العراق ومعضلة أمنه... ما بعد الانسحاب الأمريكي

شبكة النبأ: في الوقت الذي يقترب فيه الموعد النهائي المحدد للانسحاب الأمريكي من العراق، تظل إعادة ترسيخ قوات الأمن أهم عنصر للمهمة الأمريكية في تلك البلاد. ورغم تحقيق هذه القوات تقدما ملحوظا، لا يزال العراق في حاجة إلى هيكل أمني وطني مطور على نحو كاف، لأن الجيش ليس قادراً بعد على الدفاع عن سلامة أراضي البلاد أو الشعب، كما أن مؤسسات صُنع القرار الأمنية الوطنية للحكومة غير مطورة ولا متماسكة. إن لهذا الخلل عواقبه على استقلال وأمن العراق.

يقول باراك سالموني، تتطلب معالجة هذه التهديدات المستمرة وجود قوات عسكرية قديرة ومؤسسات محترفة. ففي ضوء بيئة العراق الأمنية المحفوفة بالمخاطر سواء الداخلية منها أو الخارجية، يعترف صناع السياسة الأمريكيون أن "قوات الأمن العراقية" تفتقر إلى المساعدة الخارجية المستمرة من الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، تبنت إدارة أوباما أسلوب "الانسحاب المسؤول" للقوات بنهاية 2011. وبقدر ما قد يكون هذا الهدف مرغوباً من الناحية السياسية إلا أنه يفرض خيارات سياسية أكثر صعوبة في السنوات المقبلة. وإذا لا تبقى الولايات المتحدة منخرطة في قطاع الأمن العراقي فإن الرئيس المستقبلي للولايات المتحدة ربما يواجَه بخيار قاس: إما ترك العراقيين لنظام عدائي يمزق نسيج الأمة أو التدخل ثانية لمنع دولة في أزمة من إشعال صراع إقليمي. إن أياً من هذين الخيارين لا يستحق الدم والمال اللذين وظفهما الشعب الأمريكي في العراق منذ عام 2003.

ونظراً للمخاطر الكبيرة يتناول هذا الملخص خمس قضايا جوهرية:

- المسار الحالي والمستقبلي المحتمل لتطور "قوات الأمن العراقية"، ودلالاتها على القدرات العسكرية العراقية.

- الكفاءة الفنية داخل مؤسسات الأمن الوطنية العراقية مع التركيز على المجالات التي يكون فيها التحسين ضرورياً بشكل خاص.

 -الاتجاهات في العلاقات العسكرية - المدنية العراقية، بما في ذلك توصيات لتسييرها بعيداً عن نماذج الماضي المختلة وظيفياً.

- القدرات العراقية المتوقعة في كانون الأول/ديسمبر 2011 في ضوء الخطط الأمريكية الحالية للتعاون الأمني فيما بعد 2011.

- خيارات جديدة لتطوير قطاع الأمن الوطني في العراق لتحقيق أهداف السياسة الأمريكية بصورة أفضل.

قدرات "قوات الأمن العراقية" وتطوير القوات

ويرى سالموني في تحليله المنشور في معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى، إن القصور الحالي في "قوات الأمن العراقية" سيظهر بسرعة لو أُجبر العراق على الدفاع عن نفسه ضد قوات تقليدية من أيٍّ من جيرانه. بل وحتى الأمر الأهم على المدى القريب هو أن "قوات الأمن العراقية" سوف تواجه صعوبة خطيرة لو هاجمت أو حيَّدت بشكل مستقل تجمعات المتمردين في العراق المحصنة جيداً. ومثل هذا الجهد سوف يبدو كثير التكلفة من الناحية المادية والبشرية بالنسبة لـ "قوات الأمن العراقية" أكثر [مما لو كان بديلها] قوة عسكرية متطورة بشكل أوسع. كما أنها ستحتاج إلى وقت أطول بكثير، ربما كثير جداً للتغلب على زخم انتفاضة محلية واسعة النطاق. وحتى وقت قريب استفاد قادة "قوات الأمن العراقية" من الدعم العملياتي الأمريكي السخي، لكن في ظل هذا الوقت من مواصلة التخفيض الأمريكي للقوات ونقلها إلى أفغانستان، فإن مظهر القوات العراقية لا يناسب دولة كاملة السيادة لها جيران مسلحون جيداً بأسلحة هجومية متطورة على نحو متزايد.

ويتابع، على الرغم من أن التوجهات الحالية في تطوير القوات العراقية لا تعكس اتجاهاً استراتيجياً واضحاً إلا أن هناك ثلاثة خيارات هي الأكثر قابلية للتطبيق في هذه اللحظة:

- الاستمرار في الطريق الذي مهدته القرارات الأخيرة التي نصحت بها الولايات المتحدة، وهي بناء جيش وقوات جوية مطورة بحيث تواجه العنف الداخلي وتعيق التسلل عبر الحدود من جانب المسلحين.

