعلى كل حال فإن الخديعة أو إمكان وقوع المجتمع فيها أو وقوعه بالفعل لا يمكن أن يلغي الانتخاب، بل تدعو هذه إلى تصحيح الانتخاب وتهيئة المقدمات لواقعيته وصدقه بالتوعية والإشراف والرقابة النزيهة والتقنين العادل ونحو ذلك؛ دفعاً لمحذور الاستبداد أو انعدام النظام بانعدام السلطة.

 وكيف كان، فإن محور الضمانة وخير ضمانة للوقوف أمام التحريف والخداع مطلقاً هو وعي الناس وفهمهم لما يحيط بهم من أخطار ومن ممارسات زائفة.

المسألة الثانية عشرة: هل معيار الانتخاب الاجماع أم الاكثرية؟

هل الملاك في الانتخاب آراء الجميع أو آراء الأكثر سواء كانت الانتخابات مباشرة أو كانت بوساطة أهل الحل والعقد وجوه واحتمالات في المسألة؛ لكن التحقيق أن يقال:

أنه بعدما أثبتنا صحة الانتخاب وانعقاد الحكومة عند عدم النص نقول إن حصول الإجماع والاتفاق على فرد واحد أو رأي واحد مما يندر جداً، بل هو مخالف لمقتضيات الطبيعة البشرية وتكوينها ولا سيما في المجتمعات الكبيرة وإن فرض كون جميعهم أهل علم وصلاح، أو قلنا بأن الري يختص بأهل العلم والصلاح، ولا اعتبار برأي غيرهم.

 ومن هنا فلا مجال لحمل الأدلة الدالة على صحة الحكومة بالانتخاب على صورة الاتفاق والإجماع؛ لأنه إما غير ممكن عادة وإما غير واقع، وقد استمرت سيرة العقلاء في جميع الأعصار والأصقاع على تغليب الأكثرية على الأقلية في هذه الموارد، فتكون الأدلة الشرعية التي ذكرت على صحة الانتخاب إمضاء لهذه السيرة أيضاً، وقد روي في سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه في غزوة أحد كان نظره الشريف عدم الخروج من المدينة، إلا أنه لما رأى أن رأي الأكثر هو الخروج أخذ بآرائهم وترك رأي الأقلية كما ذكر في الكامل في التاريخ [58].

 وبعبارة أخرى بعد فرض ضرورة الحكومة في حفظ النظام وحفظ الحقوق وعدم تحقّق النص من العالي وعدم تحقق الإطباق من قبل الأمة يدور الأمر بين تعطيل الحكومة أو الأخذ بآراء الأكثرية أو بآراء الأقلية، وحيث إن الأول يوجب اختلال النظام وتضييع الحقوق بأجمعها فالأمر يدور بين الأخيرين ولا إشكال في ترجّح الأكثرية على الأقلية وذلك من جهتين: جهة حقوقية وجهة واقعية؛ إذ إن تأمين حقوق الأكثر أهم وأوجب، كما أن جهة الكشف والقرب من الواقع وتصويب الرأي في آراء الأكثرية أقوى، فترجيح الأقلية على الأكثرية يوجب ترجيح المرجوح على الراجح، وهو منافٍ للحكمة، وفي نهج البلاغة يقول (عليه السلام): «الزموا السواد الأعظم، فإن يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب»[59] وفي مقبولة عمر بن حنظلة في الخبرين المتعارضين «ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه»[60] والمراد من المجمع هنا ليس الاتفاق، بل بقرينة الحكم والموضوع والصدر والذيل المراد منه هو الأكثرية، وكذلك ورد متضافراً في روايات العامة. فيستأنس من جميع ذلك أنه في مقام تعارض الأكثرية والأقلية يؤخذ برأي الأكثرية للابدية ذلك عقلاً ولأقربيته للواقع، ولأهميته في تحقيق الغرض.

 في وجه حكومة الأكثرية على الأقلية

نعم يقع الإشكال في حقوق الأقلية والغيّب والقصّر ومن يولد بعد الانتخاب فإنه كيف لرأي الأكثرية أن يحكم عليهم، وفي خبر الكناسي عن أبي جعفر (عليه السلام): «لا تبطل حقوق المسلمين فيما بينهم»[61] وفي خبر أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام): «لا يبطل حق امرئ مسلم»[62] فإن مثل هذه الروايات تدل على حقوق أي واحد في المجتمع كان من الأقلية أو كان من الأكثرية. هذا مضافاً إلى أنه قلما يوجد مجتمع لا يكون فيه الغيب والقصر ومن يولد بعد الانتخابات، فكيف ينفذ انتخاب غيرهم بالنسبة إليهم؟ وكيف تحفظ حقوقهم في الأموال العامة التي خلقها الله عز وجل لكافة الناس كالمعادن والمفاوز والغابات ونحو ذلك؟.

ويمكن الإجابة عنه بأن هذا مقتضى الضرورة التي قامت عليه الحياة البشرية؛ إذ لازم استقرار الاجتماع وانتظامه تحديد المصالح والحريات الفردية في إطار المصالح الاجتماعية، ودخول الإنسان في الحياة الاجتماعية وفي ظل المجتمع يقتضي طبعاً التزامه بكل لوازمها، وإذا بدت فكرتان مختلفتان في حفظ النظام وتأمين المصالح العامة فحفظ النظام واستقراره يتوقف قهراً على ترجيح إحداهما على الأخرى في مقام العمل، وفي هذه الصورة لا مناص من تغليب الأكثرية على الأقلية، وهذا ما استمرت عليه سيرة العقلاء؛ إذ تغليب الأقلية ترجيح للمرجوح والعقل يحكم بقبحه.

 فالأقلية الداخلة في المجتمع بدخولها فيه ودخولها في الانتخابات كأنها التزمت بقبول فكرة الأكثرية في مقام العمل والتنازل عن الفكرة نفسها عند تزاحم الفكرتين وعدم إمكان الجمع بينهما؛ وذلك للقاعدة العقلية القائلة بأن من التزم بشيء التزم بلوازمه، نظير ما إذا استدعى الإنسان تبعية دولة خاصة فإنها تقتضي التزامه بمقررات هذه الدولة، أو ساهم في مؤسسة تجارية مبتنية على برنامج خاص فإن نفس مساهمته في هذه المؤسسة وإقدامه عليها التزام منه ببرامجها وأحكامها.

 وعليه فلكل من أقسام الحياة الفردية والاجتماعية لوازم وأحكام، وكذا في الأمور العائلية، والتزام الإنسان بكل منها ووروده فيها التزام منه بآثارها ولوازمها، فكما أن التزامه بالحياة العائلية التزام منه بآثارها من تحديد الحريات الفردية والالتزام بأداء الحقوق للعائلة والأولاد فكذلك وروده في الحياة الاجتماعية والاستمتاع بإمكانياتها فإنه التزام منه بلوازمها أيضاً، ومن جملتها قبول فكرة الأكثرية وترجيحها عند التزاحم في المسائل الاجتماعية المختلفة التي من أهمها مسألة انتخاب الحاكم، وهذا ما أذعن به العقلاء واختاروه حلا للمعضلة؛ إذ إن الأمر يدور بين اختلال النظام أو الأخذ بإحدى الفكرتين، والأول مما لا يجوز عقلاً وشرعاً فيتعين الأخذ بالأكثرية لترجح آراء الأكثرية على آراء الأقلية من جهة الحقوق ومن جهة الوصول الى الواقع غالبا.

وكذا الكلام بالنسبة إلى الغيب والقصر والمتولّد بعد الانتخاب، كل ذلك لاستمرار سيرة العقلاء على ذلك وإمضاء الشارع الحكيم لها بما مر من الأدلة، والسر في جميع ذلك بأن المجتمع بما هو مجتمع له لوازم وأحكام خاصة عند العقلاء، ولا يحصل النظم والاستقرار فيه إلا مع الالتزام بها، والمفروض أن الشارع المقدس أمضاها حفظاً للنظام والحقوق بقدر الإمكان، فلا يضر تضرر الأقلية أو القصّر أحياناً في ظل المجتمع أو مقرراته بعدما يكون غنمهما اكثر ببركة المجتمع وبمراتب، وهذا ما يحكم به العقل والوجدان. مضافاً إلى إمكان تقنين بعض الصيغ والأطر القانونية التي يمكن بها ضمان حق الأقلية وما أشبه ذلك بما لا يمنع من الانتخاب، وفي نفس الوقت يحفظ حقوق الأكثرية والأقلية، وهذا أمر موكول إلى أهل الخبرة والاختصاص في هذا الشأن.

المسألة الثالثة عشرة: في وجوب التصدي للانتخاب حسبة

إذا لم تقدم الأمة على الانتخاب، أو لم يكن هناك انتخاب، أو كان المتصدي للانتخاب غير شرعي، فهل تبقى الأمور العامة معطّلة؟ أو يجب التصدي لها من باب الحسبة فيتصدى لها كل فقيه جامع للشرائط مهما أمكنه ذلك؟.

