سيول المهاجرين الى أوروبا... الفرار من الربيع العربي

 

شبكة النبأ: ما إن بدأت الثورة الشعبية في تونس بداية العام الجاري حتى بدأت أعداد من المهاجرين الفارين من حالة عدم الاستقرار، تتوافد إلى الحدود الأوروبية، وما إن تفشت الثورات في البلدان المجاورة حتى راح الآلاف من اللاجئين يفرون من العنف ويبحثون عن ملاذ آمن لهم ولعائلاتهم.

وتسبب تدفق اللاجئين في أزمة دبلوماسية في أوروبا، وتوقفت القطارات بين فرنسا وإيطاليا، التي تعد بوابة المهاجرين إلى القارة الأوروبية، في حين تفكر ألمانيا في القيام بالخطوة نفسها.

رحلة الموت

كان الجميع يدخنون السجائر على ظهر ذلك المركب، إذ لم يكن أمامهم أي شيء آخر يمكن أن يفعلوه، إلا عندما ترتفع الأمواج وتضرب القارب بقوة وتغمره، فيبدأ الركاب بطرح المياه منه بهلع.

وبالنسبة للتونسي لمحمد مانادي (22عاماً)، فإن هذه العواصف كانت فترة راحة، فهي تمنحه شيئاً آخر للتركيز عليه.

وقال وهو يسحب دخان سيجارته تحت شمس المساء أمام بلدة أوريا الإيطالية التي يذهب إليها المهاجرون التونسيون «إن الضياع في هذه المياه السوداء يعد أمراً أسوأ من الضياع في الصحراء، إذ يشعر المرء بالخوف ويبدأ بتخيل كيف سيموت. وأحيانا أشعر بأنني سأشرب الكثير من ماء البحر ومن ثم أموت، أو ان قلبي يمكن ان يتوقف من الخوف. وفي نهاية المطاف فإنني سأنام، وأثناء ذلك فإنني سأقول لنفسي: محمد لقد فعلت كل ذلك من أجل الوصول الى أوروبا؟ من أجل الحصول على عمل؟».

يتركون للموت

تُرك العشرات من المهاجرين الأفارقة ليموتوا في أعالي البحر الأبيض المتوسط، بعد أن تجاهلت العديد من الوحدات العسكرية الأوروبية صرخات الاستغاثة منهم، حسبما ذكرته صحيفة «الغارديان» البريطانية.

وكان نحو 72 راكباً، من ضمنهم العديد من النساء والأطفال واللاجئين السياسيين الذين فروا من جحيم الحرب الليبية إلى جزيرة لامبدوسا الإيطالية. وعلى الرغم من التحذيرات التي أطلقها حرس السواحل الإيطاليون، والاتصالات التي جرت بين قارب المهاجرين ومروحية وسفينة تابعتين للبحرية الايطالية، لم تقدم للمهاجرين أية مساعدة.

وقضى جميع الركاب باستثناء 11 فقط جوعاً وعطشاً بعد أن تاه مركبهم في المياه الدولية لمدة 16 يوماً، وقال أبوكوركي، أحد الناجين، «في كل صباح كنا نستيقظ ونجد المزيد من الموتى، ونتركهم لمدة 24 ساعة على القارب، ومن ثم نلقي بهم في الماء. وخلال الأيام القليلة الأخيرة لم نعد نعرف بعضنا، والجميع كانوا يدعون ربهم أو يموتون». وينص القانون الدولي للبحار على انه يجب على جميع السفن بما فيها السفن العسكرية ان تستجيب لنداءات الاستغاثة، وأن تقدم لهم المساعدة الممكنة.

وعندما التقى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلسكوني في روما في6 من ابريل الماضي للتشاور بشأن زيادة الاجراءات التي تهدف إلى منع دخول المهاجرين إلى اراضي البلدين، كان يشغل بال الرجلين أشخاص من امثال محمد. وكان هذا الشاب وآلاف آخرين من أمثاله قد أثاروا خصومات سياسية كبيرة في أروقة السلطة في أوروبا، إذ نادى عدد من السياسيين بتحصين الحدود، ووضع قيود على حرية السفر داخل دول الاتحاد الأوروبي.

