الإمام الهادي ثمرة من شجرة الرسالة

 

شبكة النبأ: الإمام علي الهادي فرع زاكٍ من شجرة النبوّة، وغصن مشرق من دوحة الإمامة أعزّ الله به وبآبائه الإسلام، ورفع بهم كلمة التوحيد، وقبل التحدّث عن معالم شخصيته العظيمة نعرض إلى الأُصول الكريمة التي تفرّع منها، مع بيان ولادته ونشأته.

الأب الطاهر سلام الله عليه‌‌

أمّا أبو الإمام الهادي عليه السلام، فهو الإمام محمّد الجواد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهو أرفع نسب في الإسلام، ولم تعرف الإنسانية – في جميع أدوارها – نسباً أجلّ ولا أسمى من هذا النسب الذي أضاء سماء الدنيا بواقع الإسلام وجوهر الإيمان، فمن هذه الأُسرة الكريمة تفرّع الإمام الهادي، وكان أبوه الإمام الجواد عليه السلام أعجوبة الدنيا بمواهبه وعبقرياته فقد تقلّد – بعد وفاة أبيه – الزعامة الدينية، والمرجعية العامّة للأُمّة، وكان عمره سبع سنين وأشهراً، وقد انتهزت الحكومة العبّاسية هذه الفرصة فندبت يحيى بن أكثم الذي هو من كبار العلماء في عصره لامتحانه وتعجيزه لتطوي بذلك مسألة أعلمية الإمام التي هي من العناصر الأساسية في الفكر الشيعي، وتقدّم يحيى فسأل الإمام أمام حشد كبير من العلماة والوزراء وسائر أعضاء الحكومة العبّاسية عن مسألة فقهية ففرّع الإمام عليها عدّة فروع فذهل يحيى وبان عليه العجز واعترف بالقدرات العلمية الهائلة التي يملكها الإمام وكانت هذه البادرة وغيرها حديث الأندية والمجالس في بغداد وغيرها ...

الأُمّ الزكية

وقبل أن نتحدّث عن شؤون السيّدة الزكية أُمّ الإمام علي الهادي عليه السلام نودّ أن نشير إلى أنّ الإسلام قد تبنّى بصورة إيجابية وحدة المجتمع واتّفاق الكلمة، وناهض جميع الأساليب التي تؤدّي إلى الاختلاف، وفصم عرى الوحدة، وعلى ضوء هذا الاتّجاه المشرق سار أئمّة أهل البيت عليهم السلام فلم يفرّقوا بين الأبيض والأسود، وقد سارعوا إلى الزواج من الإماء ليقضوا على النعرات الهدّامة فقد تزوّج الإمام العظيم زين العابدين وسيّد الساجدين علي بن الحسين بأمة ولدت له الشهيد الخالد زيداً، وتزوّج الإمام محمّد الجواد بأمة أولدت له الإمام علي الهادي عليه السلام، وكان قد اشتراها له محمّد بن الفرج بسبعين دينار.

وتولّى الإمام الجواد عليه السلام تربيتها وتهذيبها، وقد استقرّت في بيت الإمامة الذي كان يضمّ العلويات من بنات رسول الله صلّى الله عليه وآله اللاتي يمثّلن الشرف والعفّة والطهارة، وقد تأثّرت بهديهنّ وسلوكهنّ فأقبلت على طاعة الله وعبادته فكانت من القانتات المتهجّدات والتاليات لكتاب الله، وقد روى ذلك نقلة الأثر.

وحسبها فخراً أنّها ولدت سيّداً من سادات المسلمين، وإماماً من أئمّة أهل البيت عليهم السلام الذين جعلهم الله أمن العباد وسفن النجاة.

الوليد العظيم

وأشرقت الدنيا بولادة الإمام الهادي عليه السلام فلم تلد امرأة في ذلك العصر مثله علماً وتقوى وتحرّجاً في الدين، وقد ولد في (بصريا) من يثرب. وكان بحكم ميراثه جامعاً لجميع خصال الخير والشرف والنبل.

مراسيم الولادة

وسارع الإمام الجواد عليه السلام فأجرى على وليده المبارك المراسيم الشرعية فأذّن في أُذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، وختنه في اليوم السابع من ولادته، وحلق رأسه وتصدّق بزنته فضّة على المساكين وعقّ عنه بكبش، كما هي العادة المتّبعة عند أئمّة أهل البيت عليهم السلام إنّهم يجرون هذه المراسيم الشرعية على أبنائهم عند الولادة.

سنة ولادته

واتّفق أكثر المؤرخين أنّه ولد في سنة (212هـ) وقيل أنّه ولد في سنة (214هـ) وقد اختلفوا في الشهر واليوم الذي ولد فيه وهذه بعض الأقوال:

1. ولد في اليوم السابع والعشرين من ذي الحجّة.

2. ولد في اليوم الثالث عشر من رجب.

3. ولد يوم الاثنين لثلاث خلون من رجب.

4. ونصّت بعض المصادر أنّه ولد في رجب ولكن لم تعيّن لنا اليوم الذي ولد فيه، وبذلك صرّحت بعض الأدعية فقد جاء فيها «اللهمّ إنّي أسألك بالمولودين في رجب محمّد بن علي الثاني، وعلي بن محمّد المنتجب».

أهملت بعض المصادر اليوم والشهر الذي ولد فيه واكتفت بالقول أنّه ولد بالمدينة.

تسميته

سمّاه أبوه الإمام الجواد عليه السلام علياً تبرّكاً وتيمّناً باسم جدّيه العظيمين: جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وجدّه الإمام علي بن الحسين زين العابدين وسيّد الساجدين وقد شابههما بحكم قوانين الوراثة، فقد شابه جدّه الإمام أمير المؤمنين في بلاغته وفصاحته، وشابه جدّه الإمام زين العابدين في تقواه وعبادته ونسكه.

