القسوة السياسية.. جذورها أسبابها ونتائجها

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: السياسيون هم أبناء المجتمع، إنهم يولدون مع الآخرين من حاضنة واحدة، الضابط والطبيب والمثقف والمهنيين عموما، يحملون صفات وسمات عامة متقاربة، نتيجة لقانون الاكتساب بالتجربة، قد يتركّز الاختلاف في طبيعة العمل، لكن سمات الشخصية التي تنتج هذا العمل او ذاك، غالبا ما تكون قريبة من بعضها، بسبب تعايش مكونات الحاضنة الى جانب بعضها البعض، لهذا فالجميع يؤثر بالجميع، أما الاختلاف، فهو غالبا يمس القشور لا أكثر، بمعنى أن تركيبة الشخصية تكاد تكون واحدة لدى الضابط والطبيب والمعلم وغيرهم كونهم نتاج حاضنة واحدة.

القسوة سمة من سمات مجتمعات الصحراء، بسبب تأثير الطبيعة، حتى وإن بدت المدنية تتفوق على المظاهر الصحراوية ماديا، فالجذور وسماتها وخصائصها تبقى قائمة، وقد يتطلب محوها قرونا متتالية من العمل الممنهَج والمدروس، لتغيير الخصائص الشخصية، فهل يمكن القول أن خصائص الصحراء إنتقلت الى الانسان منذ بواكير العلاقة المكانية الحياتية المتبادلة بينهما؟، نعم ليس هناك من شك في أن قسوة الصحراء إنتقلت الى ساكنيها من البشر، ومنهم العرب وثمة غيرهم، وهذا ما يفسر طابع القسوة في النظام العربي عموما.

لقد تقلّصت مظاهر الصحراء كثيرا، وقلّت تأثيراتها نتيجة للثورة التكنولوجية التي حاولت السيطرة على الطبيعة ونجحت في هذا المضمار، ولكن يبدو أن الخصائص التي انتقلت لإنسان الصحراء لا تزال قائمة، ولابد أن أسبابها الجلية تظهر في النظام السياسي العربي المتّسم بالقسوة أكثر من الأنظمة الحياتية الأخرى، ولعل الاشكالية الخطيرة التي تسببت بها خصائص الصحراء، أنها صنعت منظومة سياسية بالغة القسوة من الحاضنة العربية، فمواجهة الجفاف والوحدة والاستيحاش، وربما الحيوانات المفترسة وقلة الماء والطعام، ومصادر العيش الاخرى، كلها عناصر ساعدت في بناء شخصية قاسية، ومن مجموع الشخوص القساة، تكونت ونمت وتطورت الحاضنة، لتفرز بدورها نظاما سياسيا قمعيا وقاسيا.

كيف يمكن أن نفسر جنوح القادة العرب الى التفرّد بالسلطة، والاستماتة القصوى في الدفاع عن العرش، واللجوء الى أساليب العنف التي قد يكون بعضها غريبا ومبتكرا في قسوته التي تفوق التصوّر، إنها القسوة المتجذرة في شخصية القائد السياسي العربي، وربما لا يمكننا لوم السياسي لأنه ظهر بهذه الشخصية الحادة، والسبب كما قلنا، أنه وليد الحاضنة الصحراوية وخصائصها، ولكن أليس هناك مسؤوليات على الرواد دائما تفوق مسؤوليات الغير، بمعنى عندما تقود المجتمع ويتفق الجميع وفق عقد اجتماعي على منحك دفة التوجيه والقيادة، ألا يترتب على هذا العقد والتتويج القيادي مسؤوليات تقع في المقدمة منها تحديث الذات وتطوير الخصائص القاسية لشخصية القائد ومعاونيه وحاشيته بما يتسق مع التمدّن والحضارة المعاصرة التي تحرص اليوم على توفير الحياة الخالية من القسوة والعنف للمجتمع؟!.

يقول المعنيون إن القسوة تنتج القسوة، وأن الدم يسفك الدم، وأن النار تؤجج النار نفسها، وهكذا... فإذا كان السياسي القائد غير قادر أو مستعد لتغيير شخصيته، والتخلي تدريجيا عن سمات القسوة والعنف، فإنه حتما سيستخدم هذه الصفات وربما الملكات ضد شعبه، وهو ما حدث فعلا في معظم الانظمة العربية، فنتيجة للشخصية القيادية القاسية يتحول القائد الى دكتاتور متسلط، وعندما تتحرك الاضداد وتقاوم الشعوب هذا التوجه السلطوي القاسي، تتضاعف سبل وأساليب القسوة السياسية لتصل الى ذروتها في القتل والاعدامات والتشريد ونشر المقابر الجماعية وغير ذلك من المؤشرات التي تؤكد خلل الشخصية السياسية العربية، وتجذّر خصائصها الصحراوية، الامر الذي قاد الى بناء منظومة سياسية، تتسم بالقسوة المبررة أحيانا كونها مستمدة من طبيعة الحاضنة.

لذلك قد يكمن الحل في أهمية إستعداد السياسي العربي للتغيير، بما يتواءم مع خصائص العصر الراهن، والتخلص من خصائص الجذور التي لم تعد قابلة لمواكبة الحياة الجديدة للشعوب، وهذا ما أكدته الانتفاضات العربية الراهنة، سواء تلك التي أتت أوكلها في مصر وتونس أو تلك التي لا تزال تسير في الاتجاه نفسه.

من الغرابة حقا أن لا يتنبّه السياسي العربي الى ضرورة التخلص من خصائص قسوة الماضي، وتشذيب الذات من طباع الصحراء القاسية، والبحث عن عناصر التمدن ونبذ العنف، ولابد أن يبدأ ذلك من الساسة أنفسهم، ثم ينعكس على عموم مكونات الحاضنة، فيصبح الشعب أكثر استعدادا للتحضّر والتطور، ويمكن أن يكون السياسي هو المبادر الى التغيير، من خلال تغيير منظومة القسوة السياسية كليا، ونشر بعض المبادئ المعاصرة في التعامل السياسي، مثل مبدأ التداول السلمي للسلطة وتأسيس وتطوير البنية الصحيحة لدولة الدستور، ونشر الثقافة المدنية بين عموم شرائح المجتمع، لتقليل فرص القسوة وجذورها في التحكم بحياتنا التي ما عادت تتحمل المزيد من التسلط والقمع والترهيب، وهي من عناصر منظومة القسوة السياسية التي لم تعد قابلة للعمل في مجتمعاتنا النازعة الى المدنية والتحضّر.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 25/حزيران/2011 - 22/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م