وشهد العام الجاري ارتفاعاً كبيراً في تعداد المهاجرين الذين ينشدون الوصول إلى اوروبا قادمين من شمال افريقيا، إذ أدت الاضطرابات السياسية الى انعدام الاستقرار الاجتماعي، وإلى زيادة الفلتان على الحدود. ويصل نحو 30 الف مهاجر سنويا إلى لامبدوسا الجزيرة الايطالية التي تبعد 60 ميلاً عن الساحل التونسي. وخلال الأشهر الأربعة الماضية تزايد هذا الرقم. وقال مانادي: «لم أشاهد التلفزيون منذ شهرين، لكننا نسمع عن اللقاءات والاتفاقات السياسية، والغريب أن تكون حياة المرء بأيدي أناس لا يعرفهم أو اشخاص لن نلتقي بهم بتاتاً. وفقط هم يعرفون ما الذي سيحدث، أما نحن فعلينا الانتظار فحسب، والانتظار أبداً».

مغادرة قسرية

بعد أن غادر قرية دهيبة التونسية ليلاً في الـ10 من مارس تاركاً عائلته خلفه، قاصداً رحلة طولها 2000 ميل الى الشمال، تحولت حياة مانادي إلى خليط من التعب والبطولة وقسوة الحياة. وكان قرار مغادرة البيت يعتبر الأكثر قسوة في حياته، وهو الآن ينتظر في أحد المخيمات من أجل الحصول على إذن من شأنه أن يحدد شكل مستقبله، لقد كان تحت رحمة الروتين الحكومي في مكاتب بعيدة جداً، التي تتخذ قراراً يتعلق بكل تفاصيل حياته بدءاً من الأكل وانتهاء بمكان نومه، وكيف ستتحول حياته.

ولم يتخيل يوماً أنه سيغادر دهيبة الواقعة على الحدود الليبية ـ التونسية، إذ كان يعمل مع اخوته في تهريب المواد النفطية. ويوجد العديد من التونسيين الآن في جزيرة لامبدوسا بعد ان غادروا تونس في يناير الماضي هربا من نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ومن الفوضى السياسية والاقتصادية التي توقعوا حدوثها.

وقال طالب (26 عاماً)، وهو واحد من أصل 1200 تونسي موجودين الآن في اوريا «لا يمكن ان يشعر المرء بالراحة في مكان تقوم فيه قوات الأمن بنشر دوريات امنية ترافقها الدبابات، وهناك 31 حزباً سياسياً تتناحر من اجل الوصول الى السلطة».

ويرى مانادي في دهيبة ان المشهد السياسي الصاخب في العاصمة هو موضوع طويل الأمد، وأن الأمر الذي يشغل ذهنه ليس أكثر من البيت الذين يقوم ببنائه على أرض لوالديه. وأضاف «خلال النهار كنت أتصفح الإنترنت، وفي الليل اذهب مع اصدقائي إلى الصحراء، حيث نصطاد الأرانب ونشعل النار ونخيم انه مكان رائع، وليس هناك أي من رجال الامن في الجوار».

وعندما سمع سكان دهيبة ان بن علي غادر الحكم شعروا بالسعادة، لكنها كانت اخبار بعيدة عن عالمهم الذي يعيشون فيه، إذ انهم يشعرون أحيانا بأنهم ليسوا من تونس وبعيدين جدا عن كل ما يجري فيها.

وقال مانادي «عندما تحرك الشعب الليبي ضد (الزعيم الليبي معمر) القذافي تحرك ضدهم، وأصحبت منطقتنا في حالة خطرة وتوقفنا عن التهريب والعمل، وأدركت أنني اذا بقيت هناك فلن اجد أي عمل، ولهذا كان علي أن اجد شيئاً جديداً».

مخاطر

حاول والدي مانادي ثنيه عن الانضمام إلى الآلاف من التونسيين الذين استفادوا من الفوضى الناجمة عن احداث ما بعد الثورة للتملص من قوات حرس الحدود، والابحار في البحر المتوسط بحثاً عن العمل في أوروبا، لكن مانادي كان مصمما. واتصل بمهرب في جربا، الذي طلب منه مبلغ 2000 دينار تونسي ( 00 جنيه استرليني)، ونقله الى أوروبا على متن قارب صيد. وبعد أسبوع من الانتظار داخل شقة ريثما يهدأ البحر، وضع مانادي وأصدقاؤه أمتعتهم بكيس واحد وركبوا القارب، وكان هناك 50 راكباً موجودين سلفاً.

ويتذكر مانادي قائلاً: «كان قبطان القارب في الـ20 من عمره، ومع ذلك فقد كان هادئاً ومحترفاً. أما معظم الركاب الموجودين على القارب فكانوا من مدينة جربا، ويعملون في مجال السياحة وصيد السمك. وكنا جميعا سعداء ونغني، ونصور بعضنا بهواتفنا النقالة».