كنيته الشريفة

والشيء المؤكّد أنّ في كنية الطفل لوناً من ألوان التكريم له، وهو ممّا يساعد على نموّ شخصيته، وتكامل ذاته، وقد لاحظ الأئمّة الطيّبون هذه الجهة فكانوا يكنّون أبناءهم في طفولتهم، وقد أثر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:

نحن الكرام وطفلنا في المهد يكنّى

إنّا إذا قعد اللئام على بساط العزّ قمنا

وكان العرب يتفاخرون في الكنية وفي ذلك قال شاعرهم:

أُكنّيه حين أُناديه لأكرمه

ولا أُلقّبه والسوأة اللقبا

وكنّى الإمام الجواد عليه السلام ولده الإمام الهادي بأبي الحسن، وعرف بهذه الكنية جدّاه الإمام موسى بن جعفر والإمام الرضا عليهما السلام وفرّق الرواة بينهم في هذه الكنية بعد أن أضافوا إليها الجهة المميّزة فقالوا: إنّ أبا الحسن الأوّل هو الإمام موسى بن جعفر عليه السلام وأبو الحسن الثاني هو الإمام الرضا عليه السلام وأبو الحسن الثالث هو الإمام علي الهادي عليه السلام.

ألقاب الإمام

أمّا ألقابه الكريمة فإنّها تحكي بعض ما اتّصف به هذا الإمام العظيم من النزعات الكريمة، والصفات الرفيعة وهي:

1. الناصح: لقّب بذلك لأنّه كان من أنصح الناس لأُمّة جدّه.

2. المتوكّل: وكان يبغض هذا اللقب، ويأمر أصحابه أن لا يلقّبوه به، وفيما أحسب إنّما كره هذا اللقب لأنّه كان لقباً للحاكم العباسي المتوكّل لعنه الله الذي كان من أبغض الناس وأعداهم لأهل البيت عليهم السلام.

3. التقيّ: لأنّه اتّقى الله وأناب إليه، وقد جهد الطاغية المتوكّل على أن يجرّ الإمام إلى ميادين اللهو والدعارة فلم يستطع لذلك، وقد أخبر بذلك حاشيته.

4. المرتضى: وهو أشهر ألقابه.

5. الفقيه: فقد كان أفقه أهل عصره، وكان المرجع الأعلى للفقهاء والعلماء.

6. العالم: وكان أعلم الناس لا في شؤون الشريعة الإسلامية فحسب، وإنّما في جميع أنواع العلوم والمعارف.

7. الأمين: على الدين والدنيا.

8. الطيّب: فلم يكن أحد في عصره أطيب ولا أزكى منه.

9. العسكري: لقّب بذلك لأنّ مقامه بسرّ من رأى وهي تسمّى العسكر.

10. الموضّح: لأحكام الكتاب والسنّة.

11. الرشيد: فقد كان من أرشد الناس وأهداهم إلى سواء السبيل.

12. الشهيد: لأنّه رزق الشهادة على يد أعداء الله.

13. الوفي: فقد كان من أوفى الناس، وكان الوفاء من عناصره ومميّزاته.

14. الخالص: من كلّ سوء وعيب.

نشأته سلام الله عليه

نشأ الإمام الهادي عليه السلام في أُسرة تميّزت عن الناس بسلوكها المشرق وآدابها الرائعة، وفضائلها النيّرة، فكان الصغير منهم يوقّر الكبير، والكبير يحترم الصغير، وقد روى المؤرخون ألواناً رائعة تدعو إلى الاعتزاز والفخر، فقد رووا أنّ الإمام الحسين عليه السلام ما تكلّم بين يدي أخيه الإمام الحسن عليه السلام إجلالاً وإكباراً له، ورووا أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام ما أكل مع أُمّه أو مربّيته خوفاً من أن يكون قد سبق نظرها إلى بعض الطعام الذي يتناوله، فيكون بذلك عاقّاً لها، فأي آداب في الدنيا تضارع هذه الآداب التي تضارع آداب الأنبياء وسموّ سلوكهم وعلوّ أخلاقهم.

لقد نشأ الإمام الهادي في ظلال أبيه الجواد الذي كان انموذجاً لكلّ ما يعتزّ به الإنسان من الفضائل والمآثر، وقد أفرغ عليه أشعّة من روحه، فلم يبق فضيلة إلاّ غرسها في نفس وليده، وكان يشيد به – دوماً – ويبدي إعجابه بمواهبه وذكائه، وقد روى المؤرخون أنّه لمّا أراد الشخوص إلى العراق أجلسه في حجره – وكان عمره آنذاك ست سنين – فقال له: «ما الذي تحبّ أن يُهدى إليك من طرائف العراق؟ ..». فتبسّم الهادي وقال: «سيف كأنّه شعلة ..». والتفت الإمام الجواد إلى ولده موسى فقال له: «وأنت ما تحبّ أن تشتهي؟ ..». فقال موسى: «فراش بيت ..». ولم يكتم الإمام إعجابه بولده الهادي فراح يخاطبه: «أشبهني أبو الحسن ..».

لقد سرّ بتمنّي ولده الذي ينمّ عن شجاعته وبسالته، وهذه سمته وسمة آبائه.

