هل أنت يساري؟

توفيق أبو شومر

أليس صحيحا أن الاشتراكية والشيوعية والأممية والكوزموبوليتية العالمية، هي نظريات ثورية، ضد طغيان رأس المال وسطوة الإقطاع، على رقاب الكادحين؟

ثم أليست الرأسمالية والبرجوازية والإقطاعية والأوليغارشية والكمبردورية، هي مصطلحات إمبريالية استعمارية تعني تسلُّط الطبقات الغنية على الفقراء والمظلومين والعاملين، لتجعلهم خدما، يُساسون بالعصا والجزرة، بعد أن تنزع منهم أسنانهم وأظافرهم؟

إن انقلابا خطيرا قد حدث في المذهبين المتناقضين، اللذين فُرِضا على العالم منذ قرنٍ مضى، الشيوعية والاشتراكية من جهة، والرأسمالية والإقطاعية من جهة أخرى.

ما يهمني من السؤالين، هو انعكاسهما على الواقع العربي، وكيف تأثر العربُ بهما، وكيف طبقوهما على الشعوب العربية.

فقد كانت النبتة الأولى لليسار العربي من جذور التيارات الاشتراكية والشيوعية في العالم، وعندما ظهرت الأحزاب العربية اليسارية ظلت ترضع الثدي الاشتراكي الشيوعي، ورُبِيَتْ أحزابنا وحركاتنا في حضانة اليسار العالمي ومدرسته الداخلية، فظهرت شعارات حزبية عربية يسارية، وظهر روّادٌ ومفكرون لتلك الأحزاب، تمكنوا من إنجاب سلالات من الأجيال العربية اليسارية، وظلت كثيرٌ من هذه السلالات، تتزاوج زواجَ أقاربٍ فيما بينها، ولم تتمكن من تأسيس فكرٍ يساريٍ عربيٍ، على مقياس العرب، وهذا التزاوج المكرر أنتجَ سلالاتٍ يساريةً مشوَّهةً، مصابةً بالعاهات والأمراض، ومن العاهات المستديمة لتلك السلالات، أن صار مقبولا، أن يستولي الحزبُ اليساري، الذي يُطالب- نظريا-  بسيادة الجماهير!! على الحكم بالقوة العسكرية وبالمجازر والمذابح – وليس بالصراع الفكري-!!  ثم يقوم بتطويع الجماهير وتدجينها، بالرعب والقتل والخوف والسجن، والنفي والطرد، ثم يُحوِّل نظام الحكم( البروليتاري)!! إلى نظام حكم أوليغارشي (وراثي ملكي أسري)، وصارت الانقلابات العسكرية من أبرز سمات هذا التيار اليساري العربي!!

وصار مشهورا أن يُفصِّل اليساريون البروليتاريون دولهم وشعوبهم كلها، على مقياس أسرهم وعائلاتهم، بحيث يولُّون على كل قطاع من القطاعات، ابنا من أبنائهم، أو أخا غاليا من إخوتهم، ويقطعونهم الأملاك ويمنحونهم الامتيازات ويحولونهم إلى أغنى إقطاعيين يسارين!! في العالم  !!

 كل ذلك مع بقاء شعارات اليسار وصور زعماء اليسار مرفوعة في الساحات العامة والدوائر الحكومية، وموزعة في نوتات موسيقية في كل وسائل إعلام دولة اليسار الوراثية الملكية الإقطاعية الرأسمالية البرجوازية!!

(حرية، وحدة،  مساواة، عدل، اشتراكية) ولا تختلف كثيرٌ من حكومات اليسار إلا في ترتيب هذه الشعارات، من منطلق التميُّز فقط!!

 وصار مقبولا أن تقوم بعض حكومات اليسار العربية، بما هو أبشع من ذلك أيضا، فهي تتولى تطهير وطنها، من أعدائها، وما أعداؤها سوى مخالفيها في الرأي، لدرجة أنها تبيح لنفسها أن تنفِّذ المجازر والمذابح ضد أبنائها أو تجعل من الوطن سجنا لهم، ثم تتولى التخلص من فسيفساء الأجناس والتيارات الأخرى، كما حدث في مذابح أكراد العراق وغيرهم، وطاردت حكومات اليسار المتنورين والمثقفين من اليساريين أنفسهم، ممن يخالفونها في الرأي.

إذن فقد تغيَّر مفهوم اليسار، ولم يعد مقبولا أن نسمي، بعض المثقفين والواعين والمفكرين، ممن حملوا فكر التنوير، وما يزالون، ولم يشاركوا في الجرائم التي نفذها بعض حكام اليسار ضد شعوبهم،(يساريين) !! فقد أصبحت تسمية اليسار بمفهومها السابق وصمة عار في جبين كثير من المثقفين والواعين!

أما كيف انتقل الرأسماليون البرجوازيون من الأشرار المستبدين، والطغاة الإقطاعيين، إلى رافعي شعارات حقوق الإنسان، ومؤسسي الحريات الاجتماعية، والمنادين بتطبيق العدالة والقوانين،  وصاروا بالقياس إلى حكومات اليسار أنصار حقوق الإنسان والحريات والديمقراطيات، وشرعوا يطاردون دول اليسار، ويُحصون جرائمها في حق شعوبها، ويطالبون زعماء اليسار فيها بالمثول أمام محاكم العدل الدولية، فهذا أمرٌ غريبٌ حقا ويستحقُّ النقاش والبحث، إنها لغة الألفية الثالثة، لغة الرأسمالية والإقطاعية والبرجوازية والأوليغارشية التي استغلتْ تكنلوجيا العصر، وسحبت البساط من تحت أقدام النظريات السياسية التي أصابها السوس، وحولت شعوبها من عصر(الأيدلوجيا) إلى عصر (التكنلوجيا)، وصارت قادرة على أن تُجرِّعنا عصير عبوديتنا، في كؤوس مذهبةٍ، ناعمة الملمس، حلوة المذاق، وتمكنت من إنامتنا بالإدمان، إدمان الطعام والغذاء والجنس، وحولتْنَا جميعُنا إلى مضيفات فاتنات، نعملُ في مركبة فضاء العولمة، نخدم السادة، ونطعمهم، ونسلي عواطفهم،  ونروّح عنهم عناء عالمهم الفضائي المُمِل، نظير أن يجودوا علينا بفضلاتهم!

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 14/آيار/2011 - 10/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م