الظاهر الثاني، خاصة في الامور التي أحرزنا عدم رضا الشارع الحكيم بإهمالها وتركها في أي ظرف من الظروف، ولا تنحصر الأمور الحسبية في الأمور الجزئية كحفظ أموال الغيب والقصر والأوقاف؛ إذ حفظ نظام المسلمين وثغورهم ودفع شرور الأعداء عنهم وعن بلادهم وبسط المعروف فيهم وقطع جذور المنكر والفساد عن مجتمعهم من أهم الفرائض، ومن الأمور الحسبية التي لا يرضى الشارع الحكيم بإهمالها قطعاً، فيجب على من تمكن منها أو من بعضها التصدي للقيام بها، وإذا تصدّى واحد منهم لذلك وجب على باقي الفقهاء فضلا عن الأمة مساعدته على ذلك مهما أمكن ما دام ملتزماً بالشرائط. يستفاد ذلك من فحوى مادل على وجوب التصدي بحفظ اموال الصغير أو الغائب ونحوهما من باب الحسبة، ولا يهتم بحفظ كيان الإسلام ونظام المسلمين وثغورهم في بلادهم، أو تترك هذه الأمور الخطيرة للفاسدين أو غير الكفوئين فيخلّون بالنظام، ويضيّعون الحقوق، ولعل القول بوجوبها العيني على الفقهاء جامعي الشرائط غير بعيد؛ لانهم القدر المتيقن للتصدي في مثل هذه الأمور؛ لصلاحهم للحكومة وتحقق الشرائط فيهم على ما مر من الأدلة.

إن قلت: إذا سلمنا أن شؤون الحكومة لا تتعطل على أي حال وأنه إذا فقد النص والانتخاب وجب على الفقهاء التصدي لها حسبة فلأحد أن يقول لا يبقى على هذا وجه لوجوب إقدام الأمة على الانتخاب؛ إذ المفروض عدم تعطل الحكومة.

 قلت: فعلية الحكومة تحتاج إلى قوة وقدرة حتى يتمكن الحاكم من إجراء الحدود وتنفيذ الأحكام، ومن الواضح أن انتخاب الأمة مما يوجب قوة الحكومة ونجدتها، وأما المتصدي حسبة فكثيراً ما لا يجد قدرة تنفيذية، فتتعطل بسبب ذلك كثير من الشؤون.

المسألة الرابعة عشرة: في حقيقة الانتخاب

هل الانتخاب للحاكم من قبيل العقود الجائزة كالوكالة فيجوز للأمة فسخها ونقضها مثلاً مهما أرادت، أو هو من قبيل العقود اللازمة كالبيع مثلاً فلا يجوز نقضه إلا مع تخلف الحاكم عن الشروط والالتزامات؟

 الظاهر من الأدلة انه نوع تعهد وتعاقد من الطرفين في قيام الحاكم بمهام الأمة ورعاية حقوقها مقابل أن تلتزم الأمة باحترامه وطاعته والانضباط تحت ضوابطه، فتشمله حينئذٍ أدلة اللزوم في العقود كقوله تعالى: {أوفوا بالعهود}[63] وكقولهم (عليهم السلام): «المؤمنون عند شروطهم»[64] إذ إن الوجدان يلزمنا بإطاعة الحاكم المنصوب كما يلزمنا بإطاعة الحاكم المنتخب، فإن مقتضى ولاية الأمر إذا كانت عن حق يستدعي الإطاعة وإلا لما تمّ الأمر، ولما حصل النظام، والشرع أيضاً بإمضائه للانتخابات يلزمنا بالإطاعة، وقد استظهر بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا لرسول وأولي الأمر منكم}[65] شمول الآية بعمومها لكل من صار ولي الأمر عن حق وإن كان بالانتخاب إذا كان واجداً للشرائط، وكان انتخابه على أساس صحيح.

هذا وبالجملة لا فرق في حكم الوجدان بين الإمام المنصوب والإمام المنتخب مع فرض صحة الانتخاب وإمضاء الشرع له والانتخاب وإن أمكن أن يكون في الوكالة أو النيابة والاستنابة أو التفويض عما قد يطلق عليه وكالة بالمعنى الأعم المتضمن لإيكال الأمر إلى الغير أو تفويضه إليه.

وفي كتاب أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى أصحاب الخراج: «فإنكم خزان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة»[66] الاّ ان إيكال الأمر إلى الغير قد يكون بالإذن له فقط، وقد يكون بالاستنابة بأن يكون النائب وجوداً تنزيلياً للمنوب عنه، وكأن العمل عمل المنوب عنه، وقد يكون بإحداث الولاية والسلطة المستقلة للغير مع قبوله، والأول ليس عقداً، والثاني عقد جائز على ما ادعوا عليه الإجماع، وأما الثالث فلا دليل على جوازه، بل إطلاق أدلة العقود تقتضي اللزوم. نعم قد يقال حتى على الاستنابة فإن العناوين الثانوية تقتضي اللزوم أيضاً؛ بداهة أنه لا يمكن أن يستناب الحاكم عن الناس في أمر الحكومة ثم يُجعل زمام بقائه وعدمه بمقتضى جواز العقد، فإنه يفتح باباً للفوضى واختلال النظام، وعليه فإنه إذا اختير الحاكم يبقى حاكماً ما دام ملتزماً بالشرائط، ويلزم الناس مراعاة مقتضيات حكومته.

نعم يمكن الجمع بين الأمرين بوضع مدة معينة للتفويض يقدم عليه الجميع منتخِباَ ومنتخبَاً، ويلتزمان بشرائطهما، فحينئذٍ ينتظر حتى تنتهي مدته، أو يوكل إلى تقنين معين، أو هيئة منصفة، ولا يجعل أمره بين أذواق الناس وأهوائهم حتى يعزلوه لأدنى سبب وينصبوه لأدنى سبب.

هذا ولا يخفى أن مقتضى الولاية يستدعي اللزوم والثبات، وإلا لم يستقر النظام، ولزم نقض الغرض والخلف، وسيرة العقلاء استقرت على ترتيب آثار اللزوم عليها أيضاً، بحيث يذمون الناقض لها، اللهم إلا مع تخلف الحاكم عن تكاليفه والتزاماته، وفي نهج البلاغة: «وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم»[67] حيث يستظهر منهم لزوم الانتخاب وبقاء الحاكم حاكماً ما دام ملتزماً بتعهداته.

الطريق الثاني: البيعة

وقد أجمعت عليها كلمة الجمهور، ومال إليها بعض فقهائنا، ويعنى بها مبايعة الناس للحاكم وتعيينه للحكومة بواسطة البيعة، ولولاها كانت حكومته باطلة أو غير شرعية، والظاهر من إطلاق كلماتهم عدم التفريق بين زمان وجود النص وعدمه، وكأنهم يعدون البيعة سببا تاما لتعيين الحاكم حتى بالنسبة للمعصوم، وتفصيل الكلام فيها يستدعي التعرّض إلى أمور:

الأول: في معنى البيعة لغة وعرفاً.

الثاني: في نصوصها الشرعية والتاريخية.

الثالث: الأقوال في المسألة.

الأمر الأول: البيعة لغة وعرفا قال الراغب الأصفهاني: بايع السلطان: إذا تضمّن بذل الطاعة له بما رضخ له، ويقال لذلك: بيعة ومبايعة [68]. وفي النهاية: وفي الحديث أنه يقال: «ألا تبايعوني على الإسلام» هو عبارة عن المعاقدة عليه والمعاهدة، كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره [69]. وقريب منه في المجمع [70]، وفي لسان العرب: والبيعة: الصفقة على إيجاب البيع وعلى المبايعة والطاعة. والبيعة: المبايعة والطاعة. وقد تبايعوا على الأمر: كقولك أصفقوا عليه، وبايعه عليه مبايعة: عاهده. وبايعته من البيع والبيعة جميعاً، والتبايع مثله [71].

 وفي مقدمة ابن خلدون: أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلّم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، ولا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلّفه به من الأمر على المنشّط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد، فأشبه ذلك فعل البايع والمشتري، فسمي بيعة مصدر باع، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي. هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع [72].

وفي تفسير الميزان: الكلمة مأخوذة من البيع بمعناه المعروف، فقد كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا إنجاز البيع أعطى البائع يده للمشتري، فكأنهم كانوا يمثلون بذلك نقل الملك بنقل التصرفات التي يتحقق معظمها باليد إلى المشتري بالتصفيق، وبذلك سمي التصفيق عند بذل الطاعة بيعة ومبايعة، وحقيقةً معناه إعطاء المبايع يده للسلطان مثلاً ليعمل به ما يشاء [73].

والحاصل من ذلك: أن البيعة مأخوذة من البيع، فكما أن البايع يبيع سلعته للمشتري فالذي يبايع يبيع طاعته لغيره، ويبذلها له أيضاً، فالكل يلتزم بأن يكون ناصحاً صادقاً في بيعه، وكذا من جهة المشتري في البيع، والحاكم الذي تؤخذ له البيعة في التعهّد والالتزام والقيام بشؤون من بايعه؛ وبناءً عليه فهي تعد من قبيل العقود المشتملة على الإيجاب والقبول، لكن تارةً يعبّر بالإيجاب والقبول بالألفاظ، وتارةً يعبّر عنها بالعمل كما هو الشأن في المعاطاة، ويستفاد من الروايات والتاريخ أنه كان للبيعة مراتب مختلفة كما يظهر ذلك من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتارة تكون البيعة على عدم الفرار من الزحف، وأخرى على بذل المال والولد، وثالثة على بذل الأنفس، فإذا أعطى المبايع شيئاً من ذلك للحاكم وولي الأمر فلا بد له من الوفاء به بناءً على شمول أدلة «الوفاء بالعهود والعقود»[74] أو «المؤمنون عند شروطهم»[75] هذا بحسب اللغة.

