لابد من الاشارة عند نقطة البداية.. إلى أننا نقصد بالأجهزة
الأمنية.. القوات المسلحة بأفرعها الثلاثة (القوات البرية والبحرية
والجوية) وقوى الأمن الداخلي من شرطة بكافة أصنافها واختصاصاتها
وتوابعها، وأجهزة أخرى تقع ضمن قائمة الاستنفار عند الطوارئ.. مضافا
إليها أجهزة المخابرات وحرس الحدود والأجهزة ذات الطبيعة الخاصة التي
تهتم بالأمن الوطني والتي يكون لها تأثير على الأحداث ومجرياتها، بسبب
طبيعة تنظيمها أو ما تمتلك من قاعدة بشرية وأسلحة وتجهيزات.
فالتنظيم وحجم الكتلة البشرية المنضوية تحت مسميات تلك الأجهزة
إضافة إلى عدتها القوية المؤثرة، أمور تجعل منها أداة مرهوبة الجانب
ذات تأثير خطير قد يقود المجتمع برمته نحو الاتجاه الذي تسعى إليه،
ونحن شعب لنا تجاربنا المريرة مع تلك الأجهزة من خلال الانقلابات
والثورات التي حصلت في تاريخ العراق المعاصر.. والتي لعبت تلك الأجهزة
خلالها بدور خطير قاد الوطن إلى حيث تريد تلك الأجهزة.
من هنا لاحظ المُنظّرون في مختلف دول العالم، أهمية أن تجرد الأجهزة
المؤثرة على المجتمع، (وهي التي بيَّنا هويتها المهنية آنفا)، من أي
ولاء عدا عن الولاء الوطني الصرف.. فليس ثمة مجتمع يخلو من إصطفافات
فكرية متباينة الرؤى متعددة الاتجاهات.. ما يعني أن انحياز الأجهزة
الامنية أو بعضها إلى أي من عناصر تلك الاصطفافات، قد يُغلِّب أحد
الأجنحة التي تشكل الاصطفافات تلك.. وبالتالي قد يعود بالسوء على الوطن
نتيجة ذلك الانحياز وما يجر من احتراب متوقع واقتتال لا يستفيد منه
الوطن والمجتمع بقدر ما سينجم عنه من فوضى وتخريب.
ففي العهد الملكي لم تكن الحكومات المتعاقبة قادرة على ضمان ولاء
الجيش، وهو عندنا القوة الأعظم والأكثر تأثيرا على عموم الساحة الوطنية،
لذا فإن قانون العقوبات العسكري اهتم بقضايا قد لا تؤثر على الانتماء
المسلكي والاداء المهني بقدر ما تحسس رجال الجيش بخطورة تفكيرهم في
اتجاهات قد تعد تحزبية أو تكتلية ربما تقود الى الخروج عن طواعية
المؤسسة التي أريد لها أن تكون منقادة الى السلطة تماما، أو على الأقل
أن تكون محايدة.. فليس من حق العسكري الانتماء الى مؤسسات المجتمع
المدني، وعندما يكون الأمر ضروريا كالإنتماء الى المؤسسات العلمية أو
المهنية البحتة خصوصا بالنسبة للمهندسين والأطباء ورجال القانون وغيرهم،
فإن عليهم إستحصال الموافقات الرسمية اللازمة، وليس للعسكري حق التصريح
لوسائل الإعلام، إلا إذا أعلم مراجعه بذلك مسبقا، وليس له أن يلقي
محاضرة مهما كانت طبيعتها، مالم يكن مرجعه الأعلى (رئاسة أركان الجيش)
قد وافق مسبقا بعد أن يكون قد اطلع على نص مكتوب لتلك المحاضرة.
من هنا أريد تحسيس العسكري أنه لا يجوز له التحليق في فضاء ذي صفة
فكرية مهما كانت تلك الصفة، فهو سيلاحق قانونا ويردع لأبسط الأمور
كإلقاء محاضرة ليس لها علاقة بالسياسة ولا بمهنته، إلا أن الغاية هي
تحسيسه بأن إصطفافه مع أي من مؤسسات المجتمع المدني حتى وإن كانت غير
مؤدلجة، أمر غير مسموح به، فما بالك بالإنحياز الحزبي؟..
وعندما انقلب الجيش على النظام الملكي لدواع وطنية بسبب سياسات عبد
الإله ونوري السعيد وقادة الحكومات المتعاقبة التي كانت تميل الى
بريطانيا أو أمريكا، فإن الشعار الأهم الذي رفعه عبد الكريم قاسم في
هذا المجال هو (الجيش فوق الميول والاتجاهات).. خصوصا وإن هناك جهات
فكرية متناحرة ذات تأثير كبير على المجتمع يخشى من تغلغلها داخل الجيش
كالحزب الشيوعي وحزب البعث والقوميين العرب وغيرها من إتجاهات، كانت
تعمل على جذب واستقطاب العسكريين، وهو الأمر الذي يقود بالتالي الى
امساكها بورقة ليست رابحة فحسب، بل ذات قدرة على قلب الطاولة على رؤوس
باقي الأطراف والجهات المناوئة، من اللاعبين.
ولغرض احتكار الجيش وبقية الأجهزة الامنية، فإن النظام الذي قام في
البلاد منذ عام 1968 رفع شعار (الجيش العقائدي).. وهذا سلوك خطير جدا
بسبب الرغبة في تكريس الهيمنة وسلطة الحزب الواحد.. وهو كان الاشارة
الأولى الى نهج الاستبداد الذي كان النظام ينوي سلوكه من خلال تكريسه
نظرية (جئنا لنبقى).. فليس هناك مجال للتفكير في حدوث تغيير في السلطة
مهما كانت طبيعته، خصوصا وإن القوات المسلحة أفرغت بشكل قاطع وتام من
كل العناصر ذات الاتجاهات الفكرية الأخرى، لا بل تعدى الأمر ذلك بكثير،
فلم يعد ثمة مكان لمستقل، فهو طالما كان في الجيش، فهو مع السلطة
وحزبها، أو عليه المغادرة فورا.