نبوغه المبكّر

وملك الإمام الهادي عليه السلام في طفولته المبكّرة من الذكاء والنبوغ ما يذهل الفكر ويبهر الألباب، فكان يملك ذاكرة قوية وذكاءً مفرطاً وفطنة بالغة فقد ذكر الرواة بوادر كثيرة من ذكائه كان منها أنّ المعتصم بعدما اغتال الإمام الجواد عليه السلام عهد إلى عمر بن الفرج أن يشخص إلى يثرب ليختار معلّماً لأبي الحسن الهادي البالغ من العمر آنذاك ست سنين وأشهراً، وقد عهد إليه أن يكون المعلّم معروفاً بالنصب والانحراف عن أهل البيت عليهم السلام ليغذّيه ببغضهم، ولمّا انتهى عمر إلى يثرب التقى بالوالي وعرّفه بمهمّته، فأرشده الوالي وغيره إلى الجنيدي، وكان شديد البغض للعلويين فأرسل خلفه وعرّفه بالأمر فاستجاب له، وعيّن له راتباً شهرياً، وعهد إليه أن يمنع الشيعة من زيارته، والاتّصال به، وقام الجنيدي بتعليم الإمام إلاّ أنّه قد ذهل لما يراه من حدّة ذكائه، فقد التقى محمّد بن جعفر بالجنيدي فقال له:

«ما حال هذا الصبي – يعني الإمام الهادي – الذي تؤدّبه؟ ..». فأنكر الجنيدي ذلك وراح يقول: «أتقول: هذا الصبي؟!! ولا تقول هذا الشيخ أنشدك بالله هل تعرف بالمدينة من هو أعرف منّي بالأدب والعلم؟..». «لا ..».

إنّي والله لأذكر الحرف في الأدب، وأظنّ أنّي قد بالغت فيه، ثمّ إنّه يملي أبواباً أستفيده منه، فيظنّ الناس أنّي أُعلّمه، وأنا والله أتعلّم منه...».

وانطوت أيّام فالتقى محمّد بن جعفر مرّة أُخرى بالجنيدي، فقال له: «ما حال هذا الصبي؟». فأنكر عليه الجنيدي ذلك وقال: «دع عنك هذا القول، والله تعالى لهو خير أهل الأرض، وأفضل من برّأه الله تعالى، وأنّه لربما همّ بدخول الحجرة، فأقول له: حتّى تقرأ سورة، فيقول: أي سورة تريد أن أقرأها؟ فأذكر له السور الطوال، ما لم يبلغ إليها، فيسرع بقراءتها بما لم أسمع أصحّ منها، وكان يقرأها بصوت أطيب من مزامير داود، وإنّه حافظ القرآن من أوّله إلى آخره، ويعلم تأويله وتنزيله ... . وأضاف الجنيدي يقول: هذا صبي صغير نشأ بالمدينة بين الجدران السود فمن أين علم هذا العلم الكبير، ياسبحان الله!! ثمّ إنّه نزع عن نفسه النصب لأهل البيت عليهم السلام ودان بالولاء لهم، واعتقد بالإمامة.

ومن الطبيعي أنّه لا تعليل لهذه الظاهرة إلاّ القول بما تذهب إليه الشيعة من أنّ الله أمدّ أئمّة أهل البيت بالعلم والحكمة وآتاهم من الفضل ما لم يؤت أحداً من العالمين من غير فرق بين الصغير والكبير منهم.

هيبته ووقاره

أمّا هيبة الإمام الهادي عليه السلام فكانت تعنو لها الجباه، فقد ورث من آبائه هيبتهم ووقارهم، وكانت تبدو عليه سيماء الأنبياء، وبهاء الأوصياء، وما لقيه أحد من خصومه أو شيعته إلاّ هابه ووقّره، وقد تحدّث عن مدى هيبته محمّد بن الحسن الأشتر العلوي قال: كنت مع أبي على باب المتوكّل في جمع من الناس ما بين طالبي وعبّاسي وجعفري فبينما نحن وقوف إذ جاء أبو الحسن، فترجّل الناس كلّهم إجلالاً وإكباراً له، حتّى دخل القصر، وانبرى بعضهم فأنكر هذا التكريم للإمام وقال: «لمن نترجّل لهذا الغلام؟ ما هو بأشرفنا، ولا بأكبرنا سنّاً، والله لا نترجّل له إذا خرج ...». فردّ عليه أبو هاشم الجعفري وقال: «والله لتترجلنّ له صغاراً وذلّة ..».

وخرج الإمام عليه السلام فعلت أصوات التكبير والتهليل، وقام الناس بأسرهم تعظيماً له، فالتفت أبو هاشم إلى القوم قائلاً: «أليس زعمتم أنّكم لا تترجّلون له؟ ..».

فلم يملكوا إعجابهم بالإمام وراحوا يقولون: «والله ما ملكنا أنفسنا حتّى ترجّلنا ..».

لقد كانت هيبته تملأ القلوب إكباراً وتعظيماً، ولم تكن هيبته ناشئة عن ملك أو سلطان وإنّما كانت ناشئة من طاعة لله وزهده في الدنيا وتحرّجه في الدين كأعظم ما يكون التحرّج، فقد خرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته وقد بلغ من عظيم هيبة الناس له أنّه كان إذا دخل على المتوكّل لا يبقى أحد في القصر إلاّ قام بخدماته، وكانوا يتسابقون إلى رفع الستائر، وفتح الأبواب ولا يكلّفونه بشيء من ذلك.

تعظيم العلويين له

وأجمع السادة العلويون على تعظيم الإمام الهادي عليه السلام والاعتراف له بالزعامة والفضل، وكان من بينهم عمّ أبيه زيد بن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام وكان شيخاً كبيراً، وقد كلّف عمر بن الفرج وكان بوّاباً للإمام على أن يستأذن له ليتشرّف بمقابلته، وكلّم الإمام عليه السلام في شأنه فأذن له، ودخل على الإمام وكان في صدر المجلس فجلس زيد بين يديه تكريماً وتعظيماً، واعترافاً له بالإمامة، وفي اليوم الثاني تشرّف زيد بالدخول إلى مجلس الإمام، ولم يكن عليه السلام حاضراً فتصدّر زيد في المجلس، وأقبل الإمام فلمّا رآه زيد وثب من مكانه وأجلسه فيه، وجلس بين يديه متأدّباً مع صغر سنّ الإمام وكبّر زيد. لقد اعترف بإمامته ولزوم طاعته كما هو شأن القائلين بإمامته.

