الاقتصاد اليوناني بحاجة لعملية جراحية لا حبوبا مهدئة

علي الأسدي

الاقتصاد اليوناني لم يخرج من عنق الزجاجة حتى اليوم، برغم الأموال التي ضخت في ميزانيته من قبل الاتحاد الأوربي وصندوق النقد والبنك الدوليان البالغة أكثر من 96 بليون يورو قبل حوالي العام. كما لم تستطع اليونان تنفيذ الشروط التي التزمت بها تجاه الدائنين، وذلك لأن اقتصادها ما يزال يعاني من الركود، وقد انكمش بنسبة 2.7% في حين كان المتوقع ارتفاع معدل نموه الاقتصادي هذا العام، بفضل الأموال التي اقترضتها، وسياسة التقشف التي اتبعتها على مدى الأشهر المنصرمة. الاقتصاد اليوناني يدور في حلقة مفرغة، فتخفيض النفقات العامة لم يقابله زيادة في الموارد العامة بما فيها الضريبية كما تمنى خبراء الاتحاد الأوربي، لأن نظامها الضريبي من مخلفات الماضي، اذ لم يباشر بتحديثه منذ انضمام اليونان للاتحاد الأوربي عشرة سنوات مضت.

 النظام الضريبي يعاني من نواقص كثيرة، أهمها وفي مقدمتها ثغراته القانونية التي تجيز التهرب الضريبي الذي يحرم الميزانية الحكومية من قسم كبير من مستحقاتها على الشركات والأفراد. ولذلك فان شحة الموارد الضريبية التي تشكو منها الحكومة اليونانية هي نتيجة منطقية لهذا الخلل، لكن هذا يشكل جانبا واحدا من المشكلة التي تواجهها اليونان. فتسريح العاملين في القطاع العام، وتخفيض الأجور في أغلب القطاعات الاقتصادية، وتزايد نسب البطالة التي تبلغ أكثر من 15% بدلا من زيادة فرص العمل، هذه كلها لن تأتي للميزانية العامة بأي موارد مالية. فمصدر الموارد المالية هو ارتفاع المداخيل التي بزيادتها عموديا نتيجة زيادات الأجور والأرباح وانتاجية العمل، أو أفقيا بنتيجة زيادة الاستخدام بانضمام أعدادا جديدة ومتزايدة من القوى العاطلة إلى سوق العمل. ولأنه لم تحصل على هذه البنود زيادة ذات شأن يذكر، فمن أين تأتي الموارد المالية الى الميزانية العامة التي بناء عليها تتحسن قدرتها على تسديد أقساط الدين ؟

وكنتيجة لهذا الاخفاق المركب فقد تضاءلت حوافز النمو الاقتصادي الذي انكمش بدلا من أن يتزايد، تتوجه أنظار اليونانيين من جديد إلى الدائنين لاقتراض المزيد من الأموال، حيث يتوقع أن تصل إلى حوالي 30 بليون يورو أخرى، وربما ضعف هذا المبلغ. ما تفعله اليونان حاليا، هو ما يفعله المدمنون على حبوب الهلوسة، فالشعور بالنشوة بعد كل جرعة منها لن يشعرهم بالقلق تجاه ما يجري. فديون اليونان تتضخم ولا تتقلص، وقد بلغت لحد الآن 340 بليون يورو بما فيها خدمة الدين للعام المنصرم (الفوائد على القروض).

جين- كلاود جنكر رئيس الاتحاد الأوربي يتوقع اعادة جدولة الدين اليوناني، ومع أن القرض الجديد ما يزال مجرد تكهنات، لكن الاحتمال الأكبر أن التكهنات في طريقها لتصبح واقعا، فاليونان عاجزة لحد اليوم من تسديد أقساط الدين وفق المواعيد التي حددتها رئاسة السوق الأوربي. دول السوق الأوربية الأغنى ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإن ليس بالمعنى الحقيقي للغنى، لأنها نفسها مدينة لمصارف أجنبية ومحلية، لكنها قادرة على مد اليونان بالمبلغ المشار اليه.