إن أمر تسييس الأجهزة الامنية الذي مارسه النظام المُغادر والذي عاد
بالسوء والخذلان على الشعب والوطن، عاد الآن ليمارس بخطورة أكبر مع
توقع لأفدح النتائج والعواقب.. فالجيش وبقية الأجهزة الأمنية لم تسيس
فحسب، وإنما جردت من كل كفاءة، في مسعى لتجهيلها وتخلفها المتعمد،
بدليل أن بعض الضباط من فئة القادة والأمراء لا يملكون من العلوم
والفنون العسكرية ما يجعلهم مهنيا مؤهلين لهذا المنصب.. المهم أن هذا
العنصر له حق على حزب ما من الأحزاب المؤثرة في الفضاء السياسي، فهو
لابد من مكافأته بمنحه صلاحيات قيادية وإن لم يكن مؤهلا لها، ولعل
وجوده في المؤسسة العسكرية سيضيف ورقة رابحة الى ذلك الحزب تستثمر عند
الحاجة!!..
المشكلة أن هذه الصيغة وإن لم تكن كفيلة بإملاء الشواغر التي حصلت
نتيجة لتطهير القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى من العناصر
الكفوءة مهنيا بسبب من الخوف غير المبرر منها، إلا أنها وضعت في تلك
الاجهزة ألغاما بشرية خطيرة.. فالواضح عندنا أن الاصطفافات السياسية
الحالية، مهما كانت طبيعتها هي اصطفافات وقتية ومصلحية سرعان ما تقوّض
وتنهار، وقد يعقب ذلك الانهيار احتراب مدمر وقتال مخرب، وتحضرنا أمثلة
مررنا بها في مدن عدة خلال السنوات التي تلت عام 2003.. ولك أن تتصور
وجود عناصر قيادية في الاجهزة الامنية تعد نفسها تابعة بإخلاص أعمى
لعناصر تلك الاصطفاف، وتستطيع أن تحرك قطعات عسكرية بحجوم مختلفة، أو
العمل على غسل عقول منتسبيها وكسبهم إلى الجهة السياسية التي يأتمر
بأوامرها ذلك القائد..
من هنا تتجسد خطورة التسييس الذي دأبت عليه السلطات الحاكمة منذ
التغير عام 2003 وما زال قائما، وعندما نقول أن ذلك أخطر من نهج النظام
السابق فإن ذلك النظام احتكر الجيش وجيَّره لمصلحته الخاصة، بينما هو
الآن مختلف المشارب والأهواء الفكرية، مهيأ للانفجار الداخلي في أية
لحظة وهو ما وصفناه آنفا بالمحشو بالألغام البشرية الخطيرة، على الرغم
من دعاوى وشعارات لا مجال لواقعيتها، كالولاء للعراق أولا.. فهو شعار
متحرف متحيز، أي أن يعترف ضمنا بوجود ولاءات أخرى تأتي ثانيا.. وفي
الحقيقة فإن المواطن يعرف حق المعرفة أن تلك الولاءات هي صاحبة القدم
حتى على الولاء الوطني.. خصوصا وإن ذلك معمد بالمستوى الفكري والثقافي
المتدني لبعض العناصر التي زجَّت بها تلك الجهات لتكون عناصر قائدة
ومؤثرة في القوات المسلحة, تأخذ أوامرها من قادتها الحزبيين.
لقد حمت المؤسسة العسكرية نفسها من التغلغل الحزبي إلى صفوفها بوضع
مواد عقابية صارمة في قانون العقوبات العسكري الرقم 13 لسنة 1940
المعدل، إذ عد ذلك التغلغل ضمن الأفعال المخلة بالانتظام العسكري التي
احتواها الفصل الحادي عشر من القانون.. فالمادة 131 صنفت ضمن التدخل في
الأمور السياسية كل الأفعال التالية: من وجد في إجتماع سياسي أو إنتمى
الى جمعية سياسية أو إشترك في مظاهرة أو إجتماع سياسي أو إنتخاب سياسي
أو لقن غيره للقيام بهذه الأعمال أو كتب مقالات سياسية أو ألقى خطابة
سياسية وحددت عقوبة الفاعل بالحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات..
أما المادة 132 من القانون فإنها قضت بمعاقبة كل من انتمى الى جمعية
خيرية بغير إذن بالحبس مدة لاتزيد على شهر.
لقد كان النظام المقبور يأخذ تعهدات من منتسبي المؤسسة العسكرية
بعدم انتمائهم الى أحزاب غير حزب السلطة.. وأنه وضع تشريعات صارمة تطبق
بحق من لم يلتزم بتعهده ذاك.. ونرى أن تطبيق المواد القانونية التي
ذكرنا كافية جدا للحد من ظاهرة تغلغل الأفكار الحزبية الى المؤسسات
الأمنية، مع ضرورة إلزام الأحزاب بعدم الزج بالمنتمين إليها للعمل في
الأجهزة الأمنية، على أن تسجل الحالات التي تكتشف خرقا يحاسب عليه
الحزب إضافة الى العقوبة التي ستطبق بحق المنتسب..
* خبير عسكر وباحث اكاديمي/مركز الفرات
للتنمية والدراسات الاستراتيجية
www.fcdrs.com |