صِلات الكتابيين للإمام

ولم يقتصر تعظيم الإمام وتقديسه على المسلمين، وإنّما سرى إلى غيرهم من الكتابيين، فقد آمنوا بروحانيته، وعظيم مكانته عند الله، وكانوا إذا تعرّضوا لمهمّة حملوا إليه الهدايا وتوسّلوا به ليفرّج عنهم مهمّاتهم، وكان من بينهم ما حدّث به هبة الله بن أبي منصور الموصلي قال:

إنّ يوسف بن يعقوب المسيحي كانت له صلة مع أبيه، وقد نزل ضيفاً عنده فسأله عن شأن قدومه إلى بغداد؟ فقال له: قد دعيت إلى المتوكّل ولا أدري ما يراد منّي، إلاّ أنّي اشتريت نفسي بمائة دينار قد حملتها لعلي بن محمّد بن الرضا عليه السلام فبارك له والدي، ثمّ إنّه غادر بغداد متوجّهاً إلى سرّ من رأى، فمكث فيها أيّاماً، ثمّ رجع مستبشراً فرحاً، فسأله أبي عمّا لقي في سفره؟ فقال: صرت إلى سرّ من رأى، ولم أكن قد دخلتها من ذي قبل، وأحببت أن أوصل المائة دينار إلى ابن الرضا قبل أن أصل إلى المتوكّل، فسألت عنه، فقيل لي: إنّ المتوكّل منعه من الركوب وإنّه ملازم لداره، فخفت من الوصول إليه، وحاذرت من السؤال عنه، ووقع في ذهني أن أركب دابتي، وأخرج إلى البلد لعلّي أقف على معرفته من غير سؤال، وفعلت ذلك فبينما أنا أخترق الشوارع والأسواق إذ وصلت إلى باب دار خطر في ذهني أنّها دار الإمام، فقلت لغلامي: سل لمن هذه الدار؟ فبادر الغلام فسأل عن صاحبها فقيل له: إنّه ابن الرضا، فطرق الباب فخرج غلام أسود فقصدني وقال: أنت يوسف بن يعقوب؟ قلت: نعم، قال إنزل فنزلت عن دابتي، فأدخلني في الدهليز ثمّ دخل الغلام وخرج وقال لي: أين المائة دينار؟ فناولته إيّاها، فأوصلها إلى الإمام، ثمّ إنّه خرج وأذن لي بالدخول فدخلت، وإذا الإمام جالس وحده، فنظر إليّ بعطف وحنان وقال: «أما آن لك – يعني أن تهتدي - ». قلت: يامولاي قد بان لي من البرهان ما فيه الكفاية لمن اكتفى، فقال له الإمام: «هيهات إنّك لا تسلم، ولكن سيسلم ولدك، وهو من شيعتنا، يايوسف إنّ أقواماً يزعمون أنّ ولايتنا لا تنفع أمثالك، امض فيما وافيت له، إنّك سترى ما تحبّ ..».

وبهر يوسف بما رآه من المعجز، ومضى إلى المتوكّل فنال جميع ما أراده.

يقول هبة الله: وتوفّي يوسف فلقيت ابنه وهو مسلم حسن الاعتقاد بأهل البيت عليهم السلام فأخبرني أنّ أباه قد توفّي على النصرانية وإنّه أسلم بعد موته، وكان يقول: أنا بشارة مولاي.

لقد آمن الكتابيون بالإمام ورأوا في حياته امتداداً لحياة الأنبياء والقدّيسين.

النصّ على إمامته

واهتمّ ثقات الشيعة في شأن الإمامة لأنّها عندهم أصل من أُصول الإسلام فكانوا يسألون الإمام الحاضر عن الإمام من بعده ليرجعوا إليه، ويدينوا بولائه وطاعته، وقد روى النصّ على إمامة الهادي عليه السلام من أبيه الإمام الجواد عليه السلام جماعة من خيار المسلمين وثقاتهم، وفيما يلي بعضهم:

1. إسماعيل بن مهران:

وخفّ إسماعيل بن مهران إلى الإمام الجواد عليه السلام حينما شخص إلى بغداد في سفرته الأُولى فقال له: «جُعلت فداك إنّي أخاف عليك في هذا الوجه فإلى من الأمر من بعدك؟».

فقابله الإمام ببسمات فيّاضة بالبشر، وقال له: «ليس كما ظننت في هذه السنة ..».

ودفع عنه ما كان يخشاه على الإمام من السلطة العبّاسية، ولمّا استدعاه المعتصم انبرى إسماعيل ليتعرّف على الإمام من بعده فقال له: «أنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك؟..».

وبكى الإمام عليه السلام وتوجّس خيفة في سفره، وظنّ أن لا رجعة له إلى يثرب، فعيّن عليه السلام له الإمام من بعده وهو ولده الهادي قائلاً: «عند هذه يخاف عليّ، الأمر من بعدي إلى علي ابني ...».

وتحقّق ما تنبّأ به الإمام، فقد اغتاله المعتصم العبّاسي لعنة الله عليه، وكان الإمام في غضارة الشباب ونضارة العمر.

2. الصغر بن أبي دلف:

وروى الصغر بن أبي دلف النصّ على إمامة الهادي من أبيه الجواد، قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن علي الرضا يقول: «إنّ الإمام بعدي إبني علي أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي والإمامة بعده في ابنه الحسن..».