 -بناء جيش يضم أعداداً كبيرة من أنظمة الأسلحة الثقيلة والمطورة لضمان سيادة العراق وإعادة الدولة إلى وضعها الجيوسياسي الإقليمي البارز.

 -مزيج من الخيارين الأولين، أي بناء قوات عسكرية قادرة على مساعدة (أو، إذا لزم الأمر، حلول محل) منظمات تطبيق القانون في مواجهة عدم الاستقرار المحلي، مع إظهار السيادة الوطنية وقوة النظام للمواطنين العراقيين.

مؤسسات الأمن القومي

ويؤكد سالموني ايضا، لكي تعمل عناصر الدفاع الوطني لدولة ما في إطار متلاحم، يجب عليها أن تُظهر تكامل وتعاون ودعم متبادل بين المشاركين المدنين والعسكريين على حد سواء. ومع ذلك، فاعتباراً من مطلع عام 2011 لم تكن الهيئات النظامية في العراق قد طورت بعد، الوسائل أو الميل نحو، هذا التكامل والتعاون. إن هذا القصور قد أعاق بدوره الكفاح ضد العنف الداخلي وجعل شبكة الأمن العراقية سهلة الاختراق تماماً.

ومن الهيئات المسلحة إلى وزارات الحكومة، نجد أن كبار المسؤولين في "قوات الأمن العراقية" موزعون على مقرات قيادية ومراكز ومكاتب متعددة، وهو الوضع الذي كان قد أدى إلى تداخل السلطات، وحدوث تقاطع في المسؤوليات. إن هذه الكيانات ليست فقط جديدة وغير فعالة في حد ذاتها، بل إن قدرتها على تنسيق وتبادل المعلومات ما تزال ضعيفة جداً. وتحديداً، لدى قطاع الأمن الوطني العراقي مشاكل كبيرة في نطاق التخطيط وصياغة السياسة والموازنة والمشتريات وصناعة القرار بوجه عام. كما أن التنسيق بين الوزارات وسرعة الاستجابة لمدخلات الهيئات النظامية قاصرة أيضاً. إن هذه المهارات ضرورية لبناء قدرة أمنية وطنية ذات مصداقية ومستقلة ومكتفية ذاتياً. بيد، يستغرق تعلمها بعض الوقت -- للأفراد والمؤسسات على حد سواء.

العلاقات المدنية العسكرية

ويضيف، إن العراق مُثقل بإرثٍ من إقحام الجيش في السياسة، والتلاعب بالأجهزة الأمنية في فترة صدام، والمخاوف من تأثير الانتماءات الحزبية السياسية والطائفية العِرقية. وتعكس التطورات الحالية هذه النماذج؛ فخلال الأعوام القليلة الماضية على سبيل المثال، برز هيكل استخباراتي وأمني وطني ذو عدة رؤساء. وعمداً، تعمل عناصره الفردية ضد بعضها البعض، أو على الأقل بتجاهل متبادل. ويتوافق هذا الهيكل مع التوجه الفكري للقادة العراقيين التي أدت خلفياتهم من المعارضة السرية وعدم الثقة أثناء العهد البعثي إلى بث الحيوية في العلاقات المدنية العسكرية هذه الأيام.

وربما يرى هؤلاء القادة أن تسييس إدارة "قوات الأمن العراقية" هي استراتيجية فعالة للحفاظ على وضعهم الشخصي والحزبي، وفي الوقت نفسه وقاية أنفسهم من أية انقلابات محتملة. غير أن هذا الأسلوب يُعرِّضهم هم وكذلك تماسك العراق نفسه إلى الخطر. وهناك عدة سيناريوهات محتملة لتدخل الجيش في السياسة على مدى العقد المقبل، بما في ذلك درجات متنوعة من الانقلاب (على سبيل المثال، يمكن أن يقوم الجيش بدعم مجموعة واحدة من القادة السياسيين ضد خصومهم أو أن يسقط كلية القيادة المدنية). لذلك، يبقى تسييس قدرات الجيش تحدياً تنموياً جوهرياً في قطاع الأمن الوطني العراقي مما يتطلب اهتماماً متواصلاً لضمان ولاء القوات للمؤسسات التي تخدمها وليس للأفراد أو الأحزاب السياسية أو الهويات الأصلية.

"شراكة مسؤولة" بعد 2011

ويشير سالموني، تنوي الولايات المتحدة سحب جميع قواتها العسكرية من العراق بحلول كانون الأول/ديسمبر 2011، إلا إذا طلبت بغداد غير ذلك ووافقت واشنطن على الطلب. إلا أن المشاكل المستمرة في قطاع الأمن الوطني في العراق -- وهي بناء القوة غير المكتمل وعدم الكفاءات الفنية داخل مؤسسات الأمن الوطني والعلاقات المدنية العسكرية المختلة وظيفياً -- تمثل تحديات لخطة انسحاب واشنطن المسؤولة مما يستلزم إعادة تقييم الإطار الزمني لانسحابٍ كامل.

