الإسلاميون السنة العرب وازدواجية المعايير

بعد أن فشلو في الامتحان

د.علي المؤمن

يمكن إسقاط عنوان المعايير المزدوجة أو سياسة الكيل بمكيالين على أكثر من حالة في عالمنا المتخم بالتناقضات والمفارقات، ولاسيما على صعيد المعادلات الاجتماعية والسياسية، سواء المرتبطة بالسياسات الدولية أو السياسات الإقليمية، وصولا إلى السياسات المحلية في بلد من البلدان.

ولكي نبتعد قليلاً عن الخطاب التنظيري، ينبغي أن ننطلق من صلب الواقع الذي نعيشه؛ لنصل إلى حقيقة الدور الذي يمكن أن تلعبه شفافية مثل هذه المنهج الصريح في مواجهة سياسة الكيل بمكيالين أو المعايير المزدوجة، وإلا فالحديث التنظيري يمكن أن نردده في تجمعاتنا التعبوية وندواتنا ومؤتمراتنا الاستنهاضية، أو نكتبه في كتبنا ونفصله في دورياتنا، بل إن مئات الدوريات كتبت عن سياسة المعايير المزدوجة الغربية أو تناولت هذا الموضوع بشكل وآخر، ولكن الغرب لم يهتز له طرف ولم يرف له جفن، ولا تغير شيء من الموضوع.

من هنا أرى لزاما أن ينطلق الحديث في هذا الموضوع من صلب الواقع؛ لكي نضع القدم الأول على طريق الحل، واعني بذلك الوقوف على بعض النقاط الأساسية في المعايير المزدوجة التي تستخدمها معظم التيارات الإسلامية والعروبية السنية؛ فضلا عن الأنظمة الطائفية، قياسا بسياسات الغرب في هذا المجال؛ على اعتبار أن العدوى التي انتقلت إلى هذه التيارات والانظمة هي اخطر بكثير من أصل سياسة الغرب المتناقضة واصل المرض التي نعتقد أن الغرب يعاني منه. فلماذا إذن نعيب زماننا والعيب فينا!؟

عقل الغرب وازدواجيته

لا يرى الغرب أي تناقض في سلوكياته و في سياساته التي يستخدمها تجاه منطقتنا أو تجاه الشعوب الأخرى، وتحديدا ما يعرف بسياسة المعايير المزدوجة، فهذا هو الغرب، في عقله وفي تكوينه وفي بنيته الفكرية وفي منظومته. نحن نعتبره متناقضا في سلوكياته وازدواجيته، وتنطوي تصرفاته على كثير من المفارقات، ولكنه لا يرى نفسه كذلك؛ لان هذه السياسات تعبر عن وعيه بنفسه وبالآخر، وتستند إلى بنيته؛ إذ إن العقل الغربي هو عقل مصلحي براغماتي مادي استعلائي. وهذه الأوصاف قد تكون في المعايير المثالية أو القيم الأخلاقية أو المبادئ الإنسانية الأساسية لونا من الشتيمة، ولكنها في معايير القيم الفكرية والسياسية الغربية تمثل الواقعية والعقلانية بكل خصائصهما التي فصلها العقل الغربي على مقاساته. ومن هنا فان مضمون مصالح الغرب وشكلها تمثل وعي هذا العقل بذاته وبالآخر، وتتمظهر في سلوكياته، وهي سلوكيات تمثل العقلانية والواقعية من منظاره، والمزدوجة من منظارنا. وهذا ما يجعل الغرب منسجما بالكامل مع نفسه.

كم رقم يمكن عرضه في هذا المجال! كم وثيقة يمكن تقديمها، وكم حدث يمكن الاستشهاد به! مئات الحوادث!؟...آلاف الوثائق!؟..ملايين الأرقام!؟.. فمنذ القرن الخامس عشر الميلادي وحتى الآن والغرب الاستعماري يمارس أبشع ألوان المعايير المزدوجة. فهو من جهة يرفع شعارات الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان والحريات، وربما تجد تطبيقاتها في الداخل الغربي بصورتها ومضمونها المتناسبين مع الأفكار، لكنه في الوقت نفسه ينتهك حقوق الإنسان بأكثر الصور ترويعا في جغرافيا الشعوب المستعمرة أو المناطق التابعة لنفوذه. ومثال ذلك فرنسا الداخل: الثورة المناهضة للاستبداد والحكم المطلق والمنادية بالحقوق والحريات، وفرنسا الخارج: سجلها الاستعماري والتبشيري في شمال أفريقيا ووسطها وبلاد الشام.