 وأما في العرف فالمتبادر من لفظ البيعة أنها ليست توكيلاً للغير على تدبير الأمور، بل هي على بذل الطاعة والمساعدة، فهي غير الانتخاب والوكالة؛ إذ البيعة تعهّد من ناحية المبايع على طاعة من بايعه، والقبول به كسلطة عليا لا يتخلف عن شروطها والتزاماته تجاهها، فكأنه يبيعه شيئاً، ومن خصوصياتها حينئذ أنها تلزمه بالوفاء بشروطها، ولا يتمكّن من النقض سواء بايعه اختيارا أواضطرارا.

وأما الانتخاب فهو اختيار يتخذه المنتخب من بين بدائل متعددة، كما تتضمنه كلمة انتَخَبَ، وذلك لما يراه المنتخِب في المنتخَب من توفر شرائط وخصوصيات ترجحه على غيره في تحقيق طموحات المنتخِب وتوفير مصالحه ونحو ذلك، وقد يقال له تصويت أو اقتراع أيضاً، ولا فرق بينها من حيث النتيجة وإن اختلفت من حيث الدقة اللغوية.

هذا وبين الانتخاب وبين البيعة عموم من وجه، وأعلى مواثيقهما صورة الاجتماع؛ لكونه يجمع حرية الاختيار مع إيمان المنتخب واعتقاده بمن انتخبه. نعم يتمكن صاحب الرأي أن يسحب رأيه عمّن اختاره وانتخبه متى شاء إن لم يكن قانون أو ضابطة تحدّد مدة الانتخاب.

 وأما الوكالة فهي عقد بين طرفين وتعهد حر بينهما على أن يعطي الموكّل لموكّله رأيه، ويسلّطه على شؤونه ثقةً به، أو اطمئناناً بكفاءته ونحو ذلك، فيكون الوكيل كالموكِّل في سائر التصرفات الداخلة في حدود الوكالة، ولا يجوز له تعديها، ويحق له سحب وكالته عنه متى شاء، وبين الوكالة وبين البيعة عموم من وجه، وكذا مع الانتخاب، وأقوى مراحلها في صورة الاجتماع، وتفترق في أن البيعة فيها تعهد من طرف المبايع والانتخاب فيه ترجيح للمنتخب، بينما الوكالة تفوضه في القيام بشؤون الوكيل، والبيعة تلزم الموكل بالطاعة والالتزام بمقتضياته كما تلزم الوكيل بالقيام بشؤون الموكل بحسب الشروط والمقتضيات أيضاً.

 فيتحصّل من ذلك: أن البيعة بحسب المعنى اللغوي والعرفي تغاير الوكالة والانتخاب وإن كانت من ناحية النتيجة سياسياً وفي مقام العمل ربما تنتهي إلى نتيجة واحدة، والفروق الجوهرية بينهما يظهر أثرها في الحقوق والقانون.

الأمر الثاني: في النصوص الشرعية والتاريخية الواردة فيها

وهي متضافرة في الكتاب والسنة. أما في الكتاب فقوله عز وجل: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً}[76] وقوله عز وجل: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيأتيه أجراً عظيماً}[77] ويظهر من الآيتين الشريفتين أن البيعة بنفسها وإن كان لها أهميتها ولكنها بمقتضى طبعها تحتمل الوفاء والنكث، والأجر العظيم إنما هو في إبقائها على الوفاء والالتزام بمقتضياتها.

وأما في الروايات فقد وردت بطرق الفريقين روايات عديدة تتعرض إلى موضوع البيعة، منها ما في مجمع البيان ومسند أحمد. قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول الله يوم الحديبية؟ قال: بايعناه على الموت [78]. وفيه أيضاً عن جابر بن عبد الله قال: بايعنا نبي الله يوم الحديبية على أن لا نفر [79]. وفي مجمع البيان عن عبد الله بن معقل قال: فلم يبايعهم على الموت وإنما بايعهم على أن لا يفروا [80].

 وفي بيعة النساء قال تبارك وتعالى: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم}[81] ودلالة الآية الشريفة ظاهرة في أنها في مورد البيعة على غير الحكومة، وإنما على السلوك الديني والشرعي الخاص.

 وفي تفسير نور الثقلين، عن الكافي بسند صحيح عن أبان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة بايع الرجال، ثم جاءت النساء يبايعنه، فأنزل الله عز وجل: يا أيها النبي إلى آخر الآية، فقالت أم حكيم: يا رسول الله كيف نبايعك؟ قال: إنني لا أصافح النساء فدعا بقدح من ماء، فأدخل يده ثم أخرجها فقال: أدخلن أيديكن في هذا الماء»[82] وقد وردت روايات أخرى بهذا المضمون، وروي عنه أيضاً (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان إذا بايع النساء دعا بقدح فغمس يده فيه، ثم غمسن أيديهن فيه، وقيل إنه كان يبايعهن من وراء الثوب [83].

وبالجملة: فإن بيعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديبية وفي فتح مكة تعرّض لها القرآن الكريم، مما يكشف عن كون البيعة من الأمور الهامة في الإسلام، وفي سيرة ابن هشام عن الزهري ما حاصله: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله عزوجل، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم:... إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الامر من بعدك؟ قال: «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء» قال: فقال: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا!! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه [84].

 والظاهر من لفظ الأمر هو القيادة والحكومة مما قد يستظهر منه أن الرواية الواردة والكلام كان يجري في تولي الحكم من بعده (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي الكامل لما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة جلس للبيعة على الصفا، واجتمع الناس لبيعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الإسلام، فكان يبايعهم على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، فكانت هذه بيعة الرجال، وأما بيعة النساء فإنه لما فرغ من الرجال بايع النساء فأتاه منهن نساء من نساء قريش [85].

هذا بعض ما يرتبط ببيعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الواردة في القرآن، وأما في بيعة الأئمة (عليهم السلام) ففي الاحتجاج في قصة الغدير وخطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مولانا الباقر (عليه السلام): «وكذلك أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) البيعة لعلي (عليه السلام) بالخلافة على عدد أصحاب موسى، فنكثوا البيعة إلى أن قال: فأقمه للناس علماً، وجدد عهده وميثاقه وبيعته، وذكرهم ما أخذت عليهم من بيعتي وميثاقي الذي واثقتهم، وعهدي الذي عهدت إليهم من ولاية ولييّ، ومولاهم ومولى كل مؤمن ومؤمنة علي بن أبي طالب (عليه السلام): إلى أن قال: فأقم يا محمد علياً علما، وخذ عليهم البيعة. حتى قال: معاشر الناس، قد بينت لكم وأفهمتكم، وهذا علي يفهمكم بعدي، ألا وإني عند انقضاء خطبتي أدعوكم إلى مصافقتي على بيعته والإقرار به، ثم مصافقته بعدي، ألا وإني قد بايعت الله وعلي قد بايعني، وأنا آخذكم بالبيعة له عن الله عز وجل، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه... إلى أن قال: معاشر الناس، فاتقوا الله وبايعوا علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) والحسن والحسين، والأئمة كلمة طيبة باقية، يُهلك الله من غدر، ويرحم الله من وفى... إلى أن قال: فناداه القوم سمعنا وأطعنا على أمر الله وأمر رسوله بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا، وتداكوا على رسول الله وعلى علي (عليه السلام)، فصافقوا بأيديهم... وصارت المصافقة سنّة ورسماً، يستعملها من ليس له حق فيها»[86] إلى آخر الخبر.

 وفي إرشاد المفيد ومن كلام علي (عليه السلام) حين تخلّف عن بيعته عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وحسان بن ثابت، وأسامة بن زيد ما رواه الشعبي قال: لما اعتزل سعد ومن سميناه أمير المؤمنين وتوقفوا عن بيعته حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وإنما الخيار للناس قبل أن يبايعوا فإذا بايعوه فلا خيار لهم، وإن على الإمام الاستقامة، وعلى الرعية التسليم، وهذه بيعة عامة، من رغب عنها رغب عن دين الإسلام، واتبع غير سبيل أهله، ولم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحداً، وإني أريدكم لله، وأنتم تريدونني لأنفسكم»[87].

 وقد ورد الذيل نصا أيضاً في نهج البلاغة أيضاً [88]، وهي تدلّ على أن البيعة إظهار للطاعة والالتزام بها بالنسبة للمعصوم (عليه السلام)، كما يؤيده قوله: «رغب عن دين الإسلام» وهي لا تتصور إلا في المعصوم.

 وفي نهج البلاغة مايؤيد ذلك، ففي كتابه (عليه السلام) إلى طلحة والزبير: «أما بعد، فقد علمتما وإن كتمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتى بايعوني. وإنكما ممن أرادني وبايعني، وإن العامة لم تبايعني لسلطان غالب، ولا لعرض حاضر، فإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا وتوبا إلى الله من قريب، وإن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة، وإسراركما المعصية»[89]..