وفي اليوم التالي من الرحلة هبت عاصفة قوية وتغير كل شيء. ويقول مانادي «جاء القبطان وقال لنا: بما أن الرياح لن تشتد أكثر من ذلك، فإننا سنعيش، ولكن اذا اشتدت الريح اكثر فإنني سأقول لكم إنني آسف لأننا بالتأكيد سنموت. وأنا لن انسى هذه اللحظة طالما حييت. ومهما قلت لكم لن يفهم احد مشاعري، اذ يجب عليكم ان تجربوا هذه اللحظات، حتى تعرفوا بالضبط ما أعنيه».

وبعد ثلاثة أيام وصل القارب الى لامبدوسا التي أصبحت مركز جذب لأولئك القاصدين الدخول الى أوروبا قادمين من شمال افريقيا. ولا يزيد عدد سكانها لامبدوسا القاطنين فيها بصورة دائمة على 5000 نسمة. ووصل إليها هذا العام ستة اضعاف هذا الرقم، وبعضهم يحمل الجنسية الليبية، أو عمال اجانب يعملون في ليبيا، وبعضهم الآخر من دول جنوب الصحراء الكبرى، لكن الأغلبية العظمى من التونسيين. ويواجه المهاجرون غير الشرعيين الذين يصلون إلى جزيرة لامبدوسا الكثير من الصعوبات، لكن أكثر من 800 شخص قضوا أثناء محاولتهم الوصول إلى الجزيرة خلال الشهر الماضي، حسبما ذكرته وكالة اللاجئين التابعة للامم المتحدة. أما بالنسبة لمانادي فإن وصوله كان بمثابة الراحة له، وهو يقول: «أستطيع القول انه عندما وضعت قدمي في ميناء لامبدوسا شعرت كأنني ولدت من جديد، كان البحر مثل الموت، ولامبدوسا مثل الحياة».

وبقي مانادي في لامبدوسا مدة 10 أيام وقال: «كنا ننام في العراء في الميناء، لان مركز احتجاز المهاجرين كان مملوءاً، ونمضي الوقت في التنزه في الجزيرة».

ظروف سيئة

وفي نهاية الأمر تم إدخاله إلى المركز، وحصل على بطاقة هوية مؤقتة، ونقل مع 1400 مهاجر آخرين الى جنوب ايطاليا.

وفي الأول من ابريل وصل مانادي إلى الأرض الأم في ايطاليا، ودخل مركزي احتجاز في منطقة بوغليا في جنوب ايطاليا، وعلى الرغم من ان المركز مجهز لاستيعاب 1500 مهاجر، إلا انه في الوقت الذي وصل إليه مانادي كان تعداد المقيمين في المركز أكثر من 2000 مهاجر.

ووصفت منظمة «أطباء بلا حدود» الظروف السائدة في مراكز احتجاز المهاجرين في ايطاليا بأنها «سيئة»، وأسوأ من مخيمات المهاجرين في معظم دول العالم، التي تعمل فيها المنظمات غير الحكومية، وحذرت من ان ذلك يمكن أن يفاقم الوضع النفسي للمهاجرين المحتجزين فيها. وخلال وجود مانادي في المركز حدثت محاولتا هرب جماعي من قبل المهاجرين. وفي المرة الثانية كان مانادي من ضمن الهاربين ووصل الى باري مشياً على الأقدام، والتي تبعد 60 ميلا إلى الشمال من مركز الاعتقال، قبل ان يتم اعتقاله من قبل الشرطة وإعادته الى المركز.

وفي العودة إلى قرية دهيبة، فقد كان القتال بين الثوار الليبيين وأنصار القذافي قد وصل الى خارج الحدود، وأدى الى مقتل وجرح العديد من سكان القرية. أما مانادي فقد قرر مغادرة المركز. وهو يقول «عندما أشاهد الاخبار أحياناً وكل الكوارث التي أشاهدها، كالحروب والثورات والكوارث الطبيعية، والناس القادمين من ليبيا الى تونس، ومن هايتي الى كندا، ومن صربيا إلى ايطاليا، كل ذلك يجعلني اعتقد انه قريبا ستزول جميع الحدود في هذا العالم»، ويضيف «قد يكون ذلك معجزة، لكنها ستحدث وسنعود الى اللحظات الاولى من عمر الإنسانية على هذه الارض، ونتحرك بحريّة».

الثورات تهدّد أوروبا

الى ذلك أصبحت جزيرة لامبدوسا الإيطالية محطة استقبال اللاجئين من الثورات العربية، في تونس ومصر وليبيا. وخشية أن تصبح المحطة الأخـيرة للأعداد الكبـيرة من اللاجئين، قررت باريـس توقيف خطوط السكك الحـديدية التي تربـط شمال إيطاليا بجنوب شرق فرنسا، الأمر الذي تسبب في مشكلة إنسانية لهؤلاء النازحين الذين فروا من المعارك الدائرة في بلدانهم.