ومثال بريطانيا العظمى: تقاليدها العريقة في أساليب الحكم والإدارة، وأفكار علماء السياسة والقانون فيها، وسجلها الاستعماري في الخارج: الإحتلالات وألوان الإستيطان في آسيا وأفريقيا وأمريكا، فضلاً عن تأسيسها أسوء مشروع استعماري استيطاني في فلسطين. ومثال الولايات المتحدة الأمريكية التي تنتمي إلى أكثر دساتير العالم تحضرا، والى أفكار ثورتها الاستقلالية التحررية، وتبشيرها بكل مايتناقض مع سلوكيات بريطانيا المستعمرة آنذاك، ولكنها في واقع الحال تأسست على أكبر تناقض في تاريخ البشرية؛ فمبادئ الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية والليبرالية التي تأسست عليها، والذي تمثل في سلوكها التأسيسي؛ ترجمتها الولايات المتحدة الأمريكية إلى أبشع ألوان الاستعباد وانتهاك حقوق الإنسان ضد السكان الأصليين وضد السود وضد الشعوب اللاتينية وغيرها من الشعوب غير الأوربية. وهو ما فعلته أيضاً عبر التبشير بمبادئ ثورتها في أمريكا الوسطى وشرق آسيا، ولاحقا في الشرق الأوسط، والمثال الأبرز في هذا المجال موقفها من القضية الفلسطينية الذي ورثته من بريطانيا؛ إذ استخدمت أمريكا في مجلس الأمن الدولي حق الفيتو حتى الآن أكثر من 85 مرة لمصلحة الكيان الصهيوني؛ للحيلولة دون صدور أي إشارة من مجلس الأمن يدين انتهاكات إسرائيل لحق الإنسان الفلسطيني في مجرد العيش أو البقاء في داره، فضلا عن العيش بكرامة وحرية واستقلال، وهو سلوك تأسيسي أيضاً يتطابق مع السلوك الذي قامت عليه الولايات المتحدة. وأمريكا التي تقول إن مسؤوليتها (الأبوية) تجاه العالم تجعلها تبحث عن أي إنسان في غابات الأمازون أو مجاهيل أفريقيا لتدافع عن حقه، تتحد في الوقت نفسه اتحادا مصيرياً كاملا مع سلوك إسرائيل ضد الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهما من شعوب الجوار.

وفي الوقت الذي يصر الغرب على منع إيران من امتلاك التكنولوجيا النووية، و يعده مشروعاً تستحق عليه إيران اشد أنواع العقوبات؛ في حين يرعى الغرب البرنامج النووي العسكري الباكستاني، ويقاتل من اجل حماية الترسانة النووية الإسرائيلية.

هذا هو الغرب.. لا يتنكر لهذه المعايير المزدوجة ولا يمارسها بسرية، بل بكل صراحة وشفافية؛ فهو منسجم مع عقله ومع منظومته الفكرية وهو يمارس هذه السلوكيات. ومن هنا؛ يفترض أن لاننظر الى الغرب من خلال الأنا أو من خلال وعينا بذاتنا؛ بل من خلال وعيه بذاته ونظرته لنفسه، وحينها لن نستطيع محاججته على سلوكياته وأفكاره ومبادئه؛ لأنه منسجم مع نفسه ولايتستر وراء شعارات، كما تفعل بعض الجماعات والتيارات والأنظمة في منطقتنا، والتي تعيش التناقض بين مبادئها وشعاراتها وممارساتها في كثير من الكليات والتفاصيل.

وعبثية محاججة الغرب في وعيه؛ لاتعني عبثية مقاومته؛ إذ ان المقاومة هي الحل مع الغرب، وليس المحاججة. والمقاومة هنا لاتعني المقاطعة؛ بل تعني مقاومة مشروع الغرب في منطقتنا. أما المحاججة فهي مع المشتركين معنا في الجغرافية والاصول.