وفي إرشاد المفيد P بسنده عن أبي إسحاق السبيعي قالوا: خطب الحسن بن علي عليهما السلام في صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أن قال: ثم جلس فقام عبد الله بن العباس بين يديه، فقال: معاشر الناس، هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه، فاستجاب له الناس، وقالوا: ما أحبه إلينا! وأوجب حقه علينا! وتبادروا إلى البيعة له بالخلافة[90].

 وبعدما كتب أهل الكوفة إلى الحسين بن علي (عليه السلام) أنه ليس علينا إمام فأقبل، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحق[91]، وبعث هو (عليه السلام) ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة رائداً وممثلاً له، أقبلت الشيعة تختلف إلى مسلم، فكلمّا اجتمع منهم إليه جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين (عليه السلام) وهم يبكون، وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً، فكتب مسلم إلى الحسين (عليه السلام) يخبره ببيعة ثمانية عشرة ألفاً، ويأمره بالقدوم[92]. ومن الواضح أن بيعتهم كانت على إمامة الحسين وطاعته.

وكذلك ورد في الأخبار عن بيعة الإمام الرضا (عليه السلام) الكثير، كما روي في العيون وغيره[93]، وفي خبر أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في أمر مولانا صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف: «فوالله لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس بأمر جديد، وكتاب جديد، وسلطان جديد من السماء»[94] ولعل المراد بالأمر الجديد في مبايعة الحجة حين الظهور هو المبايعة على الحكومة الصالحة العادلة والالتزام بمقتضيات الإمامة من الطاعة والانقياد والاستجابة.

وفي خبر السراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «فيظهر عند ذلك صاحب هذا الأمر فيبايعه الناس ويتبعونه»[95] إلى غير ذلك من الروايات.

وقد استدل جمع من القائلين بلزوم البيعة بذلك، بحجة أن البيعة في عصر ظهور المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ليست للتقية أو الجدل، فيعلم منها كون البيعة منشأ للأثر في تثبيت الحكومة والخلافة قطعا[96].

فإن المستظهر من مجموع الآيات والأخبار المتواترة هو اهتمام رسول الله والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) بالبيعة التي كانت بشأن الحكومة ورئاسة الدولة فهي نحو معاهدة بين الرئيس وأمته قبل الهجرة وبعدها. والظاهر أنها لم تكن من مخترعات الإسلام، بل كانت من رسوم العرب وعاداتهم التي أمضاها الإسلام، ولا يبعد أنها كانت معمولا بها في سائر الأمم، بمعنى انه عرف عام، وقد أكد الكتاب والسنة وجوب الوفاء بها وحرمة نكثها كما يظهر مما تقدم من الأدلة.

ومما يعضد ذلك ما رواه الصدوق Pعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «ثلاث موبقات: نكث الصفقة، وترك السنة، وفراق الجماعة»[97] وقد فسر العلامة المجلسي P نكث الصفقة بنكث البيعة[98].

الأمر الثالث: في الأقوال في البيعة

القول الأول: أنها واجبة مطلقاً، وهو قول الجماعة كما يظهر من كلمات أعلامهم. قال القاضي أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية: وإذا اجتمع أهل الحل والعقد على الاختيار تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجود فيهم شروطها، فقدموا في البيعة منهم أكثرهم فضلاً، وأكملهم شروطاً، فإذا تعين لهم من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره وعرضوها عليه فإن أجاب إليهم بايعوه عليها، وانعقدت له الإمامة ببيعتهم ولزوم كافة الأمة الدخول في بيعته، والانقياد لطاعته [99]، وظاهر كلامه في أن البيعة سبب للإمامة وتولي الحكومة، فإن الباء للسببية كما هو واضح.

 وقال الماوردي: فإذا اجتمع أهل الحل والعقد للاختيار تصفحوا أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً، وأكملهم شروطاً، ومن يسرع الناس إلى طاعته، ولا يتوقفون عن بيعته، فإذا تعين لهم من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها، وانعقدت ببيعتهم له الإمامة، فلزم كافة الأمة الدخول في بيعته، والانقياد لطاعته[100].

وظاهر كلماتهم هذه وما تقدم منها يفيد عدم وجود المخالف في ذلك، وفي مقدمة ابن خلدون ماظاهره الاجماع عليه[101]ويظهر من شرح المقاصد الاتفاق على كفاية عقد واحد منهم، ثم البيعة [102]، وربما يستدل لهم بالآيات والروايات وسيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن الآيات الشريفة أسندت المبايعة للأمة، فتدل على أن الولاية أولاً وبالذات هي للامة، ثم هي تخولها إلى الحاكم سواء كان معصوماً أو غير معصوم بواسطة البيعة، ويؤيده إطلاقات الروايات الواردة فيها كما عرفته مما تقدم من النصوص.

وربما يمكن الاستدلال لهم بالسيرة العقلائية الجارية في فترة ما قبل الإسلام، فإن الروايات التاريخية تؤكد أن البيعة كانت تقليداً من تقاليد العرب، وقد جرت عليه سيرتهم حيث كان رائجاً بينهم أنه إذا مات منهم أمير أورئيس عمدوا إلى شخص وأقاموه إلى مكان الراحل بالبيعة. ومقتضاها أن البيعة وسيلة لعقد التولية وتأمير الحاكم، وهذه الطريقة أمضاها الإسلام كما يظهر من تكرر السيرة على أخذ البيعة عند الاستخلاف في مختلف الأزمنة، ويعضد ذلك فعل الصحابة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث بايع عمر أبا بكر وتبعه في ذلك بعض القوم[103].

ومن هذا يستدل على ضرورة وجود نوع من المناسبة بين البيعة وبين تسليط الحاكم، وهذا يدل على أن الحكومة كما تنشأ بالنص فإنها تنشأ بالبيعة أيضاً، فكأنه يوجد طريقان لحصول التأمير والاستخلاف: أحدهما النص والآخر البيعة، وأي واحد منهما تحقق يكفي في شرعية الحاكم والحكومة، وأما إذا وجدا معا فإنه يكون من باب التأكيد والثبوت، كما في تولية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث لم يقل أحد إن توليه كان بالبيعة، بل بالنص من الله عز وجل الذي جعله أولى بالمؤمنين من أنفسهم[104]، كما أوجب رسالته ونبوته، وأما بيعته فهي مؤكدة لما نص عليه الباري عز وجل[105]. هذا ما يمكن أن يستدل به، ولكن الظاهر أن للتأمل فيه مجالا من وجوه:

الوجه الأول: قصور الأدلة المذكورة عن شمول البيعة للحكومة. أما الآيات الشريفة فكانت في شؤون خاصة، كالمبايعة على الموت في وقت هم بحاجة إلى الثبات، وفي بعضها مبايعة على عدم الشرك والزنا ونحوها في وقت هم بحاجة إلى نشر الإيمان وترويج الفضيلة، فالاستدلال بها على الحكومة استدلال على الخاص بالعام، وهذا منطقياً باطل، ويؤيده أن نفس المعاني التي ذكرها اللغويون بعيدة عن إنشاء الإمرة والحاكمية، بل غاية ما تدل عليه هو الالتزام وبذل الطاعة.

 وفي الروايات الشريفة انهم بايعوه على الموت كما في يوم الحديبية[106]،وفي مجمع البيان بايعوه على أن لا يفروا[107]، وعليه فإنه لا يستفاد من الروايات أن المبايعة كانت على الترشيح أو السلطنة، وإنما كانت على أمور خاصة، ولو لاحظنا ما ذكر في الآيتين الشريفتين من مورد البيعة نلاحظ انه لم يرد ذكر للحاكمية على الإطلاق، بل وردت المبايعة والالتزام بأمور أوجبها الإسلام، كعدم الشرك وترك الزنا وعدم العصيان، وهي أمور يجب الالتزام بها، ويحرم على الناس تركها، فما الذي أفادته البيعة إذاً؟ مما يكشف عن أن البيعة تعبير ظاهري عن ذلك الالتزام، فهي أولاً لم يكن موردها الحاكمية؛ لأن حاكمية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ثابتة من عند الله عز وجل، وثانياً لم يكن فيها نقل أو إنشاء لولاية، وهذا يعني أن للبيعة معنى آخر ليس ما ذكر.

الوجه الثاني: على فرض أن المبايعة تشمل الحكومة من باب التسليم، فمع وجود النص تحمل على التأكيد لا التأسيس، بمعنى جعل المكلف التزاماً إضافياً في ذمته مقابل الإلزام الأولي، كما هو الشأن في النذر أو العهد أو اليمين على الإتيان بالفرائض والواجبات، فإنها تضيف التزاماً زائداً على أصل الإلزام، والبيعة كذلك، فالمبايع ينشىء التعهد بالتزام حاكمية ذلك المبايع، مع أن أصل الحاكمية ثابت في رتبة سابقة، وليس سبب الحاكمية هو المبايعة، بل قد تكون في بعض صورها أداء لأمر واجب عليهم كما في مبايعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام المعصوم (عليه السلام).