3. بعض الشيعة: وأدلى الإمام الجواد بالنصّ على إمامة ولده الهادي إلى بعض شيعته، وذلك حينما شخص إلى بغداد فقال: «إنّي ماضٍ، والأمر – أي الإمامة – صائر إلى ابني علي، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي..».

وقد أكّد الإمام الجواد في حديثه على لزوم طاعة ولده، وإنّ له من الحقّ على شيعته ما كان له بالذات بعد أبيه. هؤلاء بعض نقلة النصّ على إمامة الهادي عليه السلام وقد تواترت النصوص بذلك.

ومن الجدير بالذكر إنّ الشيعة تذهب إلى أنّ تعيين الإمام لم يكن خاضعاً للعواطف والأهواء، وإنّما أمره بيد الله تعالى فهو الذي يختار ويعيّن، والنبي صلّى الله عليه وآله يبلّغ ما أُمر به، وقد أعلن الرسول صلّى الله عليه وآله إنّ خلفاءه إثنا عشر خليفة، وقد تواترت النصوص بذلك، والإمام الهادي عليه السلام أحدهم.

كرمه سلام الله عليه

وظاهرة أُخرى من صفات الإمام الهادي عليه السلام وهي الكرم والسخاء فقد كان من أبسط الناس كفّاً، وأنداهم يداً، وكان على غرار آبائه الذين يطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، وكانوا يطعمون الطعام حتّى لا يبقى لأهلهم طعام، ويكسوهم حتّى لا يبقى لهم كسوة، وقد كان الإمام الصادق عليه السلام يطعم الناس ويكسوهم حتّى لا يبقى لعياله شيء.

وقد روى المؤرخون بوادر كثيرة من برّ الإمام الهادي عليه السلام وإحسانه إلى الفقراء والبائسين، نقتصر منها على ما يلي:

1. وفد جماعة من أعلام الشيعة على الإمام الهادي عليه السلام وهم أبو عمر وعثمان بن سعيد، وأحمد بن إسحاق الأشعري، وعلي بن جعفر الحمداني، فشكا إليه أحمد بن إسحاق دَيناً عليه، فالتفت عليه السلام إلى وكيله عمرو، وقال له: ادفع له ثلاثين ألف دينار، وإلى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار، كما أعطى وكيله مثل هذا المبلغ، وعلّق ابن شهر آشوب على هذه المكرمة العلوية بقوله: «فهذه معجزة لا يقدر عليها إلاّ الملوك، وما سمعنا بمثل هذا العطاء» لقد وفّر عليه السلام لهؤلاء الأعلام عيشاً رغيداً ينعمون به، ودفع عنهم ضائقة الفقر، ومن الطبيعي أنّ خير العطاء ما أبقى نعمة.

2. ومن بوادر كرمه ما رواه إسحاق الجلاّب قال: اشتريت لأبي الحسن الهادي عليه السلام غنماً كثيرة يوم التروية، فقسّمها عليه السلام في أقاربه.

3. ومن كرمه ما رواه المؤرخون إنّه كان قد خرج من سامراء إلى قرية له، فقصده رجل من الأعراب، فلم يجده في منزله فأخبره أهله بأنّه ذهب إلى ضيعة له، فقصده، ولمّا مثّل عنده سأله الإمام عن حاجته، فقال بنبرات خافتة:

«ياابن رسول الله، أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسّكين بولاية جدّك علي بن أبي طالب، وقد ركبني فادح – أي دين – أثقلني حمله، ولم أرَ من أقصده سواك ...».

فرقّ الإمام لحاله، وأكبر ما توسّل به، وكان عليه السلام في ضائقة، لا يجد ما يسعفه به، فكتب عليه السلام ورقة بخطّه جاء فيها أنّ للأعرابي دَيناً، وعيّن مقداره، وقال له: خذ هذه الورقة، فإذا وصلت إلى سرّ من رأى، وحضر عندي جماعة فطالبني بالدَين الذي في الورقة، وأغلظ عليّ في ترك إيفائك، ولا تخالفني فيما أقول لك: فأخذ الأعرابي الورقة، ولمّا قفل الإمام إلى سرّ من رأى حضر عنده جماعة كان فيها من عيون السلطة ومباحث الأمن، فجاء الأعرابي فأبرز الورقة، وطالب الإمام بتسديد دَينه الذي في الورقة فجعل الإمام عليه السلام يعتذر إليه، والأعرابي قد أغلظ له في القول، ولمّا تفرّق المجلس بادر رجال الأمن إلى المتوكّل فأخبروه بالأمر فأمر بحمل ثلاثين ألف درهم إلى الإمام فحملت له، ولمّا جاء الأعرابي قال له الإمام:

«خذ هذا المال فاقض به دَينك، وانفق الباقي على عيالك ...».

وأكبر الأعرابي ذلك، وقال للإمام: إنّ دَيني يقصر على ثلث هذا المبلغ .. ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته فيمن يشاء وأخذ المال وسافر إلى أهله وهو مسرور القلب ناعم البال، وهو يدعو للإمام الذي أنقذه من حياة البؤس والحرمان.

4. وممّا ذكره الرواة من برّه وكرمه أنّ أبا هاشم الجعفري أصابته ضائقة شديدة، فصار إلى الإمام عليه السلام ولمّا نظر الإمام إلى ما فيه من الفاقة والبؤس أراد أن يخفّف عمّا هو فيه من المحنة فقال له: «ياأبا هاشم أي نعم الله عليك تريد أن تؤدّي شكرها؟ رزقك الله الإيمان فحرم جسدك على النار، ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة ورزقك القنوع فصانك عن التبذّل ..».

إنّ هذه النعم التي أدلى بها الإمام من أعظم نعم الله لمن يتمتّع بها ثمّ إنّ الإمام عليه السلام أمر له بمائة دينار.