 ولا أريد هنا أن أدخل في مقاربات فكرية في إطار مايطرحه بعض المفكرين والباحثين امثال إدوارد سعيد من اختزان الوعي الغربي لتناقض المعايير في وعيه، باعتباره يعي الآخر من خلال وعيه بذاته. وإذا كان الغرب يعيش هذه المفارقة؛ فمن الاولى ان لانعيشها نحن، في الوقت الذي ننتقده على بنية الوعي لديه.

و نحن كجماعات أو تيارات أو شعوب تلتزم مشروعها النابع من بيئتها الفكرية وواقعها، ماذا يجب أن يكون فعلنا تجاه المعايير الغربية التي تستهدف منطقتنا!؟ هل يكفي الاستنكار والصراخ والبكاء! وهل يكفي نقد الغرب أو التوسل إليه ليكف عن ممارسة هذه المعايير؟! ثم من هو الذي يمتلك الفعل الحقيقي في هذا المجال؟! هذا الأسئلة تبقى مطروحة؛ لان الإجابة عليها هي التي تحدد نوعية الفعل الحقيقي. وبشكل عام يبدو أن مجرد الخطاب التحريضي لن ينفع في هذا المجال وأي مجال آخر، إلا إذا اقترن بصناعة رأي عام إقليمي ودولي مقاوم يمكنه كبح جماح السياسات الغربية أو بعضها تجاه قضايانا، يتم فيه تجاوز الانفعال أو ردود الأفعال؛ إلى الأفعال.

التيارات الإسلامية والعروبية السنية.. و عدوى المعايير المزدوجة

الحديث بلغة البحث العلمي يعني في المضمون: الدخول في عمق الإشكالية ودراستها بموضوعية، ويعني في الشكل: الشفافية والصراحة والقبول بالنتائج. ومن بديهيات ذلك عدم العبور على الحقائق ؛ لان ذلك لا يخدم الحقيقة.

إذا انتقلتا من مسألة سياسة الكيل بمكيالين التي يمارسها الغرب لننتقل إلى نماذج شبيهة تمارسها كثير من التيارات الإسلامية والعروبية السنية والأنظمة الطائفية؛ سنجد أن هذه السياسة اشد خطورة على واقعنا الوطني والعربي والإسلامي من سياسات الغرب تجاهنا؛ الأمر الذي يزيد من تمزيق هذا الواقع وانكفائه وانفعاله؛ فانتقال هذه العدوى إلى التيارات الإسلامية السنية هو في الحقيقة أكثر إثارة لعلامات الاستفهام والتعجب، ويحمل تناقضا أكبر؛ لان هذه التيارات في الوقت الذي تستنكر المعايير المزدوجة للغرب، وتعتبر أن هذا الخطاب المستنكر هو نقطة ارتكاز في خطابها المناهض للغرب، فهي في الوقت نفسه تمارس المنهج ذاته، فتستخدم منهج المعايير المزدوجة وتكيل بمكيالين حيال شيعة المنطقة بقوة أكبر ومع سبق الإصرار والترصد، وكانها تقول: أيها الشيعة هذه مواقفنا المبدئية تجاهكم. وهي بذلك تتماهى مع الغرب بالكامل في انسجامه مع نفسه وفي وعيه بالآخر من خلال وعيه بذاته، اي ان التيارات والانظمة السنية تمارس مبادئ وسلوكيات احتلال واستعمار تجاه الشيعة، كما يفعل الغرب بالضبط.

هنا؛ يعد هذا التناقض لدى بعض التيارات السنية جريمة؛ لان الغرب المستعمر وجود بعيد جغرافيا ومعتقدياً عنّا، وهو طارئ في مشروعاته، فضلا عن انه ـ كما قلنا ـ منسجم مع نفسه وهو يمارس هذه السياسة ضد الآخر. ولكن التيارات الإسلامية والعروبية السنية التي تقول انها تأسست على وفق قيم الإسلام والعروبة وتشربتها، فانها حين تمارس مثل هذه المعايير فهي تخالف أيسر التعاليم الإسلامية ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) والتعاليم الأخلاقية، التي يعبر عنها الشاعر بقوله: «لأتنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم». فمن الجريمة أن يمارس العروبي والإسلامي السني سياسة المعايير المزدوجة تجاه شريكه في الوطن والجغرافية والعيش المشترك والمعتقد، في الوقت الذي ينكرها على الغرب.