وعليه فالبيعة تكون نوع توثيق وزيادة تعهد للثبات على من نص على ولايته، وقوله عز وجل: { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله}[108] فلأن طاعته طاعة الله عز وجل، وعصيانه عصيان لله سبحانه وتعالى، وليس لتأسيس ولاية أو إعطاء شرعية جديدة لها، ويؤيده بعض الروايات الواردة في أن شأن بيعته لم تكن في مسألة الحكومة.

 منها: ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيعة النساء في التوحيد واجتناب المنكر.[109]

ومنها: ماورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «فإن آمنتم بي فبايعوني على أن تطيعوني وتصلوا وتزكوا»[110].

وفي رواية اخرى: «وان تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وابناءكم» [111].

وفي رواية رابعة: «ولا تفروا من الحرب»[112].

وفي رواية خامسة: بايعه الانصار على الاسلام والنصرة له (صلى الله عليه وآله وسلم) ولمن تبعه وأوى اليهم من المسلمين.[113]

وفي رواية اخرى عن سلمان رحمه الله قال: بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن ابي طالب والموالاة له.[114]

والمستفاد من هذه الروايات أن البيعة لم تكن للتنصيب أو لتعيينه حاكما، وإنما هو نوع ميثاق بين شخصين، والتزام مشمول بأدلة التعاهد وما أشبه ذلك؛ فلذا يجب العمل بمفاد البيعة، ويحرم نقضها ونكثها، ولعل من هذا أيضاً ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحث على الوفاء بالبيعة، يقول: «وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم».[115]

ومن مراجعة مجموع خطب الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة يتضح أن نكث البيعة إنما هو نقض للميثاق لا سواه، وان نكث البيعة من الذنوب الكبيرة؛ لأنه عزل للحاكم وإزاحته عن منصب الولاية، فبناء على هذا يستفاد من مجموع هذه الأدلة بأن البيعة مع المعصوم لم تكن بيعة تنصيب، وإنما كانت نوع التزام بالطاعة والانقياد له وإظهار ذلك للخارج.

الوجه الثالث: أن الروايات طافحة بعبارات أمثال: «الأمر لله يضعه حيث يشاء»[116] كما عرفته مما تقدم، وهذا يعني أن البيعة ليست تولية وتنصيبا، وخصوصاً إذا لاحظنا ما دار بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين عامر بن صعصعة، حيث دعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم: إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «الأمر لله يضعه حيث يشاء»[117] مما يكشف عن عدم حجية البيعة مع وجود النص إلا بقدر الإظهار والإعلام. نعم، لو كان كلام في اعتبارها فينبغي أن يكون في صورة عدم وجود النص كما في زمن الغيبة.

الوجه الرابع: أن الاستدلال بسيرة العرب قبل الإسلام غير تام؛ وذلك لأنه مضافاً إلى عدم حجية سيرة العرب بذاتها فإنها مجملة، ولا تدل على قيامها حتى مع وجود النص، بل جعل البيعة في قبال النص لا فائدة منه، بل الحق أولا وبالذات للنص؛ لأنه من قبل الخالق المالك، وعليه فإن صحت في غير مورد النص كان على المطلوب أدل. هذا مضافاً إلى قيام النص على عدم اعتبارها مع اختيار الله والرسول للحاكم، كما في قوله عز وجل: ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا[118] وقال عز وجل: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما[119] وعليه فإذا نص الله ورسوله على حاكم وبايعت الأمة آخر فإن مقتضى الإيمان والإسلام بل والتكليف هو الأخذ بالنص لا بالبيعة.

وأما سيرة الصحابة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنها كانت بيعة واحد أو جماعة قليلة، وليست بيعة الأمة، وكلامنا في رضا الأمة لا رضا الفرد أو الجماعة، وعليه فهي خارجة موضوعاً عما نحن فيه، مضافاً إلى ما عرفت من أنه لا مجال للصحابة بالبيعة بعد أن نص الرسول على الإمام (عليه السلام) من بعده، حيث عين مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) حاكما وخليفة، وأمرهم بمبايعته ومناداته بإمرة المؤمنين كما في متواتر أخبار الفريقين.[120]

إن قلت: لكن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يهاجر إلا بعد أن أخذ البيعة من أهل المدينة، وإن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يرض بالسلطة إلا بعد البيعة، وهذان تصرفان يدلان على وجود خصوصية في البيعة.

 نقول: إن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أخذ البيعة قام بالدعوة إلى الإسلام وبيان حقيقة رسالته، فحصل انجذاب أفراد المجتمع إليه، ومن ثم أخذ منهم البيعة. وهكذا يقال في سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فبعد إيمان الناس بالإمام وأنه الشخصية التي تنقذهم من مساوئ الانهيار والتفكك والطبقية التي أنشأتها السياسة السابقة عليه بايعوه، والغرض من المبايعة كان هو التغليظ والتوكيد والاحتجاج على من يخالف ذلك، فإظهار البيعة طمأنة للقلوب والنفوس، وتكون إلزاماً لهم للالتزام بمقتضى البيعة، وهكذا يقال في ولاية أمير المؤمنين وبيعة الحسن (عليه السلام)، وبيعة أهل الكوفة وحواليها للحسين (عليه السلام) بتوسط نائبه مسلم بن عقيلرضوان الله عليه، وهكذا ربما يمكن أن يقال في أخذ البيعة للحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فالبيعة في كل هذا ضرب من التوثيق والتغليظ في المتابعة وإظهار الطاعة من باب الاحتجاج والحجية، وليست بيعة تنصيب أو تعيين للمعصوم.

وأما ما ورد في مبايعة المسلمين للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديبية فسببه كما في بعض الأخبار أن المسلمين لم يريدوا إيقاع الصلح مع المشركين، خلافاً لرأي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث كان يرى في الصلح انتصاراً للمسلمين، وعزة وقوة لهم، وإذلالاً للكافرين، حيث يعترفون بمفاد هذا الصلح أن للمسلمين كيانا ودولة ورئيسا معترفا به، فيكون أكبر انتصار سياسي للمسلمين، لكن غالبية من كان مع الرسول لم يتفطن إلى حكمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فازدادت الشقة بينهم، وبعد تمامية الصلح وقبل رجوعه إلى المدينة أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجدد مع المسلمين التزاما وتعهدا بمناصرته التي هي في الأساس واجبة عليهم بحكم وجوب الطاعة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبناء على هذا كانت البيعة منهم بيعة تأكيد وإظهار، وليست بيعة تنصيب، وما ذكر من الروايات تؤكد هذا المطلب.

وأما ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في شأن الذين تخلفوا عن بيعته: «أيها الناس، إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وانما الخيار للناس قبل أن يبايعوا، فإذا بايعوا فلا خيار لهم»[121] فإن مثل هذا القول على مطلوبنا أدل؛ لأنه في مقام الاحتجاج عليهم وبيان أن البيعة لا مجال لها مع وجود التنصيب من قبل الباري عز وجل والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ وذلك لأن صدر الخطاب ورد بهذا النص كما في كتاب سليم بن قيس، حيث ابتدأ الناس هكذا: «هذا اول ماينبغي ان يفعلوه ان يختاروا اماما يجمع امرهم ان كانت الخيرة لهم، ويتابعوه ويطيعوه، وان كانت الخيرة الى الله عزوجل والى رسوله، فان الله قد كفاهم النظر في ذلك والاختيار، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رضي لهم اماما وامرهم بطاعته واتباعه، وقد بايعني الناس... وان بيعتي كانت بمشورة العامة»[122] مما يكشف عن أن البيعة لا مجال لها مع وجود النص.

وأما مع عدم وجود النص فمن باب الإلزام لهم؛ لأن القوم أنكروا وجود النص على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) ؛ فلذا كان لا بد من الالتزام بأن الخيار يرجع إلى الأمة كما بيناه سابقاً من التأخر الرتبي لاختيار الأمةعن النص، وعليه فهو في مقام الالزام بما يلتزمون؛ إذ هم يلتزمون بأن الحكم بالشورى، وهو احتج عليهم بنفس هذا، ومن الواضح أن نقض بيعة المعصوم تستلزم الخروج من الدين واتباع غير سبيل أهله، كما نصت عليه الآيات[123] والأخبار[124] مما يكشف عن عدم وصول النوبة للبيعة مع وجود النص.

القول الثاني: أن البيعة ليست بمعتبرة مطلقا، ولا حجية لها؛ وذلك لأن من نصبه الله لا فائدة لبيعته ومبايعته وجوداً أو عدماً، وسيرة الرسول وأمير المؤمنين عليهما السلام كانت من باب الحجة أو الإلزام، أو من باب التقية من بعض الوجوه، وليس من باب إثبات اعتبار البيعة في مقام التنصيب للحاكم المعصوم، وأما في زمن الغيبة فلا دليل يثبت اعتبار البيعة في تنصيب الحاكم.