وتبادلت روما وباريس التهم بإساءة معاملة اللاجئين الذين تحميهم الاتفاقات الدولية والمعاهدة الأوروبية بخصوص حقوق الإنسان. واتهم وزير الداخلية الإيطالية روبرتو ماروني، فرنسا بخرقها للمواثيق الدولية، وقال «هذه الإجراءات غير قانونية وتخالف المبادئ الأساسية للاتحاد الأوروبي»، مشيرا إلى تعطيل حركة التنقل بين البلدين، التي تضمن حريتها معاهدة «شنغن». وأضاف ماروني أن السلوك الفرنسي يهدد تماسك المنظومة الأوروبية.

وفي سياق متصل، يتوقع المراقبون أن تنضم ألمانيا إلى الخلاف الحالي حول اتفاقية التنقل الحر، وعارضت برلين منح إيطاليا تصاريح اللاجئين العرب تسمح لهم بالتنقل داخل البلدان الموقعة للاتفاقية. وقالت ألمانيا انها مستعدة لإرسال المعونات الإنسانية إلى شمال إفريقيا إلا أنها لا تريد لاجئين من تونس أو مصر أو ليبيا على أراضيها.

وهددت السلطات الألمانية بوضع نقاط تفتيش على الحدود مع النمسا (التي تفصل ألمانيا وإيطاليا) في حال لم تعد هذه الأخيرة النظر في منح المهاجرين العالقين في لامبدوسا، وثائق عبور أوروبية.

وقال وزير الداخلية في ولاية بافاريا، جواشيم هيرمان، ان بلاده لا تسمح بما تقوم به الحكومة الإيطالية، التي تعتبر اللاجئين التونسيين سياحا وترسلهم إلى داخل أوروبا.

وفي الوقت الذي تتقاذف فيه القوى الأوروبية الكبرى كرة اللاجئين، تبدو إيطاليا الأسوأ حظا في هذه الأزمة السياسية، كونـها الأقرب إلى شمال إفريقيا.

وتحاول فرنسا أن تقدم مبررات لعدم سماحها بدخول اللاجئين الجدد، حيث تستضيف ملايين المهاجرين القادمين من الضفة الجنوبية للمتوسط. والسماح بدخول آلاف النازحين قد يؤدي إلى تردي الخدمات الإنسانية، بحسب المسؤولين في باريس، كما سيؤثر سلبا في البنية التحتية للبلاد. كما أن ألمانيا التي تستضيف بدورها ملايين المهاجرين، تريد أن تبقى بعيدة عن هذه الأزمة. وينحي البعض باللائمة على المسؤولين في الاتحاد الأوروبي الذين فضلوا الصمت إلى الآن، الأمر الذي ربما يدل على عجز الهيئات الأوروبية عن إيجاد حل لخلاف نشب بين عضوين في الاتحاد، بسبب اللاجئين من شمال إفريقيا.

كما أن هذه الأزمة تهدد مبدأين أساسيين من بين المبادئ التي قام على أساسها الاتحاد الأوروبي وهما: الحدود المفتوحة والتضامن الأوروبي.

الأزمة في طريقها إلى التعقيد لأن الأمر لن ينتهي عند اللاجئين من تونس، إذ يتوقع تدفق آلاف المهاجرين من ليبيا ومصر مستقبلا، ومن ثم فإن بقاء الاتحاد بشكله الحالي بات أمراً يثير التساؤلات. وفي هذا السياق صرح ماروني بأن ما يحدث يدفع بإيطاليا لإعادة النظر في بقائها ضمن الاتحاد الأوروبي، لأنها لم تتلق دعمه في مواجهة أزمة المهاجرين غير الشرعيين.

وتقول مديرة المعهد الأوروبي لأبحاث الاندماج، أولغ بوتمكينا، إن «الوضع معقد حقا، وهذا يمثل اختيارا حقيقيا في ما يخص التضامن بين أعضاء الاتحاد الأوروبي»، وتضيف «المشكلة في هذه الأزمة أن هؤلاء اللاجـئين ليسوا كلهم لاجئين سياسيين، ولكنّ عددا كبيرا منهم فر بسبب الظروف القاسية في بلادهم، حيث لم يتقدم اللاجئون القادمون من تونس بطلبات لجوء سياسي».

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 25/آيار/2011 - 21/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م