والحال أن الميدان الأول للإنسان هو نفسه، فإذا أراد العروبيون والإسلاميون السنة تغيير واقعهم ومواجهة الغرب مواجهة حضارية كما يقولون؛ فعليهم أن يبدؤا بأنفسهم؛ وأن لا يمارسوا مثل هذه السياسة بحق أنفسهم وإخوانهم الشيعة.

حالة العراق والبحرين

هناك حالتان اسلاميتان عربيتان كانت المعايير المزدوجة ومواقف الكيل بمكيالين حيالهما الأكثر إثارة للألم والإشمئزاز؛ الى المستوى الذي يشعر المراقب تجاه ذلك بالغثيان، ويوقن إن هذه التيارات لا تتناقض مع شعاراتها الإسلامية وحسب، بل انها تفتقد لاي حس إنساني. هاتان الحالتان المأساويتان عنوانهما: العراق والبحرين.

على مستوى الظهور الإعلامي وغير الإعلامي لاتزال هذه التيارات تعتبر وجود العراق وحضارته وتاريخه وحاضره ومستقبله وعروبته وإسلاميته في خطر؛ لأن الدولة العراقية لم تعد دولة تتفرد في حكمها ومقدراتها المنظومة السلطوية السنية الطائفية العنصرية التقليدية؛ بل بات للأكثرية المهمشة ( 82 % من السكان = الشيعة 65 % والكرد السنة 15 % ) مشاركة فاعلة في السلطة وفي الإمساك بمقدرات البلد وتحديد مساراته الفكرية والسياسية. وهنا مكمن الخطر في رأيهم. كما تعتبر هذه التيارات ما تسميه بالنفوذ الإيراني في العراق اخطر بكثير من الاحتلال الأمريكي. وبالتالي؛ فهي تسوغ لنفسها أي خطاب ديني تحشيدي فتنوي أو تكفيري أو تشكيكي في المعتقد ضد المكون الاجتماعي الغالب عددياً، وأي خطاب سياسي تحريضي على تدمير العملية السياسية والدولة والحكومة. وفضلا عن ذلك فان سياسة الكيل بمكيالين لهذه التيارات تتضح من خلال تعاطيها مع موضوع فتاوى التكفير، والتفجيرات وقتل الأبرياء، وتهجير العوائل، وممارسات نظام صدام حسين؛ إلى المستوى الذي بات فيه مشروع الاحتلال الأمريكي مجرد شماعة يعلقون عليها مواقفهم ضد العراق الجديد وشيعته.

ولاتزال الذاكرة العراقية تختزن آلاف الصور المأساوية لهذه المعايير المزدوجة، وفي مقدمتها الخطابات الشهيرة لرموز الجماعات الإسلامية السنية وهي تدعو للوقوف خلف القائد المؤمن صدام حسين، ثم حمايته والدفاع عنه بعد اعتقاله. وكأن دماء محمد باقر الصدر والمئات من علماء الدين والمفكرين ومايقرب من مليون إنسان؛ هي مجرد مياه آسنة سفكها صدام؛ بينما دماء سيد قطب وعبد القادر عودة والرنتيسي هي دماء مختلفة شكلا ومضمونا، وكأن أهوال نظام صدام في طوامير ابو غريب كانت مجرد أفلام خيال؛ بينما أصبح سجن ابو غريب حين سقط بيد الاحتلال الامريكي رمزا للصمود والمقاومة. وقد سمعت الألم العروبي والإسلاموي جراء ما حدث في ابي غريب الامريكي في اربعة افلام روائية مصرية ومسلسلين، أما ابو غريب صدام حسين، والذي حصل فيه آلاف الاضعاف من الجرائم اكثر من جرائم ابي غريب الامريكان؛ فهو ما لايريد ان يسمع به احد من العروبيين والإسلامويين.