وللعلم فان الدول هذه قد التزمت لحد الآن بثلاثمائة بليون يورو لليونان والبرتغال وايرلاندا مجتمعة. وعلينا أن نعرف أن الدول الدائنة لم تقدم الأموال بدون ثمن، فهي في حقيقة الأمر أموالا مؤجرة لليونان ببدل يتراوح ما بين(5 - 6) يورو لكل مائة يورو في العام، وبمواعيد سداد ملزمة، وغرامات في حالة التأخر عن تسديد أقساط الدين التي لابد من الايفاء بها. وأسعار الفائدة العالية لوحدها تشكل عبئا ثقيلا على اليونان التي هي مدينة أصلا، وهي لم تتقدم بطلب القروض للترف، بل بسبب ضيق اليد في وضع لا ترغب فيه أن تحمل شعبها المزيد من الأعباء الضريبة، وما تشهده اليونان هذه الأيام من اضرابات عن العمل، وصدامات دموية مع رجال الأمن دليلا على ذلك. المصاعب الاقتصادية التي تواجه الدول الثلاث اليونان والبرتغال وايرلندا منذ بدء الأزمة المالية التي لم يكن لها فيها ناقة ولا جمل، فهي من تبعات الأزمة المالية الأمريكية التي بدأت نهاية عام 2007، تتحمل شعوب العالم أجمع منذ حوالي ثلاث سنوات أعباءها، وكان نصيب الدول النامية بما فيها دول الجنوب الأوربية الأفقر القسط الأكبر من تلك الأعباء.

دول الجنوب الأوربي الثلاث في وضع لا تحسد عليه، فهي أمام طريق شبه مسدود عند تعلق الأمر بالنمو الاقتصادي، فهذا ما يزال بعيد المنال، لأن كل الأنظار اتجهت منذ بداية الأزمة إلى العلاج (بالحبوب المهدئة) وهي هنا الاجراءات المالية والنقدية، وهذه لم تحل المشكلة القائمة، وعلى الأغلب لن تحلها. لأن المفقود هنا في حالة اليونان وايرلندا والبرتغال وربما اسبانيا وايطاليا هو النمو الاقتصادي، وهذا في حالة اليونان سلبيا وفي الدول الأربعة الأخرى يتراوح بي الصفر والواحد بالمائة، واذا لم يعالج ركود الاقتصاد اليوناني بالصدمة الكهربائية، فلن يتجاوب الاقتصاد لبريق اليورو مهما بلغ لمعانه. فما تحتاجه اليونان اليوم كما بالأمس (ليس النقود، وفصل العمال من الوظائف، واجراءات التقشف، و زيادة الضرائب على محدودي الدخل) فهذه كلها كابحة للنمو، انما المطلوب والفوري هو النقود والاستثمارات البنيوية، في الصناعات والزراعة والسياحة والقوى العاملة، وهذه جميعها لم تنل لحد اليوم نصيبها من تلك الأموال، ولا من اهتمام الحكومة اليونانية، وذلك ببساطة لأنها تعتقد مخطئة أن الأموال والاستماع إلى صندوق النقد الدولي سيعجلان في تحقيق أحلامها، لكنها لم تجن غير الكوابيس.

أمام اليونان طريق واحد لمعالجة تخلفها الاقتصادي وأزمتها الراهنة، وهو التنمية الاقتصادية المستدامة، وهذا لن يحصل قبل أن تجري اصلاحات في النظام المالي والاداري، لتسهيل انسياب الأموال نحو الاستثمار في فروع الاقتصاد المختلفة، وبالأخص في الصناعات التصديرية التي تساهم حاليا بحوالي 25 % الناتج المحلي الاجمالي، وهو الأدنى في الاتحاد الأوربي. ولأجل زيادة القدرة التنافسية للصناعات التصديرية يتطلب حفز رؤوس الأموال للاستثمار في تحديث هذه الصناعات بإدخال التقنية المتقدمة، ورفع كفاءة القوى العاملة فيها. ان احد الاسباب التي تقف وراء ازمة الدين في اليونان هو عدم اعتماد اليونان على نفسها، وهو ما يجب عليها فعله الآن، فهي منذ عدد من السنين تستمع للاتحاد الأوربي وصندوق النقد والبك الدوليان، وهذا ما جعلها مقيدة بشروطهم التي لا تخدم بالضرورة مصالح اليونان الاقتصادية.

اقتصاديون يونانيون وأجانب تكهنوا سابقا والآن إبان ظهور بوادر أزمتها الاقتصادية نهاية عام عام 2007 أن الأفضل لليونان أمام تعاظم مشاكلها المالية هو الخروج من نظام العملة الموحدة اليورو، والعودة الى عملتها السابقة الدراهما، وأن الاجراء الأول الذي ينبغي على مصرفها المركزي القيام به هو تخفيض قيمة الدراهما بالنسبة للعملات الرئيسية في العالم، اليورو والدولار والاسترليني. لكن اجراء كهذا لا تحبذه المؤسسات الدولية الدائنة، لأنه سيخفض القيمة الحقيقية لقروضهم، اضافة الى أن ذلك قد يدفع بدول أخرى لمغادرة نظام العملة الموحدة وربما مغادرة الاتحاد الأوربي بصورة كاملة، وهو الكابوس الذي لا تود دولا مثل فرنسا وألمانيا الحديث عنه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 16/آيار/2011 - 12/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م