مدخل إلى قيمة التعارف ؟!

أ. غريبي مراد

من القصص المعبرة، يحكى أنه جرى حوار بين عالم عارف ومتعلم على سبيل نجاة، حول نقد الذات ومحاسبتها، وفي نهاية الحوار نظر العالم في تلميذه المتعلم قائلا: أذكر لي مساوئي وعيوبي ونواقصي التي قد استشعرتها أو استوحيتها طيلة تعاملك معي...

انصدم التلميذ المتعلم متعجبا من طلب معلمه، واعتذر وطلب من أستاذه أن يعفيه من هذا الأمر، لكن العالم ألّح وأعطاه الأمان بأنه لا يغضب منه مهما كانت صراحته قاسية... في الأخير نزل التلميذ عند طلب معلمه، واستهل ذكر عيوبه وبعد بضع دقائق توقف مستحييا من النظر في وجه معلمه لجرأته غير المسبوقة، ثم استعاد أنفاسه وقال لمعلمه بوقار: سيدي هل تكرمت وذكرت لي عيوبي ونواقصي فأنت أجدر بهذا مني.... تبسم العالم وقال لتلميذه: بني وهل يصف ناقص ناقصا؟ أنا وأنت متعلمين على سبيل نجاة ولا يصفنا إلا الكامل المطلق ذو الجلال والإكرام.... قد يتفكر القارئ ماذا نستفيد من قصة كهذه؟

بصراحة: هذه القصة هي درس بليغ للأفراد وللشعوب والأمم في أبعاد حياتهم، لتفهم أن الله خلق الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا ويتعاونوا ويتبادلوا الفنون والآداب والمهارات ويتنافسوا على فعل الخيرات ومحاربة الأهواء والأوهام، والتعارف هو أساس التسامح وروح التواصل وغاية الحوار ومنتهى بغية المكرمين، وليس أبلغ وأدل على أهمية التعارف في حياة الأفراد والمجتمعات مثل الآية الكريمة: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات: الآية 13، والتي توحي لنا بضرورة مراجعة واقعية التعارف في حياتنا كعرب ومسلمين، كعنوان حضاري إسلامي عظيم، ولابد أن نفهم أن التنوع الإنساني كخلق وجعل من الله تعالى، بالمنطق الإسلامي ماهيته تتحدد في التعارف ومدى الصبر عليه كإمتحان لمدى حيوية الكرامة عبر حركية التقوى في حياة الفرد والمجتمعات (شعوبا وقبائل)، وما القصة السابقة سوى قطرة من بحر جواهر الآية الكريمة السابقة من سورة الحجرات التي تفتح آفاقا رحبة على ثقافة التعارف كأساس لأسلمة الحياة...

بكلمة: إن الشطحات الشعبية والقبائلية والمذهبية ورمي التهم والتباغض الإنساني بكل تمظهراته، ما هو سوى محاولة القفز على الحقائق الإسلامية المنيرة بنور الحق والعدل، عبر ضخ الترميزات الصاخبة في مقياس المعرفة الطائفية... بكل بساطة أي سيناريو إعلامي أو سياسي أو عسكري يتجاوز أساس التعارف بكل لوازمه المشتركة بين أطرافه، هذا السيناريو ماهو سوى محاولة الانقلاب على أمر إلهي عظيم يتعلق بكرامة الناس وبالتقوى كمطلب ثقافي في المنظومة الحضارية للمسلمين....

ثم إن التعارف في المنظور الإسلامي فرض إلهي وحق لكل أبعاد التنوع الإنساني (أفرادا ومجتمعات) آثم تاركه من المسلمين إبتداءا، ظالم منكره، وجواب سؤالنا التاريخي كأمة مريضة: لماذا أنيميا الوحدة تنخر جسدنا الإسلامي؟ هو لأننا كشعوب وقبائل تعوّدنا على مقاطعة فاكهة التعارف!!! إن الطائفية المحلول الوحيد الذي يكشفها في يومياتنا السياسية والمذهبية الثقافية والاجتماعية، هو ماء التعارف (الحوار العلمي)، ومهما قرأنا عن التعارف وسمعنا عنه لا يمكننا تذوق حلاوة ثماره إلا بالممارسة عبر الحوار والانفتاح...

والتعارف يبقى الوصفة المثلى للتنمية بكل أبعادها، ومركز ثقله هو التواضع كأفراد وأساسا العلماء منهم وكشعوب وقبائل، حتى نكون أهلا للتعارف والرقي للكرامة الحضارية الحقة التي لا تتجلى عبر الزمن كله إلا تحت لواء التقوى في تفاصيل الحياة كما في العبادات...فتعالوا إلى التعارف نظرية وممارسة...والله من وراء القصد.

* كاتب وباحث إسلامي

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 28/آيار/2011 - 24/جمادى الآخرة/1432