وغيض من فيض؛ في اليوم الذي حدث فيه تفجير الحلة الشهير عام 2004، وراح ضحيته اكثر من 180 شهيدا، استشهد ايضا شخصان في غزة الفلسطينية؛ فقامت قائمة الإعلام الطائفي للجماعات والتيارات والانظمة العربية على الشهيدين الفلسطينيين، بينما كانوا يتحدثون عن فاجعة الحلة الشيعية بصورة هامشية جدا. وحيال استشهاد آية الله السيد محمد باقر الحكيم؛ تجاهلوا الحدث ولم يصدروا مجرد استنكار، والرجل لم يكن قائدا عراقيا وحسب، بل كان صديقا لكثير منهم، وكان يرأس المجلس الاعلى للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وقد استشهد ومعه العشرات خلال الصلاة وفي مرقد الامام علي؛ اي انها جريمة تاريخية مركبة؛ ولكن لم يرف لهم جفن؛ بل كانت لغة بعض وسائل إعلامهم التي تطرقت للحدث؛ تستبطن الكثير من اللؤم والشماتة.

وهكذا كانت عمليات الذبح المنظمة اليومية التي يتعرض لها شيعة آل البيت، وتهجير عوائلهم وتفجير اسواقهم وحرق بيوتهم واغتصاب نسائهم والتمثيل بجثث شهدائهم وتدمير مساجدهم ومراقد الاولياء والصالحين والأئمة؛ كانت ولاتزال مجرد أخبار عابرة هامشية؛ وكأنها حوادث سير تقع في بورما أو جزر الفولكلاند. حتى المعتدلين منهم كانوا حيال هذه الجرائم الوحشية التاريخية يدعون جميع العراقيين لضبط النفس؛ فيساوون بين الجزار والضحية. ولكن ضبط النفس هذا يتحول الى تحريض رهيب وصراخ وعويل وتحشيد طائفي عالمي مهول إذا تعرض شخص سني لحالة قتل أو اعتقال أو تهجير؛ فيكون حينها عراق الرشيد وابو حنيفة وابن حنبل والكيلاني ( حسب توصيف عدنان الدليمي) يتعرض للإبادة والتدمير والإندثار!!

سمعنا ضبط النفس يتكرر كل لحظة من معتدليهم حين تم تفجير مرقد الامامين العسكريين؛ ولكن حين سرت شائعة بامكانية تعرض مرقد الإمام ابي حنيفة الى الإعتداء؛ تحول مجرد التفكير بالعدوان هذا الى جريمة دولية؛ فتدخلت حينها تركيا أردوغان وعدة أنظمة عربية وتيارات اسلامية من اجل حمايته وحماية الآثار السنية. بل وحتى المرجعيات الدينية الشيعية أصدرت فتاوى مشددة بحرمة التعرض لأي مواطن سني أو رمزية سنية، وهو مالم تفعله اي مرجعية سنية حيال الشيعة ورمزياتهم.

أما الحكومة العراقية المسكينة والمسكونة بالهاجس التاريخي والإقليمي؛ فقد أصابها الرعب حينها جراء إحتمال تعرض السنة وممتلكاتهم لردود الفعل الشيعية الغاضبة؛ فتركت الشيعة ومقدساتهم عرضة لكل الوان الانتهاكات، وكرست خطابها و جهودها لحماية السنة.

ولكي أكون شديد الوضوح؛ فان ما أتحدث عنه الآن؛ سبق أن قلته و كررته في مؤتمرات وندوات ومحاضرات ومناظرات في أكثر من بلد، وبحضور معظم التيارات والحركات الإسلامية والعروبية السنية المعروفة، سواء المستقلين او من الأخوان او التحرير او حماس وغيرهم؛ بل لقد كنت العراقي الوحيد في مؤتمر كبير عقد في تركيا عام 2008؛ بحضور مئات الاشخاص من العروبيين والإسلاميين العرب؛ فكنت في لقاءاتي على هامش المؤتمر أشرح قضية العراق؛ وأقول لهم: كفاكم ازدواجية وعدم شعور بالمسؤولية تجاه الدماء والتقارب والتآلف والعيش المشترك. وكان مما يدمي قلبي أن يوزع ملصق في المؤتمر فيه مشاهد لمسلحين يحملون صور صدام حسين، وآخرون مقاومين من لبنان وفلسطين يحملون صور رموز إسلامية وعربية.

ولم نفق بعد على هول مايحدث في العراق؛ حتى اشتعلت البحرين بغضب المحرومين والمهمشين الشيعة؛ وهم أكثرية سكان الجزيرة..

