بين الوحدة والتعددية تكامل وتوازن..

وبين الوحدة والبعثرة تناقض محض

صادق جواد سليمان

عندما تتكون أمة فتتماسك في ذاتها، فتتوضح معالمها متميزة عن معالم سواها من الأمم، يرتفق تكونُها بتأصل قناعات مركزية في وعي تلك الأمة تتحدد بها مقاصدها الأساسية وتنضبط بها اجتهاداتها في تحقيق تلك المقاصد. فإذا ارتبكت أو وهنت لدى الأمة قناعاتها المركزية بعد حين انحرفت اجتهاداتها لتخدم غير أو عكس تلك المقاصد. بذلك ينفلت في الأمة سياق بعثرة تحدوه نزعات وأهواء تغلب فيها الإثرة ويغيب منها الولاء للصالح العام.

في الحال العربي هناك – على ما ألمس – ربك ووهن في القناعات المركزية التي تكونت بتأصلها، وتماسكت بتواصلها، رغم كل المفرقات، الأمة العربية عبر قرون. هذا الربك والوهن أراهما قد أطلقا العنان للنزعات الطائفية لتغلّب خصوصياتها على عمومية الأمة. العلاقة هنا عكسية الأثر: كلما يقوى النزوع الطائفي في الطرف يضعف التماسك القومي في الوسط. من ذلك استقرئ أنه إذا استطرد سياق البعثرة فستنشط الطائفيات وتتصادم. أما الأمة فستبقى رهينة وهن مستديم.

الطائفية في ماهيتها تغليب للبعض على الكل، للطرف على الوسط، للجزء على الكيان، للخاص على العام، أيا كان المجال الذي تمارس فيه. على الصعيد الديني هو تصرف طائفي حين لا يساوي منتمون لدين منتمين لدين آخر معهم في حقوق المواطنة. على الصعيد القطري هو تصرف طائفي حين يعمل قطر خارج الالتزام بسلامة الوطن الكبير. على الصعيد المذهبي هو تصرف طائفي حين يتحامل أصحاب مذهب على أصحاب مذهب آخر. على الصعيد الشخصي هو تصرف طائفي عندما يغلب مواطن كسبا شخصيا على الصالح العام. على الصعيد الفئوي هو تصرف طائفي حين تعزل فئة اهتماماتها عن هموم الأمة، أو عندما يستأثر رهط بالسلطة ويتشبث بها حتى يزاح بقوة كما هو أزاح رهطا مثله بقوة من قبل.

 أخيرا هو تصرف طائفي حين تتصرف قبيلة على أساس أن لها دوام الصدارة، ففيها وحدها يبقى الحكم ولها وحدها تعقد البيعة جيلا بعد جيل دون سائر الناس.

ما لا تعود الأمة العربية لتتثبت عند مبادئ خليقة بأن تشكل لها وسطا فكريا وخلقيا قويما وواضحا في ذاته، وجامعا وراعيا للأجزاء والأطراف، وهي مبادئ العدل والمساواة وكرامة الإنسان واِلشورى، فإن النزعات الطائفية التي تقوم على نقيضات هذه المبادئ، الإثرة والتمييز والاستهانة بالإنسان واحتكار السلطة، ستظل توهن الوسط القومي وتفرغه من محتواه الحضاري، وبذلك تتراجع الأمة في قابلية التماسك في الداخل والتعامل الناجح مع الأمم.

في ماض غير بعيد، عندما كان يتاح لي من حين لآخر أن أحضر اجتماعات الجامعة العربية، كنت ألاحظ مصدرة على الحائط في قاعة الاجتماع ( لتذكير من قد تنفعه الذكرى) الآية الكريمة: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم إعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون."

العبارة " كنتم على شفا حفرة من النار" شديدة الخطاب، مؤداها: إنكم كنتم على وشك الانهيار كمجتمع من شدة ما استفحل بينكم من خلاف وعداء يدفعكم للاختصام والاقتتال بأتفه الأسباب، ولو بقيتم على ذلك لارتكستم، ولتعطل دوركم الحضاري بين الأمم.

أستعين بهذه الآية الكريمة لأدلل على مركزية دور الوحدة عندما يكون قيام الوحدة على المبادئ الصحيحة (حبل الله) في صعود أحوال الأمم، وبنفس المنطق، لأدلل على مركزية دور البعثرة في هبوط أحوال الأمم، حيث الأهواء لا المبادئ تحكم. ذلك أن الوحدة المنضبطة بالمبادئ الصحيحة تلم الشمل، تحشد الطاقات، توسع أطر التعاون، وتعزز مناعة الأمة ضد إغراضات الخارج، وأن البعثرة المنفلتة عن الانضباط المبدئي تعمل عكس ذلك.

لكن، ألا تبرز للوحدة أيضا مخاطر بعد حين، من حيث أن التركيز على الوحدة بنمطية رتيبة يضعف بمرور الوقت انضباطها بالمبادئ فتنقلب الوحدة إلى هيمنة تصد التعدد في الاجتهاد والتنوع في الاختيار، وأن ذلك بدوره يخلق جفافا في المناخ القومي تنضب فيه قدرة الأمة على الابتدار والاختراع؟

نعم يحصل ذلك حينما يأتي التأكيد على الوحدة بمعزل عن المبادئ التي قامت عليها، فيأتي دونما تأكيد مواز ومماثل على التعددية في نسق واحد. ذلك أن الوحدة كفة والتعددية هي الكفة الأخري في ميزان بناء الاستقرار والنماء.

 بذلك ليست التعددية على تضاد مع الوحدة. التعددية، بمعنى diversity، والبعثرة، بمعني fragmentation، ليستا من جنس واحد. الأولى تثري وتنوع الخبرة القومية، الأخري تفقرها وتزرع فيها بذور شقاق. بين الوحدة والتعددية إذن تكامل وتوازن، وبين الوحدة والبعثرة لا يوجد سوى تناقض محض.

الطائفية، الفئوية، المذهبية، القبلية، القطرية الشديدة، هي كلها عناصر بعثرة، وتحت سياقها لا يتسقيم لأمة أمر ولا يكتب لها استقرار أو ازدهار. على عكس ذلك، بالوحدة المقترنة بالتعددية ترتكز الأمة في وسط تحكمه مبادئ إنسانية تلتزم بها وتحتكم إليها سائر الأطراف. التعددية نعمة إذا هكذا تماسكت مع وسط مستقر في مبادئ، وتغدو بعثرة إذا انفصمت عنه. الوسط أمان للأمة إذا هكذا راعى التعددية، وعرضة للاضطراب إذا كبتها فحملها على الانفلات. الأمة الواعية تسعى لوسط راكز وتعددية متحركة في نسق واحد. ذلك أن توحدا على المقاصد وارتكازا في الوسط لا يضيره، بل يثريه، تنوع في الاجتهاد وتعدد في الأطراف.

الأمة العربية – على ما أرى – لا تزال على مسافة من تحقيق توازن كهذا في خبرتها الراهنة. لكن أملا يراودني، وأخاله يراودكم جميعا، أن أمتنا، بما استودعت من جدارة رادت بها حضارة جامعة من قبل، سوف تفيق يوما على حالها، تجمع أمرها، تنبذ البعثرة تتبنى ميزان الوحدة والتعددية، وبذلك تخلق نفسها من جديد على نحو أرشد وأرحب.

* كلمة في ندوة حول الانقسامات الطائفية والعرقية في المجتمع العربي

مركز الحوار العربي- واشنطن

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 13/حزيران/2011 - 11/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م