سِيَاسِيّوُنَ خَارِجُ الأَزْمَةِ!!

محمد جواد سنبه

لَمْ تُمنح فرصة في العالم، كالتي مُنحت للعاملين بالسياسة في العراق بعد أحداث عام 2003. فبعد هذا التاريخ توفّرت فرص عظيمة، في عدّة ميادين لإجراء عمليات إصلاحيّة كبرى، على المستوى المجتمعي والخدمي والأمني والاقتصادي والسياسي، لو عمل السياسيّون كفريق مهني وإداري يتقاسم المسؤوليّة فيما بينه، لتقديم كلّ ما هو مفيد للعراق كجغرافيا، وللعراقيين كشعب. وبذلك لكتبوا لأنفسهم تاريخياً لا تنساه الذاكرة الجماعيّة العراقيّة. ولاستطاعوا أنْ ينهضوا بأعباء جميع التراكمات السلبيّة لهذا الوطن الجريح، التي تجمّعت على مدى عقود طويلة من الظلم والتجبّر. ولاقتربوا من النموذج الياباني، عندما وقّع امبراطور اليابان (هيرو هيتو) على معاهدة استسلام بلاده لقوات الحلفاء، في نهاية الحرب العالميّة الثانيّة، فطلب من وزرائه ومستشاريه العمل من أجل اليابان، وعدم الالتفات إلى معاهدة استسلام اليابان.

نعم لو اتبع السياسيّون هذا النمط من العمل، لكسبوا ثقة الشّعب، (على تقدير أنّ الإحتلال أمر واقع لا مفر منه، و لا دخل لأحد في حصوله غير أخطاء رأس النظام السابق). وأيضاً لوضعوا على الدوام، الاحتلال الأمريكي في دائرة ضيّقة، هي دائرة الاتّهام بأنّه محتل لبلدهم، و أنّ قواته دمرت البُنى التحتيّة لوطنهم، إضافة لممارسة جريمة قتل العراقيين الأبرياء، وسابقاً الحصار الاقتصادي، الذي فرضوه على الشعب العراقي، لأكثر من عقد من الزمن دفع فيه العراقيون ثمناً باهضاً، وهم لا ناقة لهم فيه ولا جمل.

فعندما يرى المحتل مثل هذا الحسّ الوطني، فبالتأكيد سيُصاب بالصدمة و يعيد ترتيب حساباته من جديد. لكن الذي حصل أنّ الأمريكان المحتلين، اكتشفوا أنّ أغلب الذين يتحركون على الساحة السياسيّة، هم ليسوا أكثر من طلاب سلطة و مناصب. لذا تعاملت إدارة الاحتلال منذ زمن (بول برايمر) ولحدّ الآن، مع هذا النمط من الأشخاص والكيانات، على أساس التبعيّة (أمّا لأمريكا أو لدول الجوار العراقي)، لا على أساس الندّية معها(كتعبير لرفض الاحتلال)، أو على أساس التكافؤ(على أقل تقدير).

ولو أنّ جميع الأطراف أخذت موقف مقاطعة المحتلّ، لما استطاع المحتل أنْ يُمسك بيده الكثير من الأوراق، التي يناور بها لصناعة المواقف لصالحه، بناءً على مقتضيات مصلحته؛ كمحتلّ، وكمستثمر، وكمحارب للإرهاب، وكمناهض للدكتاتوريّة، وكداعم للديمقراطيّة، وكداعية للحريّة والمساواة وحقوق الإنسان....الخ. لقد عرف الأمريكان أنّ هناك استعداداً لدى بعض العراقيين، بأنْ يخدموهم مقابل المال، وإنْ كان هذا البعض ليس بالقليل. وللأمانة يجب أنْ نذكر للتاريخ، بأنّ شرائح كبيرة من أبناء المجتمع العراقي، لهم دور كبير في رسم معالم هذا الواقع المخزي (التعاون مع سلطة الاحتلال). وبالنتيجة أصبح كلّ عراقي، يجني ثمار ما زرعه المتعاونون مع الأمريكان.

هذه هي الخلفيّة العامّة التي أوقعت العراق في الكثير من الأزمات، والتي أصبحت معقّدة بشكل يَصعُب حلِّها، إذا لم نَقُلْ، لا يمكن حلّها ببقاء نفس العوامل التي صنعتها، أو ساعدت على صناعتها. لقد أسهمت تجربة الاحتلال بإنتاج مفاهيم سَلبيّة، أصبحت جزءاً من العمل السّياسي، فالخداع والكَذب، والتضليل والصراع غير الشريف، والوقيعة بالخصم والتسقيط، كلها أصبحت سمات لصيقة بالعمل السياسي مع الأسف الشديد. واعتقد أنّ إدخال هذا النمط من المفاهيم السلبيّة، ما هو إلاّ محاولة لإبعاد الشرفاء والنجباء، من أبناء الوطن للعمل في هذا المعترك الذي جعلوه وضيعاً، حتى يبقى البلدّ يدور في فلك محدّد مرسوم له سلفاً.