وعليه فإن الحاكم إذا كان من المنصوص عليه بالنص الخاص فلا مورد للبيعة، وإذا كان غير منصوص عليه كما في زمن الغيبة فإن اعتبار البيعة حجة في مقام تنصيب الحكام وتعيينهم يحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك، ولعل هذا ما اختاره جمع من الفقهاء منهم السيد الأستاذ رضوان الله عليه كما في الفقه السياسة، حيث ذهب إلى عدم وجود الدليل المعتبر على البيعة، وقال: بأنها لا شأن أساسي لها في تشكيل الحكومة، كما وجه بيعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أنها كانت مظهرة وليست معينة. وقال: بعد أن أشكل على نظرية البيعة: فالبيعة كانت نوعاً من التأكيد، فالبائع يبيع نفسه وأهله وماله لله في قبال أن يعطيه الله الجنة، كما قال سبحانه:{إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}[125] هذا بالإضافة إلى أنه لم تكن البيعة انتخاباً للرسول؛ لأنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بايعوه أم لا، بل كانت إظهارا وتأكيداً؛ ولذا بايعوه تحت الشجرة في صلح الحديبية، مع أنهم كانوا قد بايعوه قبل ذلك، وكانت علة هذه البيعة التأكيد وإرهاب الكفار، فالبيعة لا شأن لها؛ ولذا إذا انتخبوا بدون البيعة كان لازماً، وإذا بايعوا بدون المؤهلات كانت باطلة. نعم من بايع كان الأمر عليه آكد، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، كما أن حجة الوالي عليه تكون أقوى، حيث إن الوالي يستدل ببيعته على أنه قبل وانتخب، فلا حق له في النقض؛ ولذا استدل الإمام (عليه السلام) على الناكثين بأنهم بايعوه، ولذا كان خلفاء الجور يجبرون الناس على البيعة بالسيف حتى يستدلوا بعد ذلك لجهلة الناس بأنه بويع لهم بالخلافة، ثم قال: وكيف كان، فالبيعة لا شأن أساسي لها في تشكيل الحكومة.[126]

هذا وقد ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء المعاصرين، لكنهم وجهوا بيعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) بأنها نوع من الإلزام للطرف المقابل؛ لأنه كان يلتزم بشرعية البيعة، فكانوا يلزمونه بها أيضاً، وخصوصاً ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) من الأخبار والروايات، فإنها في مجموعها يستفاد منها أنه كان في مقام الاحتجاج على الخصم المعتقد بالبيعة، وهناك قرائن دالة على ذلك.

 منها: ما ثبت من ضرورة المذهب أن إمامته (عليه السلام) كانت من نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن قبل الباري عز وجل، وهكذا إمامته لا تحتاج إلى بيعة الناس، وتشهد لها الأخبار المتواترة كما ورد في حديث الغدير وغيره.[127]

ومنها: الروايات الدالة في نهج البلاغة على أنه (عليه السلام) كان إماماً بالوراثة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كالخطبة الشقشقية[128] وغيرها.

ومنها: الاحتجاج بالبيعة التي وقعت للثلاثة، ولا ريب أنها كانت من باب إلزامهم بما عندهم.

ومنها: كون المخاطب في غير واحد منها معاوية وطلحة والزبير وأمثالهم من الذين كانوا لا يقبلون النص في حقه، إلى غير ذلك من القرائن، وعليه فلا دليل على حجية البيعة فضلاً عن اعتبارها في مقام تعيين الحاكم وتنصيبه.

القول الثالث: أن البيعة بذاتها ليست بحجة، بل هي صيغة لإنشاء العقد والتولية في الحكومة، كما هو الشأن في العقود، فإن الرضا الباطني غير كاف في العقود ما لم يكن هناك مبرز ومظهر للقصد والإنشاء، كما دلت على ذلك الأخبار.

 ومنها: «إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام»[129] والبيعة هنا كذلك، فما تبرزه هو التزام الناس بالولاء والطاعة، وما يبرزه الحاكم بقبول البيعة هو القيام بشؤون الناس. وربما ينظّر لذلك بتصنيف الفقهاء المعاملات إلى صنفين، استفادة من الأدلة الواردة في بابها، فإنها تنقسم إلى قسمين: أدلة صحة وأدلة لزوم، وعنوا بأدلة الصحة الأدلة التي تتعرض إلى ماهية المعاملة وحقيقتها، وأنها مطابقة للشروط الشرعية أم لا، وبالتالي هل هي صحيحة أم لا؟ والثانية تتعرض إلى المعاملة الصحيحة، وتحكم بلزومها أو عدم لزومها، والفرق بينهما أنها لو حكم بلزومها فلا يجوز فسخ المعاملة بعد ذلك، وبتعبير آخر الفرق بينهما في الموضوع والمحمول. أما في الموضوع فموضوع أدلة الصحة هي الماهية المعاملية بفرض وجودها عند متعارف العقلاء، وموضوع أدلة اللزوم هو المعاملة الصحيحة عند الشرع، فإذاً أدلة اللزوم متأخرة رتبة عن أدلة الصحة. وأما محمولا ففي أدلة الصحة المحمول هو صحة المعاملة وإثبات وجودها الاعتباري في اعتبار الشارع، وأما أدلة اللزوم فمحمولها هو لزوم المعاملة وعدم جواز فسخها، والتفريق بين هذين الصنفين من الأدلة مهم جداً، وتترتب عليه الآثار الشرعية، فإنه لا يمكن التمسك بعموم «المؤمنون عند شروطهم»[130] إذا شك في صحة ماهية المعاملة؛ لأن مثل حديث «المؤمنون عند شروطهم» يجري في أدلة اللزوم لا في أدلة الصحة.

 وعليه يمكن أن يقال بأن أدلة البيعة أيضاً يمكن تصنيفها في ضمن هذا التصنيف، فيقال بأنها تدخل في ضمن أدلة الصحة او في أدلة اللزوم، ومقتضى التعاريف اللغوية والفهم العرفي بل والاصطلاحي أنها بمعنى العهد؛ ولذا ينبغي أن تصنف في أدلة اللزوم لا في أدلة الصحة، وهذا يعني أن هذه الأدلة لا تتعرض لمورد البيعة، وأن المبايعة لهذا الحاكم صحيحة أم لا، بل يجب أن تثبت في مرتبة سابقة صحة ولاية الحاكم وشرعية توليه للحكم، ومن أدلة أخرى أن التولية لهذا الشخص ممكنة وواجبة، ثم تأتي البيعة، وتوثق وتؤكد الأمر الثابت سابقاً.

 وعليه فعنوان البيعة كعنوان العقد، والشروط تعرض على ماهيات أولية مفروغ من صحتها، فيستفاد منها إذاً أن البيعة بذاتها لا مدخلية لها سوى التوثيق والتأكيد، وهذا مآلاً يرجع إلى القول الثاني، إلا أنه ببيان آخر، ولعل هذا ما اختاره البعض، حيث حمل النصوص الواردة في تعيين النبي والإمام على الرسالة والإمامة لا الحكومة، وحمل السيرة على البيعة في باب الحكومة، فقال: لما ارتكز في أذهان الناس على حسب عادتهم وسيرتهم ثبوت الرئاسة والزعامة بتفويض الأمة وبيعتهم وكانت البيعة أوثق الوسائل لإنشائها وتنجيزها في عرفهم طالبهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك؛ لتحكيم ولايته خارجاً، فإن تمسك الناس بما عقدوه بأنفسهم والتزامهم بوفائه واحتجاجهم به أكثر وأوثق بمراتب. فالمراد بالتأكيد إيجاد ما هو الوسيلة لتحقق الولاية عند الناس أيضا؛ً ليكون تحقق المسبب أقوى وأحكم، ولا محالة يترتب عليه الإطاعة والتسليم خارجاً، والظاهر أن البيعة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت على حكمه وولايته لا على رسالته؛ إذ الرسالة يكفي فيها الإيمان والتصديق.

وبالجملة: إذا كان لتحقق أمر طريقان وكان أحدهما أعهد عند الناس وأوثق وأنفذ فإيجاده بالطريقين يوجب تأكده قهراً، كما هو مقتضى اجتماع العلل على معلول واحد، وقد عرفت منا أن الإمامة كما تحصل بنصب الله تحصل بنصب الأمة أيضاً بالبيعة[131]، ولا يخفى أن كلامه فيه نوع من الاضطراب؛ إذ يراوح بين أن تكون البيعة مجرد إظهار وإعلان وتأكيد للطاعة والإلزام فينطبق مع القول الثاني، أو هي تنصيب وجعل، كما يستظهر من كلامه في أنه فرق بين الرسالة وبين الحكومة، وذهب الى أن البيعة يمكن أن تنصب الإمام،[132] ويكفي الاضطراب في عبارته مؤونة المناقشة فيه.