زهده سلام الله عليه

لقد عزف الإمام الهادي عليه السلام عن جميع مباهج الحياة ومتعها وعاش عيشة زاهدة إلى أقصى حدّ، لقد واظب على العبادة والورع والزهد، فلم يحفل بأي مظهر من مظاهر الحياة، وآثر طاعة الله على كلّ شيء، وقد كان منزله في يثرب وسرّ من رأى خالياً من كلّ أثاث، فقد داهمت منزله شرطة المتوكّل ففتّشوه تفتيشاً دقيقاً فلم يجدوا فيه شيئاً من رغائب الحياة، وكذلك لمّا فتّشت الشرطة داره في سرّ من رأى، فقد وجدوا الإمام في بيت مغلق، وعليه مدرعة من شعر وهو جالس على الرمل والحصى، ليس بينه وبين الأرض فراش، قال السبط بن الجوزي: إنّ علي الهادي لم يكن عنده ميل إلى الدنيا، وكان ملازماً للمسجد فلمّا فتّشوا داره لم يجدوا فيه إلاّ مصاحف وأدعية وكتب علم» .. لقد عاش على ضوء الحياة الكريمة التي عاشها آباؤه من الزهد في الدنيا، وعدم الاكتراث بأي شأن من شؤونها المادّية سوى ما يتّصل بالحقّ، فقد كان جدّه الأعلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من أزهد الناس في الدنيا، ففي أيّام خلافته وحكمه لم يتّخذ من غنائمها وفراً، فكان نعاله من ليف ويخصفه بيده، وكان حزامه من ليف، وقد شدّ حجر المجاعة على بطنه، وكانت زوجته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء سلام الله عليها قد رفضت الدنيا فعاشت في بيت ضيّق لا أثاث فيه، وإن يديها قد مجلتا من الرحى .. على هذا الخطّ سار الأئمّة الطاهرون، فقد طلّقوا الدنيا وأعرضوا عن زينتها، واتّصلوا بالله تعالى وعملوا كلّ ما يقربهم إليه زلفى.

عمله في مزرعة له

وتجرّد الإمام العظيم من كلّ نزعة مادّية، فلم يعرف الأنانية، ولم يخضع لأيّة رغبة من رغائب الهوى، ويقول الرواة: إنّه كان يعمل بيده في أرض له لإعاشة عياله، فقد روى علي بن حمزة قال: رأيت أبا الحسن الثالث يعمل في أرض وقد استنقعت قدماه من العرق فقلت له: «جعلت فداك أين الرجال؟ ..».

فقال الإمام: «ياعلي قد عمل بالمسحاة من هو خير منّي ومن أبي في أرضه ..».

«من هو؟..».

«رسول الله صلّى الله عليه وآله وأمير المؤمنين وآبائي كلّهم عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء الصالحين ..».

لقد كان العمل شعار الأنبياء، فلم يبعث الله نبياً إلاّ كان عاملاً وهذا مايدل على أهمية العمل وشرفه، وأنّه من سيرة الأنبياء الصالحين.

إرشاد الضالين

واهتمّ الإمام الهادي عليه السلام اهتماماً بالغاً بإرشاد الضالّين والمنحرفين عن الحقّ وهدايتهم إلى سواء السبيل، وكان من بين من أرشدهم الإمام وهداهم أبو الحسن البصري المعروف بالملاح، فقد كان واقفياً يقتصر على إمامة الإمام موسى بن جعفر ولا يعترف بإمامة غيره من أبنائه الطاهرين، فالتقى به الإمام الهادي فقال له: «إلى متى هذه النومة؟ أما آن لك أن تنتبه منها ...». وأثّرت هذه الكلمة في نفسه فآب إلى الحقّ، والرشاد.

نهيه عن مجالسة الصوفيين

وحذّر الإمام الهادي عليه السلام أصحابه وسائر المسلمين من الاتّصال بالصوفيين والاختلاط بهم لأنّهم مصدر غواية وضلال إلى الناس، فهم يظهرون التقشّف والزهد لاغراء البسطاء والسذّج وغوايتهم.

لقد شدّد الإمام الهادي في التحذير من الاختلاط بهم فقد روى الحسين بن أبي الخطاب قال: كنت مع أبي الحسن الهادي عليه السلام في مسجد النبي صلّى الله عليه وآله فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري، وكان بليغاً وله منزلة مرموقة عند الإمام عليه السلام وبينما نحن وقوف إذ دخل جماعة من الصوفين المسجد فجلسوا في جانب منه، وأخذوا بالتهليل، فالتفت الإمام إلى أصحابه فقال لهم: «لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخدّاعين فإنّهم حلفاء الشياطين، ومخرّبوا قواعد الدين، يتزهّدون لإراحة الأجسام، ويتهجّدون لصيد الأنعام، يتجرّعون عمراً حتّى يديخوا للايكاف حمراً، لا يهلّلون إلاّ لغرور الناس، ولا يقلّلون الغذاء إلاّ لملأ العساس واختلاف قلب الافناس يتكلّون الناس باملائهم في الحبّ، ويطرحونهم بأداليلهم في الجبّ، أورادهم الرقص، والتصدية، وأذكارهم الترنّم والتغنية، فلا يتبعهم إلاّ السفهاء، ولا يعتقد بهم إلاّ الحمقاء، فمن ذهب إلى زيارة أحدهم حياً أو ميتاً، فكأنّما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان، ومن أعان واحداً منهم فكأنّما أعان معاوية ويزيد وأبا سفيان ..». «وإن كان معترفاً بحقوقكم؟ ..».

