المثقف العدمي والراهن العربي... ظاهرة غياب المضمون

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: من بداهة القول أن العدمية ليست وليدة العصر الراهن، ولا تنحصر في مكان محدد من العالم، ولا يقتفي أثرها مثقفون في هذا البلد او ذاك حصرا، إنها كما - تؤكد تجارب التأريخ- وليدة الحروب والقهر والظلم الذي يتعرض له الانسان من بني جنسه، لا أحد يعتدي على الانسان سوى نفسه، هكذا يقول التأريخ، أو معظم الوقائع الشاخصة، حتى الطبيعة عندما تغضب فإنها لا تستهدف الانسان وحده، وربما تكون احيانا أكثر رحمة من الانسان بنفسه، لذا فإن العدمية هي نتاج إنساني بحت، تفرضه وقائع بشرية بالغة القسوة، ترفع من درجات اليأس بين الناس الى أقصاها، وينعكس ذلك في وعي المثقف وطبيعة رؤيته للحياة والكون برمته.

إن (العدمية موقف فلسفي يقول إن العالم كله بما في ذلك وجود الإنسان، عديم القيمة وخال من اي مضمون أو معنى حقيقي)، لكن بعض الطروحات والافكار الفلسفية وغيرها، تحاول أن تجمّل جوهر المثقف او الاديب العدمي، عندما تقول إن العدمية تدفع الى رؤية الجوهر الافضل للحياة، لكن الدلائل تشير الى أن المثقف العدمي ينحو الى اليأس، والكسل، والخمول، والتراجع عن دور المثقف في دفع الانسانية خطوة الى أمام.

ونتيجة للنهج السياسي القمعي السائد في بلادنا العربية، فإن المثقف كان – وبعضهم لا يزال- أكثر ميلا الى العدمية، نعم لا احد يمكنه نفي القمع والتسلط، وليس هناك من يتمكن من تجميل نوايا واهداف الحكام والساسة العرب، أو سلوكهم السلطوي وطرائق ادارتهم لمجتمعاتهم، فالسلطة الفردية هي عنوان وفحوى الانظمة السياسية القائمة، لكن الامر لا يسوّغ عذرا مقبولا لتهرّب المثقف من مسؤولياته، ومع ذلك –للاسف- لا نزال نقرأ المشهد الثقافي بعنوانه العدمي المتردد.

ليس ثمة دور واضح ومؤثر للمثقف الوجودي الذي يراه الآخرون نقيضا للمثقف العدمي، بل ثمة تراجع وخمول وانزواء بالغ الوضوح، ينم عن إنكسار بيِّن يعاني منه المثقفون، بسبب ما جرى ويجري من وقائع سياسية بالغة الضرر، بيد أن الحياة واسعة، متنوعة الخيارات، متعددة المسارات، ولا يصح أن تتحكم بها سياسة القمع، فالثقافة والدين والفن بأشكاله وصوره البديعة، إضاف للفلسفة والفكر الحر، كلها وسائل ذات أثر وجودي بالغ، تستطيع النخب توظيفها لتحييد الفكر العدمي، وتحويل المثقف من عدميته الى وجودية إنسانية فاعلة ومنتجة في آن.

القنوط والعدمية صنوان، والواقع العربي يساعد على بث حالات القنوط في روح المثقف ورؤيته، بسبب عدمية المشهد اليومي، بل ربما نتمكن من ملامسة اللامبالاة والانكسار في روح الفرد العربي عموما، والسبب واضح تماما، لكن الحال وتأثيراته ينبغي أن لا يشمل الجميع، فإذا طال اليأس عامة الناس بسبب ضآلة الوعي، لا ينبغي للمثقف أن يقع تحت طائلة التأثير العدمي حتى وإن كانت حساسيته عالية تجاه الاحداث والافكار معا، فلابد أنه معبّأ بموقف وجودي ينتصر لارادة الانسان، أو ينبغي أن يتمتع بهذه السمة الاخلاقية في نهاية المطاف، فـ (الوجودية تكرّس التركيز على مفهوم ان الإنسان كفرد يقوم بتكوين جوهر ومعنى لحياته) وبهذا فإنه ينأى عن العدمية التي ترى في لا جدوى الحياة هدفا ونتيجة في آن.

ومع ذلك، في واقعنا العربي الراهن، أكدت الانتفاضات الشعبية إنحياز أكثرية المجتمع الى الموقف الوجودي المشرّف، فيما كان لبعض المثقفين (كتابا وفنانين وغيرهم) مواقف لا ترقى قط لمسؤولية المثقف، وأثبت بعض هؤلاء بأنهم عدميون أنانيون خاملون، لأنهم خائفون من التغيير اولا، وقد حاولوا الحفاظ على مصالح فردية بائسة، عندما رفضوا التغيير وطالب بعضهم بعودة المنتفضين الى ديارهم، وقد وصفهم بعض المنتمين الى الثقافة والفن بأنهم (عيال) أو أطفال لا يعون خطورة ما يفعلونه، ولكن الوقائع أثبتت خطأ المثقفين العدميين المتراجعين عن ادوارهم ومسؤولياتهم.

إننا في الواقع الآني، لا نتفق مع الرؤية العدمية، ولا نجد قبولا بتسويغها فلسفيا، على اعتبار أنها محاولة لتجاوز الواقع العدمي، وبهذا فإننا لا نتفق مع رؤية المثقف العدمي، ولا نؤمن بأنها تتسق مع حاجات الراهن العربي، إننا باختصار نحتاج الى المثقف الفاعل والمدرك لخطر المرحلة، والمؤمن تماما بأهمية دوره في البناء المجتمعي السليم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 7/حزيران/2011 - 5/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م