ولعل هذا الاضطراب يظهر من كلمات السيد الصدر P أيضاً في كتابه الإسلام يقود الحياة، حيث قال: إن التأكيد على البيعة للأنبياء وللرسول الأعظم وأوصيائه تأكيد من الرسول على شخصية الأمة وإشعار لها بخلافتها العامة، وبأنها بالبيعة تحدد مصيرها، وأن الإنسان حينما يبايع يساهم في البناء، ويكون مسؤولاً عن الحفاظ عليه، ولا يشك في أن البيعة للقائد المعصوم واجبة لا يمكن التخلف عنها شرعاً، ولكن الإسلام أصر عليها واتخذها أسلوبا للتعاقد بين القائد والأمة لكي يركز نفسياً ونظرياً مفهوم الخلافة العامة للأمة.[133]

وفي عبارته هذه قد يستظهر وجوب البيعة وأن لها موضوعية في حكومة المعصوم لتملك الأمة مصيرها بسببها، وهذا إلى الوجوب أقرب، وقد يستظهر منها أنها نوع تعليم وتربية للناس في أخذ مصيرهم بأيديهم، وهذا إلى عدم الوجوب أقرب، مضافاً إلى أن قوله: لا يشك في أن البيعة للقائد المعصوم واجبة ولا يمكن التخلف عنها فيه نوع من الإبهام؛ إذ لسائل أن يسأل هل مجرد الوجوب متعلق بالأمة في المبايعة كتكليف شرعي أم هي تفيد حكماً وضعياً أيضاً؟ بمعنى أنها تنصب الإمام حاكماً، وإلاّ فلا، فتامل.

القول الرابع: أنها نوع عقد سواء من قبيل الوكالة أو النيابة، أومن قبيل الالتزام في الالتزام، وهذا ينطبق مع مبنى المنكرين للولاية، فبعد تسليمهم وجوب إسناد الحكم إلى الشرعية لابد أن يلتزموا بطرقها، وهي إما عقد الوكالة أو النيابة أو إنشاء عقد جديد؛ إذ في مقابل ذلك إما يقال بعدم نصب الحاكم، وبالتالي القول بعدم لزوم تطبيق الأحكام السياسية والاقتصادية والحدود وما أشبه ذلك من أحكام الإسلام المرتبطة بالدولة ومهمات الحاكم، وهو واضح البطلان عقلا وشرعا، أو يلتزم بأن هناك نوع وكالة من قبل الأمة للحاكم، أو نوع نيابة أو إنشاء عقد جديد، وهذا العقد بحاجة إلى إطار عام يتم به بين الأمة وبين الحاكم، سواء كان هذا الإطار في صورة البيعة المباشرة أو البيعة بواسطة اختيار أهل الحل والعقد.

وعليه فإن البيعة تكون نوع التزام في التزام، وهذا من العقود العقلائية التي تجري عليه السيرة أيضاً في مختلف الشؤون، ولعل هذا ما ربما ينسجم مع مبنى من قال بأن البيعة نوع تعهد أو تعاقد، وربما يستظهر ذلك أيضاً من كلمات ابن خلدون، حيث قال: اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، ولا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه فيه من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة مصدر باع، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي. هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع.[134] وربما يستظهر من كلامه ومن قوله بعدم جواز المنازعة ووجوب الطاعة أنه التزام في التزام، لكنه لم يستظهر من كلماته بأن هذا الالتزام يمكن نقضه لو تخلف أحد الطرفين بمقتضيات ما تبايع عليه.

في الجمع بين الأقوال في البيعة

والظاهر إمكان الجمع بين الأقوال المتقدمة بالقول بأنه ما دام لا يوجد دليل خاص على تحريم البيعة أو المنع منها بل عرفت قيام السيرة على العمل بها في الجملة كان الأصل فيها الجواز، بناء على عدم دلالة العمل على أكثر منه، أو الرجحان بضميمة أدلة الاقتداء او التأسي.

وحينئذ لابد من التفريق فيها بين زماني حضور المعصوم وغيبته بالقول بأنها في زمان الحضور إلزامية؛ اذ لايمكن القول بأن البيعة في زمان حضور المعصوم تنصيبية؛ لاستلزامه الاستحالة من جهة اللغوية والخلف؛ إذ مع وجود النص الخاص على نصب الامام من قبل الباري عزوجل لايبقى موضوع لتنصيب الأمة له بواسطة البيعة، سواء قيل بأنها علة تامة للتنصيب، أو جزء العلة إلا بنحو تحصيل الحاصل أو الخلف ؛ إذ لاخيار فوق مايختاره الله عزوجل، فيبقى القول بأنها إلزامية من باب إقامة الحجة على الناس. فإن الحكومة من شأنها أن يكون لها مخالف ومؤيّد، فالحاجة إلى الإلزام وإقامة الحجة على المخالف كبيرة حتى لو كان المتصدي للحكومة معصوماً، وهذا ما يظهر من سياسة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث ابتليا بوجود المخالفين والمعارضين، وبعضها كانت من المعارضة المسلحة، وأما في زمان الغيبة وفقدان النص الخاص على الامام فإنه يمكن أن تكون تنصيبية فضلا عن كونها إلزامية؛ إذ لامانع عقلي أو شرعي يحول دون ذلك؛ لأنها لاتعدو أن تكون إحدى صيغ إظهار الرضا والتاييد للحاكم التي تقرها سيرة العقلاء، بل والمتشرعة بعد عدم المانع.

وعليه فلا مانع من اتخاذ البيعة طريقاً من طرق الاختيار؛ إذ حكمها من ناحية الموضوع سيكون حكم إدلاء الرأي في صندوق الاقتراع، أو التصويت المباشر بواسطة رفع الأيدي والأصابع في الانتخابات العامة أو الخاصة؛ لأن هذه جميعاً مصداق للكلي، وهو تعيين المختار من قبل الأمة، سواء تحقق هذا التعيين بواسطة الانتخاب، أو صندوق الاقتراع، أو بواسطة اختيار أهل الحل والعقد، أو بواسطة إظهار البيعة ما دام لا يوجد دليل على المنع، بل قد يقال بأن دلالة البيعة في تنصيب الحكام وما أشبه ذلك أقوى وأشد من إدلاء الصوت؛ لكون البيعة تتضمن التعاقد والتعاهد الروحي والفكري والجسدي بين الطرفين على الوفاء للآخر حاكماً أو محكوماً، بل ولا يبعد القول باستحبابها تأسيا برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام).

 وعليه فلو اختارت الأمة البيعة طريقاً للتنصيب في غير زمان النص فلا بأس به، لكن بشرط أن تكون حرة، وأما إذا اتخذت طريقاً قهرياً كما صنعه معاوية وغيره ولا زال يعمله بعض الحكام المستبدين فلا يجوز؛ لأنه استبداد، وهو محرم شرعاً، وقبيح عقلاً، وبذلك يظهر أن اختلاف الفهم العرفي أو الانصراف من البيعة ونحوها مما لا يضر ما دامت البيعة مصداقا من مصاديق إظهار رضا الامة؛ وذلك لأن الكلام عما ارتضته الأمة حاكماً لها، وهذا يمكن أن يكون طريقه الاختيار والانتخاب المباشر أو غير المباشر، و يمكن أن يكون طريقه البيعة، فإن الملاك هو إحراز توفر المؤهلات الشرعية مع إحراز رضا الأمة، وأي طريق يمكن أن يوصلنا إليه كان كافياً ما دام لا يوجد دليل عقلي أو شرعي على المنع منه، وعليه فإن إحراز رضا الأمة واجب لحرمة تولي الحاكم دون رضاهم. وأما اختيار طريق الانتخاب أو البيعة أو غير ذلك فهو من الواجب التخييري الذي يوكل أمره إلى الأمة، وعليه فحصر العامة طريق الرضا بالبيعة لا دليل عليه، كما أن إطلاق وجوبها عندهم حتى في زمن النص باطل؛ لكونه مستلزماً لما ذكرنا من التوالي الفاسدة، فضلاً عن أنه يستلزم الاجتهاد في مقابل النص.

لطة ونظام الحكم، وبعض المناقشات فيها في الجملة.

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

.................................................

[1] سورة آل عمران: الاية 104.

[2] سورة النساء: الاية 59.

[3]الوسائل:ج27ص131ح33401 باب10من ابواب صفات القاضي؛ البحار:ج2ص88ح12.

[4] الوسائل:ج23ص140ح33424باب11 من ابواب صفات القاضي.

[5] الكافي:ج1ص50 ح13.

[6] الاحتجاج:ج2ص264.

[7] انظر المكاسب:ج3ص554.

[8] حكاه عنه السيد الشيرازي Qفي الفقه كتاب الاجتهاد والتقليد:ج1ص232.

[9] المكاسب والبيع:ج2 ص336؛انظر شرح تبصرة المتعلمين:ج3ص465.

[10] الفقه كتاب الاجتهاد والتقليد:ج1ص232-233؛ الفقه كتاب البيع:ج5ص7ص26.

[11] الاسلام يقود الحياة:ص27.

[12] مهذب الاحكام:ج16ص365-367؛وج15ص85-87.

[13] تحف العقول:ص172.

[14] الكافي:ج1ص46ح5؛كنز العمال:ج10ص183ح28953.

[15] انظر الوسائل:ج25ص412ح32239 وح32242باب 1 من ابواب احياء الموات.

[16] الكافي:ج1ص67ح10؛ التهذيب:ج6ص301 ح845.

[17] انظر تاريخ الخميس:ج2ص40؛ الطبقات الكبرى:ج1ص26وص277 ؛ وكلمة الرسول الاعظم:ص266 وص277؛السبيل الى انهاض المسلمين:ص144-146وص300 ص312وص316.

[18] تنبيه الامة وتنزيه الملة:ص141-150بتصرف.