اكثر من 250 الف شخص؛ اي مايقرب من نصف سكان البحرين؛ خرجوا بمسيرات واحتجاجات سلمية، يحملون مطالبهم التي أقر بمشروعيتها حتى ولي عهد ملك البحرين. وهي مطالب إنسانية بديهية عمرها عشرات السنين؛ بل من عمر نظام اسرة خليفة الطائفي. وأعقبت أو تزامنت هذه الإحتجاجات مع تحركات الشعوب التونسية والمصرية والليبية والجزائرية والاردنية والمغربية والموريتانية ضد أنظمتهم. فكانت الحركات العروبية والإسلامية السنية ولاتزال تدعم هذه التحركات وتتفاعل معها وتشترك فيها، وهو شيء طبيعي و جميل. ولكن كان تحرك الشعب البحريني هو الإستثناء الوحيد؛ بالرغم من انه الاكثر مشروعية والأبسط في شعاراته، والأهم في اندكاكه بالوطن والوطنية، فلم يكن يطالب المتظاهرون سوى بالعدالة المفقودة والمساواة الغائبة وتعميم حقوق المواطنة ورفع حالة الحرمان، وربما كان هناك من يطالب بتغيير النظام، وهو تعبير عن الرأي قاله ولايزال جميع المتظاهرين.. من المغرب وحتى الأردن، ولم يعترض أحد؛ بل كانت العقول والقلوب والحناجر والإعلام الإقليمي والعالمي والسياسة الدولية كلها معهم. ولكن جاءت الصدمة التي تدعو للغثيان والذهول جراء مواقف الإسلاميين والعروبيين المتشدقين بالشعارات والمتسترين خلف الزيف؛ حين وقفوا صفاً واحدا ضد الشعب البحريني، كما وقفوا من قبل ولا يزالون ضد الشعب العراقي، وكما لم يتحدوا يوما ضد إسرائيل. لقد ظل التحرك الوحيد الذي يقابل بالرفض هو تحرك الشعب البحريني!. لماذا!؟

لأن غالبية المحتجين من الشعب البحريني المضطهد هم شيعة؛ و لذا يستحقون القتل والتعذيب والاعتقال والموت حسرة وكمدا من قبل نظام آل خليفة السني!. هذه هي المعادلة التي تتجسد فيها بشاعة المعايير المزدوجة، والتي يزيدها شناعة؛ إن الشعب البحريني المحتج يستحق ايضا فتاوى التكفير، وسباب مشايخ اهل السنة على المنابر، وبيانات استنكار الحركات العروبية والاسلامية السنية.

أما المضحك المؤلم في الحدث البحريني؛ فهو الحديث عن التدخل الخارجي. فقد ألصقت الحركات والشخصيات والأنظمة الطائفية تهمة التدخل الإيراني في الاحتجاجات، وإنها تتم لمصلحة ايران واهدافها وبتخطيطها وتمويلها وتدريبها وتحريكها!. وبالتالي فمايحدث في البحرين هو صناعة إيرانية!. وهي بالطبع تهمة جاهزة لأي شيعي في العالم يرفع صوته بالدفاع عن نفسه او الحديث عن محروميته. أما السعودية فانها لم تتدخل في الشأن البحريني أبدا!. ماهذا التعسف!؟ كيف يجرؤ الإسلاميون والعروبيون على الدجل والتزوير الى هذا المستوى؟!

المحتجون البحرينيون لم يرفعوا سوى العلم البحريني، ولم يرفعوا صورة اي رمز ايراني او عراقي، ديني او سياسي، بل وحتى رمز بحريني، و لم يطلقوا اي شعار مذهبي، و لم يقدموا اي مطلب طائفي. اما ايران؛ فانها لم تسلم قطعة سلاح واحدة أو دولار واحد او حتى قنينة ماء الى المتظاهرين، ولو كان قد حصل شي من هذا القبيل؛ لأقامت وسائل الاعلام الحكومية البحرينية والعربية الطائفية والعالمية الدنيا ولم تقعدها. بل ولم يثبت أن شخصية بحرينية أجرت اتصالا هاتفيا واحدا مع ايران او أجنحتها المنتشرة في لبنان والعراق واوربا.