ويجب أنْ لا ننسى بأنّ المحتل رسم للعراق آلية الديمقراطيّة التمثيليّة، فأصبحت مشروعاً كبيراً للكثير من السياسيين، الذين اتخذوا الطائفة والقوميّة خندقاً يتمترسون خلفه، وبهما جُمعت أصوات الناخبين، وبذلك حقّق هؤلاء السياسيّون مشروعيتهم. وقد فاقم هذا الوضع سوءاً، عدم وجود قوانين دقيقة تنظم الانتخابات، فاعتُمدت قواعد القوائم المغلقة أولاً، ثم نظام القوائم المفتوحة، التي خوّلت رئيس الكتلة توزيع الأصوات التي حصل عليها، وإعطائها كـمكرمة أو تفضّل إلى اشخاص لم يحصل بعضهم، إلاّ على عشرات الأصوات، لابلّ أقل من ذلك بكثير. وهذه المكرمات هي التي دفعت بالكثير من النواب، الوصول إلى المجلس النيابي بدون وجه حقّ، وجدير بالذكر أنّ 16 نائباً فقط من مجموع 325 نائباً، حصلوا على الأصوات الكافية التي تضمن لهم، الحصول على مقعد في مجلس النّواب في انتخابات 2010. وهذا يعني أنّ هناك 309 نائب، اعطوا ولاءَهم المطلق لرئيس القائمة المتفضل عليهم بالمكرمة، فأضيفت سوّءَة أخرى للعمل السياسي، هي الولاء لرئيس القائمة بعد التبرقع بالطائفة والقوميّة.

السياسي ليس لقباً فخرياً يُخلع على الإنسان، السياسي في سلوكه ومواقفه وتصرفاته يمثّل الخطّ الفكري الذي ينتمي إليه، وعلى هذا التصوّر يبقى السياسي يُحاكِمْ جميع مواقفة بدقّة، قبل التفوّه بها، بناءً على مطابقتها أو مخالفتها لمبادئ المدّرسة الفكريّة التي ينتمي إليها. وهناك حالتان سلبيّتان يعاني منهما المجتمع العراقي بشدّة، هما قلّة الوعي الشخصي و المجتمعي، الأمر الذي جعل الساحة خالية من أيّة ردّة فعل مخلصة وناضجة، تحاول تصحيح المسار وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح.

إنّ جميع ما يحصل من سلبيات واخفاقات، على أرض الواقع في عراقنا الجريح، مردّه إلى حالة الفشل في العمل السياسي كفاءةً و أداءً و إدارةً. لقد بقى هذا النموذج الفاشل من السياسيين جزءاً من أزمة العراق، ومثلما ليس باستطاعتهم تقديم ايّ حلّ لهذه الأزمة، فإنّ وجودهم يزيد الأزمة تعقيداً، لسبب بسيط، أنّهم لا يملكون الإرادة الوطنيّة، ولا استقلاليّة الارادة السياسيّة للعمل من أجل حلّ الأزمة من جذورها. السياسيون جميعاً يتحملون تبعات الدماء البريئة التي تراق يومياً بدون ذنب وجريرة، ويشاركهم في ذلك كل إنسان عراقي يُؤْثِر الصمّت والخنوع والاستسلام والرضى بمعطيات هذا الواقع الهزيل المُرهَق بالمشاكل والاخفاقات. هناك قطاعات كبيرة من الشعب العراقي مُستبعدة، بسبب التخلّف والجهل وانعدام الحسّ والوعي الوطنيين، والتقليد الأعمى، والتقاليد البالية.

محزنة كثيراً تصريحات بعض السياسيين المتكررة باستمرار على الملأ، بأنّ سبب انهيار الوضع الأمني هو صراع الكتل السياسيّة. بربّكم أيّ منطق هذا؟؟، إنّه منطق يجرّم بشكل واضح الكتل السياسيّة المتصارعة. فأيّ قيمة ترتجى لسياسيين يُتهمون من قبل شركائهم بالعمل السياسي، بأنّهم السبب في تدهور الوضع الأمني، ويتهمهم الشعب أيضاً، بالفساد وعدم الكفاءة، وينظر إليهم بعيّن الريبة والشكّ؟؟.

سيبقى العراق غنيمة مأسورة بيَد المحتلّ، ويساعده في إحكام القبضة على الغنيمة، بعض السياسيين الذين هم جزء من سيناريو احتلال العراق، وإنْ تمشدقوا بالوطنيّة وحبّ العراق وشعبه.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 7/حزيران/2011 - 5/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م