فزجره الإمام وصاح به قائلاً: «دع ذا عنك، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا، أما تدري أنّهم أخسّ طوائف الصوفية، والصوفية كلّهم مخالفونا، وطريقتهم مغايرة لطريقتنا، وإن هم إلاّ نصارى أو مجوس هذه الأُمّة، أُولئك الذين يجتهدون في إطفاء نور الله بأفواههم، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون ..».

ودلّل الإمام على زيف الصوفيين، وإنّهم لا نصيب لهم من الدين، وذكر من صفاتهم ما يلي:

1. إنّهم حلفاء الشياطين في إغرائهم وخداعهم إلى الناس.

2. إنّهم حملوا معول الهدم على الإسلام في سلوكهم المنحرف الذي أضافوه إلى الدين وهو منه بريء.

3. إنّ زهدهم في الدنيا لم يكن حقيقياً، وإنّما لإراحة أبدانهم.

4. إنّ تهجّدهم في الليل وإظهارهم للنسك لم يكن لله وإخلاصاً في طاعته، وإنّما كان لصيد الناس واستلاب أموالهم.

5. إنّ أورادهم ليست أوراد عبادة وإنّما هي رقص لأنّها لم تنبعث عن قلوب مؤمنة بالله تعالى وكذلك أذكارهم فإنّها غناء لأنّها خالية من الإخلاص في الطاعة لله.

6. إنّ الذي يملك عقله واختياره لا يتبعهم، وإنّما يتبعهم الحمقاء والسفهاء الذين لا رشد لهم.

تكريمه للعلماء

وكان الإمام الهادي عليه السلام يكرّم رجال الفكر والعلم ويحتفي بهم ويقدّمهم على بقية الناس لأنّهم مصدر النور في الأرض، وكان من بين من كرّمهم أحد علماء الشيعة وفقهائهم، وكان قد بلغه عنه أنّه حاجج ناصبياً فأفحمه وتغلّب عليه فسرّ الإمام عليه السلام بذلك، ووفد العالم على الإمام فقابله بحفاوة وتكريم، وكان مجلسه مكتّظاً بالعلويين والعبّاسيين، فأجلسه الإمام على دست، وأقبل عليه يحدّثه، ويسأل عن حاله سؤالاً حفيّاً، وشقّ ذلك على حضّار مجلسه من الهاشميين فالتفتوا إلى الإمام، وقالوا له: «كيف تقدّمه على سادات بني هاشم؟ ..».

فقال لهم الإمام: «إيّاكم أن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿ألم تر إلى الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثمّ يتولّى فريق منهم وهم معرضون﴾ أترضون بكتاب الله عزّوجلّ حكماً؟ ..».

فقالوا جميعاً: «بل ياابن رسول الله ..».

وأخذ الإمام يقيم الدليل على ما ذهب إليه قائلاً: أليس الله قال: ﴿ياأيّها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم إلى قوله: والذين أُوتوا العلم درجات﴾ فلم يرض للعالم المؤمن إلاّ أن يرفع على المؤمن غير العالم، كما لم يرض للمؤمن إلاّ أن يرفع على من ليس بمؤمن، أخبروني عنه، قال تعالى: ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلم درجات﴾ هل قال: يرفع الله الذين أُوتوا شرف النسب درجات، أوليس قال الله: ﴿هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾.

فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله، إنّ كسر هذا لفلان الناصب بحجج الله التي علمه إيّاها لأشرف من كلّ شرف في النسب ..».

وسكت الحاضرون، فقد ردّ عليهم الإمام ببالغ حجّته، إلاّ أنّ بعض العبّاسيين انبرى قائلاً: «ياابن رسول الله لقد شرّفت هذا علينا، وقصرتنا عمّن ليس له نسب كنسبنا، وما زال منذ أوّل الإسلام يقدّم الأفضل في الشرف على من دونه ...».

وهذا منطق رخيص فإنّ الإسلام لا يخضع بموازينه إلاّ إلى القيم الصحيحة التي لم يعِها هذا العبّاسي، وقد ردّ عليه الإمام عليه السلام قائلاً: «سبحان الله: أليس العبّاس بايع أبا بكر وهو تيمي، والعبّاس هاشمي، أوليس عبدالله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطّاب، وهو هاشمي أبو الخلفاء، وعمر عدوي، وما بال عمر أدخل البعداء من قريش في الشورى، ولم يدخل العباس؟؟ فإن كان رفعاً لمن ليس بهاشمي على هاشمي منكراً، فأنكر على العباس بيعته لأبي بكر وعلى عبدالله بن عباس بخدمته لعمر، فإن كان ذلك جائزاً فهذا جائز ..».

فأفحم العبّاسي، وأُلقم حجراً فإنّه لمّا كان لم يع الأدلّة المدعمة من الكتاب العزيز عرض له بيعة جدّه العباس لأبي بكر وخدمة عبدالله بن عباس لعمر مع أنّ الخليفتين لا يساويان العباس وابنه في النسب.

كلمات من نور

وأثرت عن الإمام أبي الحسن الهادي عليه السلام مجموعة من الكلمات الذهبية التي تعدّ من أروع الثروات الفكرية في الإسلام، وقد عالج فيها مختلف القضايا التربوية والأخلاقية، والنفسية، وهذه بعضها:

1. قال عليه السلام: «خير من الخير فاعله، وأجمل من الجميل قائله، وأرجح من العلم عامله..».

2. قال عليه السلام لبعض مواليه: عاتب فلاناً وقل له: «إّنّ الله إذا أراد بعبد خيراً إذا عوتب قبل ...».

3. قال عليه السلام: «من سأل فوق قدر حقّه فهو أولى بالحرمان ..».

4. قال عليه السلام: «صلاح من جهل الكرامة هوانه».

5. قال عليه السلام: «الحلم أن تملك نفسك، وتكظم غيظك مع القدرة عليه ..».