والمفارقة ان الرموز والجماعات الابرز التي تقف وراء الاحتجاجات (المجلس العلمائي والوفاق والتوعية وغيرها) هي رموز وجماعات مصنفة على مدرسة حزب الدعوة. في حين لم يثبت ان حزب الدعوة العراقي أو تياراته في البلدان الأخرى؛ قد تدخل في الموضوع البحريني؛ سوى ببيان تعاطف رسمي، وخطاب متضامن من أمينه العام، ووقفة اعلامية من قنواته التلفزيونية.

ولكن في الجانب الآخر؛ حيث السعودية؛ فإن نواباً بحرينيين وكويتيين رفعوا العلم السعودي داخل برلماناتهم، و هتفوا علنا عدة مرات بحياة الملك عبد الله. ورفع محتفلون بحرينيون سنة من انصار النظام؛ العلم السعودي وصور حمد الى جانب عبد الله؛ في شوارع المنامة. وفوق كل هذا دخلت القوات السعودية تحت ستار قوات درع الجريدة الى الاراضي البحرينية لتحتلها رسميا، وساهمت في قمع المتظاهرين وقتلهم والاجهاز على الجرحى في المستشفيات. وكان كل هذا يحدث بمباركة الإسلامويين والعروبيين السنة وتشجيعهم لقمع التحرك السلمي الوطني لشعب مضطهد مهمش.

الحقائق اعلاه قلبتها المعايير المزدوجة – إذن – وبكل بساطة؛ فجعلت من ايران وحزب الدعوة وحزب الله والتيار الصدري؛ متهمون بالتدخل في الشأن البحريني وبمحاولة قلب نظام الحكم الخليفي، وجعلت من السعودية الملاك الأبيض الذي أرسلته المشيئة الى البحرين لإنقاذها من خطر الشيعة الصفويين!

وفي الوقت نفسه تجعل المعايير المزدوجة من حق الشعوب العربية كلها أن تحتج وتثور، في حين لايحق للشيعي أن يتنفس؛ فيما لو كان النظام الذي يحكمه نظام سني.

السقوط في امتحان المبادئ

إذا كانت الايدولوجيا الغربية التي تضع المصالح الأرضية والسياسية والواقعية فوق كل شيء، انسجاما مع بنيتها العقلية البراغماتية المادية، بالشكل الذي تسوغ لحامليها كل الممارسات اللاإنسانية وكل التناقضات والمفارقات في السياسة وغيرها، فان قيم الإسلام والعروبة التي تؤكد على العدالة والرحمة والصدق والشهامة والعاطفة، تحول دون أي ممارسة من هذا القبيل. فيكف يسوغ الإسلاميون السنة العرب والعروبيون لأنفسهم ان يستخدموا هذه المنهج بكل تفاصيله البشعة؛ وضد من!؟ ضد من يشتركون معهم في العيش والوطن والمعتقد.

 لم أتردد مرة - بحكم الجغرافيا التي أعيشها- من طرح حديث المعايير المزدوجة هذا؛ في اللقاءات الشخصية مع اصدقائي من كوادر التيارات والجماعات الإسلامية والعروبية السنية. ولا أزال أمتلك صداقات ومودة مع كثير منهم، ولكن العتب يبقى هو الحاضر الدائم. ولأني أعرف النوايا الطيبة الصادقة لكثير منهم؛ وأشعر أن بعضهم لايعرف الحقائق، ولايدرك خطأ ما يقول ويفعل؛ فهو أمر يدعو الى التفاؤل النسبي. ولكن هكذا أمور حساسة وخطيرة لا توزن بالنوايا الطيبة؛ بل بإعادة النظر في وعي الحقائق، وبالخطاب التقريبي الجديد، وبالسلوك المتوازن.

لانجامل أهلنا من أبناء التيارات الإسلامية السنية العربية؛ لقد فشلوا في إمتحان العراق والبحرين، وإذا اصبحت نتائج امتحانات الدنيا عسيرة عليهم؛ فكيف بامتحان الآخرة؛ وهم يقولون انهم يعملون من أجلها؛ فليحاسبوا انفسهم، ويستعدوا لامتحان جديد..

* باحث عراقي

alialmomen644@hotmail.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 27/حزيران/2011 - 24/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م