الدرس السياسي الخالد لحكومة علي بن أبي طالب (ع)

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: قانون التراكم الخبروي ينطبق على السياسة وعلى غيرها، فخبرة الانسان تتراكم عبر التأريخ كما هو متفق عليه، لتشذب من الأخطاء ما لا يصلح ولا يليق، ولتحسّن الفكر والفعل الى ما هو أفضل وأنسب، وأكثر قدرة على العطاء الأفضل، تقع في هذا الباب التجربة السياسية لحكومة الإمام علي عليه السلام وما رافقها من ظروف عصيبة عكست الحنكة السياسية التي يتمتع بها هذا القائد الخالد.

أقوال علي بن أبي طالب تسندها أفعاله دائما، فهو لا يكتفي بالقول وحده، بل شاهده ودليله حاضر دائما على الارض، أمام البصائر والأبصار، فهو القائل على سبيل المثال وليس الحصر (لا يُعرَف الحق بالرجال، إعرفْ الحق تعرفْ أهله) وقد تجسّد معنى هذا القول المحكم في تجربة حكمه التي وُصفت من لدن المؤرخين، بأنها عصيبة بسبب أعمال الفتنة، ومحاولات خلق الفوضى في الدولة الاسلامية آنذاك، ومع ذلك كان الحق نبراسا وهاجسا كبيرا للحاكم الاسلامي الأعلى، الإمام علي عليه السلام، وكان الحق معيارا راسخا وقويا تُقاس عليه المعايير الاخرى، فليس الرجال هم أدلة الحق، بل الحق هو الذي يدل على الرجال، لا أحد ولا شيء يعلو على الحق، فهو ذات وحقيقة قائمة، يمكن من خلالها أن نصل الى حياة تليق بقيمة الانسان، هذا ما قال به الإمام علي وما عمل به أيضا.

فهو – عليه السلام- الذي نظر الى السلطة بعين العظماء الكبار، الذين لم تستطع أن تغرهم حبائل السلطان مهما كان عرشه مغرياً ودساساً، وهو القائد الانساني العظيم الذي قدّم التضحية بالنفس والاهل والمال والمجد على مصالح الذات الزائلة، وهو الذي جعل من التسامح ونبذ العنف قانونا وقيمة عظمى، أعلنها ورسّخها وعمل بها مع الذين أعلنوا عدائهم البائن له من دون تردد او غموض او حياء، فقصة الخوارج – مثلا- موثقة في صفحات التأريخ، بدايتها وحيثياتها ونهايتها، ومعروف للجميع كيف تعامل قائد المسلمين الأعلى في حينها مع الخارجين عليه وعلى الاسلام، وكيف كانت الحكمة والحنكة السياسية تحكم كل شيء.

من جهة أخرى لا أحد يمكنه أن ينكر سياسة الاقتصاد الناجحة، والقائمة على تحسين الزراعة، إذ أدت –مع اجراءات اخرى- الى تلك البحبوحة التي زانت حياة المسلمين ابان حكومة الامام علي عليه السلام، ففي مطالع حكمه عليه السلام أمر بتوزيع الاموال بالتساوي بين الجميع، لا أحد يعلو على آخر، ولا تفضيل لشخص على غيره مهما كانت الاسباب، وهو ما دفع بعتاة النفوس الى الاحتجاج والثورة على هذه الخطوة، التي هدفت الى المساواة بين القوي والضعيف، والغني والفقير، وصاحب الجاه والسلطة، مع عامة الناس، ولكن مضت الدولة الاسلامية الى أمام واشتدّ ساعدها، وبُنيت حكومة خالدة، كانت ولا تزال إنموذجا لساسة وقادة اليوم، ممن أغمضوا عيونهم عن صفحات الحق والتأريخ معا، فجعلوا من السلطة وسيلة ومركبا يذهب بهم الى غاياتهم ومصالحهم الدنيئة على حساب شعوبهم.

نعم هذا ما يحدث الآن في معظم الدول التي تدّعي الاسلام دينا شكليا لها، فحكامها ظالمون متجاوزون على حقوق واموال شعوبهم في الغالب، ولنا في الامثلة التي لا تزال ساخنة أدلة قاطعة على هذا القول، حيث المليارات التي سرقها حسني وعائلته وحاشيته، وزين وزوجته وغيرهم، من شعوبهم التي تعيش الفقر المدقع، فيما يُحار هؤلاء الحكام أين يخبؤون مليارات الدولارات التي اختلسوها وسرقوها، من دون رادع ذاتي او ديني او اخلاقي يعيدهم الى رشدهم.

ولا يتوقف الامر عند هذا الحد، فالآخرون من الحكام لا يزالون يسيرون على الطرق نفسه، فهم يسرقون ويختلسون باسم الشعب، فيما الفقر والجوع والذل يحيط بالناس من كل حدب وصوب، وعندما تقول لهؤلاء الحكام المعاصرين، أمامكم تجارب التأريخ الاسلامي المشرّف، خذوا من هذا النبع المتدفق وتعلموا منه، فإنهم عميان وطرشان في آن، لا يسمعون ولا يقرؤون، ولا يهمهم أن يتعلموا من غيرهم.

وإلا أمامكم أيها الحكام، هذه التجربة الغنية في معانيها ومضامينها واحداثها المحفورة في ذاكرة التأريخ، وهي متاحة أمام الجميع، إنها تجربة الحكم السياسي المتوازن للامام علي عليه السلام، الذي تمكن فيها أن يصفّر درجة الفقر كليا، وتمكن أن ينشر العدل والمساواة بين الناس كليا، وتمكن من أن يعطي مثالا قياديا خالدا للجميع في عفة النفس وعدلها وأنفتها، ورفضها للسلطة وإغراءاتها مهما بلغت، من خلال مراعاة مصالح الشعب والسهر على تحقيق متطلباته المشروعة، وهو امر ينتفي لدى حكام الدول العربية والاسلامية الذين لا تهمهم سوى مصالحهم ومصالح عوائلهم وحاشياتهم وأحزابهم، أما مصالح وحقوق الشعوب فتقع في أدنى سلّم الاهتمام الحكومي.

ولا يتعظ هؤلاء الحكام ايضا من النهج الحضري الذي كان يتعامل به الامام علي في الازمات مع معارضيه، حيث الحوار البناء وتبادل الرؤى والافكار حتى لو تقاطعت مع بعضها، فهناك حضور للمعارضة، وهناك اسلوب انساني في التعامل معها، وهو ما جعل الجميع يحني قامته لهذا القائد العملاق الذي أفنى حياته إصلاحا، وعملا دؤوبا من اجل مصلحة الناس البسطاء، وليس من اجل مصلحة القائد أو أهله او بطانته، كما يحدث في حكوماتنا العربية الاسلامية الراهنة!.

مطلوب من جميع الحكام، ونحن نعيش ذكرى ولادة الإمام علي عليه السلام، أن يطلعوا على هذا الدرس السياسي الخالد بقيادته وحكومته، ليكسبوا الدنيا والدار الاخرى معا، أما التغاضي وعدم الاهتمام والانشغال بالسلطة وملذات الحياة، فإن نتائجها معروفة وواضحة للحكام قبل غيرهم، وخير دليل على ذلك الحكام الطغاة الذين سبقوهم الى الذل والعزل والخلع والمهانة والإعدام.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 18/حزيران/2011 - 15/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م