6. قال عليه السلام: «الناس في الدنيا بالمال، وفي الآخرة بالأعمال ..».

7. قال عليه السلام: «من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه ..».

8. قال عليه السلام: «تريك المقادير ما لا يخطر ببالك ..».

9. قال عليه السلام: «شرّ الرزية سوء الخلق ..».

10. قال عليه السلام: «الغنى قلّة تمنيك، والرضى بما يكفيك، والفقر شره النفس، وشدّة القنوط، والمذلّة اتّباع اليسير، والنظر في الحقير ..».

11. سئل الإمام عليه السلام عن الحزم؟ فقال عليه السلام: «هو أن تنظر فرصتك وتعاجل ما أمكنك ..».

12. قال عليه السلام: «راكب الحرون – وهو الفرس الذي لا ينقاد – أسير نفسه ..».

13. قال عليه السلام: «الجاهل أسير لسانه».

14. قال عليه السلام: «المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحلل العقد العقدة الوثيقة وأقلّ ما فيه أن تكون المغالبة، والمغالبة أُسّ أسباب القطيعة ..».

مالقيه الإمام سلام الله عليه من طغاة بني العباس

وعانى الإمام الزكي أبو الحسن علي الهادي عليه السلام صنوفاً مرهقة من المحن والخطوب من طغاة بني العباس، فقد جهدوا على ظلمه والاعتداء عليه، وكان المتوكّل من أكثرهم حقداً وظلماً له، فقد نقله من يثرب إلى سامراء وفرض عليه الإقامة الجبرية فيها، وأحاط داره بقوى مكثّفة من المباحث والأمن، وأخذت تحصي عليه أنفاسه، ومنع العلماء والرواة والفقهاء من الانتهال من نمير علومه، ونقل فتاواه وآرائه، وبذلك فقد جنى على العلم جناية لا تعدلها جناية، كما فرض عليه الحصار الاقتصادي فقد منع من إيصال الحقوق الشرعية التي كانت ترد عليه من القطر وخارجه، وتركه في ضائقة مالية خانقة، وكان يعهد إلى شرطته وجلاوزته بتفتيش داره بين حين وآخر لعلّه يجد فيها من السلاح أو الكتب التي تناهض الحكم العبّاسي ليستحلّ بذلك إراقة دمه إلاّ أنّه لم يجد فيها أي شيء، وكان في بعض الأحيان يأمر بحمل الإمام عليه السلام إليه بالحالة التي هو فيها، وقد حمل إليه مرّة، وكان الطاغية ثملاً وبين يديه كاسات الخمور وقنانيه، وقد أحاطت به جوقات المغنّيين والمغنّيات، فوقف الإمام معه بصلابة وشدّة وأخذ يعظه، ويذكّره الدار الآخرة، وينعي عليه ما هو فيه من اللهو والفسق والفجور، ولمّا رأى الطاغية إصرار الإمام على الابتعاد عنه، ورفضه للاتّصال به وملازمته لطاعة الله وعبادته أمر باعتقاله وإيداعه في سجونه، ويقول الرواة إنّه سمعه شخص في السجن وهو يقول: أنا أكرم على الله من ناقة صالح وتلا قوله تعالى: ﴿تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام ذلك وعد غير مكذوب﴾ ولم تمض الأيّام الثلاثة حتّى هلك الطاغية قتله ولده المنتصر.

ولم تنقض محنة الإمام وبلواه بعد هلاك عدوّه الطاغية المتوكّل، فقد ظلّ الحكم العبّاسي يراقبه، ويبغي له الغوائل، ويكيد له في وضح النهار وغلس الليل، لقد نقم العبّاسيون على الإمام لأنّه موضع تقدير الأُمّة وتقديسها وإنّها تكنّ له من الاحترام والتقدير والتعظيم ما لا تكنّه لهم، وأنّ هناك شطراً كبيراً من هذه الأُمّة تذهب إلى إمامته، وإنّه أحقّ وأولى بمركز الخلافة الإسلامية من بني العبّاس الذين غرقوا في الملذّات والشهوات وساسوا الناس سياسة بني أُميّة المبنية على البطش والجبروت والكبرياء.

اغتياله بالسمّ

وثقل الإمام عليه السلام على المعتمد العبّاسي، وذلك لما يراه من تحدّث الناس عن مآثر الإمام وعلومه وزهده وتقواه، وتقديمهم له بالفضل على غيره من علماء المسلمين، فانتفخت أوداجه، وورم أنفه حسداً للإمام، وحقداً عليه، وأخذت نزعاته الشريرة تدفعه إلى اقتراف أخطر جريمة في الإسلام فدسّ له سمّاً قاتلاً فلمّا تناوله الإمام لازم الفراش، وقد تسمّم بدنه، وأخذ يقاسي الآلام، وقد توافدت عليه الشيعة ووجوه الدولة لعيادته وممّن دخل عليه عائداً الشاعر الملهم أبو هاشم الجعفري، فلمّا رآه بتلك الحالة جزع ، وبكى.

وتفاعل السمّ في بدن الإمام، وألمّت به آلام قاسية، وأخذ الموت يدنو إليه سريعاً، ولمّا شعر بدنو الأجل المحتوم منه توجّه إلى القبلة، وأخذ يتلو بعض سور القرآن الكريم، وقد وافاه الأجل وذكر الله بين شفتيه.

لقد صعدت روحه العظيمة إلى بارئها وهي نقية، طاهرة، مشرقة، تحفّها ملائكة الرحمن، وقد أظلمت الدنيا لفقده، وأشرقت الآخرة بقدومه، وقد فقد الناس بموته الخير الكثير، فقد مات القائد، والموجّه، والمدافع عن حقوق الضعفاء والمحرومين.

المصدر: www.s-alshirazi.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 7/حزيران/2011 - 5/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م