[19] تنبيه الامة وتنزيه الملة:ص133-134بتصرف.

[20] الفقه كتاب الحكم في الاسلام:ج99ص50 بتصرف.

[21] عوالي اللآلي:ج1ص315ح36.

[22] المصباح المنير:ج1ص79توى؛مجمع البحرين:ج1ص71توا.

[23] الفقه كتاب الحكم في الاسلام:ج99ص51.

[24] سورة الشورى: الاية 38.

[25] سورة آل عمران: الاية 159.

[26] نهج البلاغة:ص366-367 الكتاب 6.

[27] نهج البلاغة:ص445-446 الكتاب54.

[28] المكاسب: ج5 ص19.

[29] فرائد الاصول: ج2 ص601.

[30] الفقه كتاب النكاح: ج66 ص206 ؛ الفقه كتاب الشركة والمضاربة: ج53 ص12.

[31] سورة البقرة: الاية 124.

[32] سورة الشعراء: الاية 151.

[33] الكافي: ج1 ص407 ح8.

[34] نهج البلاغة: ص181 الخطبة 131.

[35] البحار: ج44 ص89 ح2 ز

[36] البحار: ج44 ص 334 – 335 ح2.

[37] انظر دراسات في ولاية الفقيه: ج1 ص546 بتصرف.

[38] نهج البلاغة: ص82 الخطبة 40.

[39] تصنيف غرر الحكم: ص464 رقم 10672.

[40] انظر شرائع الاسلام: القسم الاول ص 98- 99 ؛ مسالك الافهام: ج1 ص315 – 316 ؛ العروة الوثقى: ج1 ص571.

[41] مهذب الاحكام: ج8 ص144 حاشية 50.

[42] شرائع الاسلام: القسم الاول ص98 ؛ العروة الوثقى: ج1 ص581 ؛ مهذب الاحكام: ج8 ص147.

[43] انظر العروة الوثقى: ج1 ص9.

[44] مهذب الاحكام: ج1 ص25، حاشية 25.

[45] الفقه كتاب الاجتهاد والتقليد: ج1 ص119.

[46] انظر العروة الوثقى: ج1 ص9.

[47] الفقه كتاب الاجتهاد والتقليد: ج1 ص141.

[48] مهذب الاحكام: ج1 ص31.

[49] الوسائل: ج27 ص106 ح33334 باب 9 من ابواب صفات القاضي.

[50] الاحكام السلطانية: ج2 ص7.

[51] الشفاء: ص452 الإلهيات.

[52] سورة النساء: الاية 59.

[53] نهج البلاغة: ص367 الكتاب 6.

[54] نهج البلاغة: ص248 الخطبة 173.

[55] الفقه كتاب الاقتصاد: ج107 ص156.

[56] البحار: ج2 ص245 ح54.

[57] المصدر نفسه: ح53.

[58] الكامل: ج2 ص150.

[59] نهج البلاغة: ص184 الخطبة 127.

[60] الوسائل: ج27 ص106ح33334 باب 9 من ابواب صفات القاضي؛ الكافي: ج1 ص68 ح10.

[61] الكافي: ج7 ص198 ح2.

[62] البحار: ج101 ص397 ح44.

[63] سورة المائدة: الاية 1.

[64] التهذيب: ج7 ص371 ح1503؛ الوسائل: ج21 ص276 ح27081 باب 20 من ابواب المهور.

[65] سورة النساء: الاية 59.

[66] نهج البلاغة: ص425 الكتاب 51.

[67] نهج البلاغة: ص79 الخطبة 34.

[68] مفردات الفاظ القران الكريم: ص155 بيع.

[69] النهاية لابن اثير: ج1 ص171 بيع.

[70] مجمع البحرين: ج4 ص304 بيع.

[71] لسان العرب: ج8 ص26 بيع.

[72] تاريخ ابن خلدون: ج1 ص261.

[73] - تفسير الميزان: ج18 ص274 ذيل الاية 10 من سورة الفتح

[74] كمثل قوله سبحانه:{ ياايها الذين امنوا اوفوا بالعقود}سورة المائدة: الاية 1؛ وقوله سبحانه:{والموفون بعهدهم اذا عاهدوا} سورة البقرة: الاية 177.

[75] الوسائل: ج18 ص16 – 17 ح23040 وح23041 وح23044 باب 6 من ابواب الخيار.

[76] سورة الفتح: الاية 18.

[77] سورة الفتح: الاية 10.

[78] راجع مجمع البيان: ج9 ص112 – 113 تفسير الاية 11 من سورة الفتح ؛ مسند احمد: ج4 ص47.

[79] مسند احمد: ج3 ص292.

[80] مجمع البيان: ج9 ص117 قصة الحديبية.

[81] سورة الممتحنة: الاية 12.

[82] تفسير نور الثقلين: ج5 ص307 ح28 سورة الممتحنة.

[83] تفسير نور الثقلين: ج5 ص309 ح36 ؛ مجمع البيان: ج ؟؟ ص276 الاية 10 من سورة الممتحنة.

[84] السيرة النبوية لابن هشام: ج2 ص424 بتصرف.

[85] الكامل: ج2 ص252 بتصرف.

[86] الاحتجاج: ج1 ص66 – 84.

[87] راجع الارشاد: ج1 ص243.

[88] نهج البلاغة: ص194 الخطبة 136.

[89] نهج البلاغة: ص445 – 446 الكتاب 54.

[90] راجع الارشاد: ج2 ص 37.

[91] راجع الارشاد: ج2 ص 41.

[92] الارشاد: ج2 ص8.

[93] عيون اخبار الرضا: ج2 ص238 ح2 ؛ تفسير نور الثقلين: ج5 ص60 ح32.

[94] راجع كتاب الغيبة للنعماني: ص175.

[95] راجع كتاب الغيبة للنعماني: ص181.

[96] انظر دراسات في ولاية الفقيه: ج1 ص522.

[97] الخصال: ج1 ص85 ح13.

[98] البحار: ج27 ص68 ح3.

[99] الاحكام السلطانية: ج1 ص24.

[100] الاحكام السلطانية: ج2 ص7.

[101] انظر مقدمة ابن خلدون: ص239 – 240.

[102] شرح المقاصد: ج5 ص254.

[103] انظر مقدمة ابن خلدون: ص239 – 240.

[104] قال سبحانه: {النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم} سورة الاحزاب: الاية 6.

[105] قال سبحانه: { ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله يد الله فوق ايديهم فمن نكث فانما ينكث على نفسه ومن اوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه اجرا عظيما} سورة الفتح: الاية 10.

[106] تفسير ابن كثير: ج4 ص 186؛ الدر المنثور: ج6 ص74؛ مسند احمد: ج4 ص51.

[107] مجمع البيان: ج9 ص117 قصة فتح الحديبية.

[108] سورة الفتح: الاية 10.

[109] السيرة النبوية لابن هشام:ج2 ص 433-434 واريد ببيعة النساء انهم لم يبايعوه على القتال.

[110] انظر السيرة النبوية لابن هشام: ج2 ص 454 ؛ ومناقب آل ابي طالب: ج2 ص24.

[111] مناقب آل ابي طالب: ج1 ص182 ؛ انظر السيرة النبوية لابن هشام: ج2 ص442-443 ؛ المصدر نفسه: ص 446 – 447 ؛ المصدر نفسه: ج3 ص330.

[112] السيرة النبوية لابن هشام: ج3 ص 330.

[113] السيرة النبوية لابن هشام: ج2 ص 468 ؛ والمصدر نفسه ص 615 ؛ مناقب آل ابي طالب: ج1 ص202.

[114] كشف الغمة: ج1 ص374.

[115] نهج البلاغة: ص79 الخطبة 34.

[116] السيرة النبوية لابن هشام: ج2 ص 425.

[117] المصدر نفسه: ج2 ص 424-425.

[118] سورة الحشر: الاية7.

[119] سورة النساء: الاية 65.

[120] مسند احمد: ج4 ص 281 ؛ شرح المقاصد ج8 ص273 ؛ الغدير: ج2 ص269-284 ؛ وانظر تلخيص الشافي: ج2 ص168 ؛ كشف المراد: ص395.

[121] البحار: ج32 ص33 ح109.

[122] سليم بن قيس: ج2 ص 752-753.

[123] كقوله سبحانه:{ مااتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا} سورة الحشر: الاية 7.

[124] كقولهم (عليهم السلام): الراد علينا كالراد على الله، وهو على حد الشرك بالله الوسائل: ج27 ص 136 – 137 ح 33416 باب 11 من ابواب صفات القاضي.

[125] سورة التوبة: الاية 111.

[126] الفقه كتاب السياسة: ج106 ص 276-277.

[127] التهذيب: ج3 ص 263 ح746 وتقدمت الاشارة الى بعض مصادره.

[128] نهج البلاغة: ص48 الخطبة 3.

[129] الكافي: ج5 ص 201 ح6.

[130] عوالي اللآلي: ج1 ص 235 ح84.

[131] دراسات في ولاية الفقيه: ج1 ص 526.

[132] دراسات في ولاية الفقيه: ج1 ص526.

[133] الاسلام يقود الحياة: ص 146.

[134] مقدمة بن خلدون: ص261.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 28/حزيران/2011 - 25/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م