إن هيكل الأمن القومي في العراق هو جديد إلى حد كبير ويشغله قادة ضعيفي الخبرة نسبياً. وعلاوة على ذلك، على الرغم من مشتريات الأسلحة الأخيرة، لن يكون العراق مكتفياً ذاتياً في قدراته الدفاعية بحلول كانون الأول/ديسمبر 2011 -- مما يعني أن حماية حدود البلاد ومجالها الجوي سوف يتطلب مساعدة من قوات مسلحة لبلد آخر. وبالمثل، إذا قامت "قوات الأمن العراقية" بدمج أنظمة الأسلحة الجديدة بصورة مجدية فسوف تحتاج إلى مساعدة من أعداد كبيرة من الأفراد الأجانب الذين من المرجح أن يكونوا أمريكيين. ولذلك فإن الحالة المخطط لها لـ "قوات الأمن العراقية" بحلول نهاية العام لها دلالاتها على مدة ونطاق الأنشطة العسكرية الأمريكية في العراق.

ومع الانتقال إلى "عملية الفجر الجديد" في آب/أغسطس 2010، يقع الكثير من العبء الأمريكي في بناء وإصلاح قطاع الأمن العراقي على وزارة الخارجية الأمريكية وسفارة الولايات المتحدة في بغداد، وخاصة بعد 2011. ومن المتوقع أن تعمل وزارة الخارجية على مستوى عالي من النشاط في بيئة شبه متساهلة، وفي مجالات لديها فيها القليل من الخبرة. ويفرض هذا التوقع الكثير من التحديات فيما يخص القدرة والفاعلية والرقابة.

وتشير كل هذه الاعتبارات إلى استحسان وجود عسكري أمريكي متبقي في العراق بعد عام 2011. وبالإضافة إلى ضمان الأمن الداخلي ومنع التدخل الأجنبي، فللولايات المتحدة مصالح مهمة متعددة في شبه الجزيرة العربية الأكبر ومنطقة الخليج العربي اللتان تؤثران على الشرق الأوسط الأكبر ككل. وتشمل هذه المصالح الحفاظ على استقرار الدولة، والتحكم في الصراع بين الدول، والحد من انتشار الأيديولوجيات المتطرفة عبر الدول، وكذلك انتشار أدوات العنف المادية والبشرية المساعدة، وضمان حرية الحركة لموارد الطاقة، ومنع الانتشار النووي الإيراني. وإذا أصبح العراق غير مستقر أو عدوانياً بسبب مؤسسات الأمن الوطنية المُسيسة والمختلة وظيفياً، فحينئذ ستتعرض المصالح الأمريكية إلى الخطر على جميع هذه الجبهات. وعلى هذا النحو، ينبغي على واشنطن أن تتبع نهج "الشراكة المسؤولة" في التخطيط لعلاقتها الأمنية المستقبلية مع بغداد.

وتحديداً تستلزم الشراكة المسؤولة وجوداً عسكرياً أمريكياً بعد عام 2011 يتم سحبه مرحلياً بناء على مدى استعداد العراق. إن المد المرجَّح لمهمة القوات الأمريكية في العراق لعدة سنوات -- بحيث يكون هناك وجوداً صغيراً ولكن ذو مصداقية، كأن يكون أقل من 10000 فرد من العسكريين، ولكن بعدد أكبر مما تتصوره واشنطن حالياً "من عشرات إلى مئات" -- سوف يسهم في تعزيز دفاع العراق، وفي الوقت نفسه سيراقب عن كثب مهمة تدريب وتقديم المشورة التي تمتد لتشمل القوات الميدانية والوزارات. وستكون هناك أيضاً مشاركة لمقاولات ذات عقود متوسطة الحجم. وبمرور الوقت سينسحب الأفراد والوحدات العسكرية الأمريكية لتحل محلها القدرات العراقية، بينما يمكن بقاء المقاولين لمواصلة التدريب والصيانة.

الخلاصة

ويختتم باراك سالموني تحليله قائلا، بالنظر إلى أهداف أمريكا في العراق والشرق الأوسط، ينبغي لصناع السياسة [في الولايات المتحدة] إعادة التفكير في حجم ووظائف الوجود الأمريكي في قطاع الأمن العراقي لما بعد 2011، وتشجيع الحكومة الجديدة في بغداد على دعم شراكة مسؤولة. ومن شأن هذا النهج أن يمدد إلى حد ما الجدول الزمني لمغادرة [القوات] الأمريكية، مع تركيزه على مساعدة العراق في ضمان وجود دفاع خارجي وأمن داخلي وبناء "قوات الأمن العراقية" كقوة ذات سيادة، ومواصلة تطوير مؤسسات البلاد الأمنية الوطنية.

ويضيف، كما أن الشراكة المسؤولة تستلزم كذلك تشجيع دول منظمة حلف شمال الأطلسي ["الناتو"] على الحفاظ على انخراط قوي في هذه العملية التنموية، مما يحد من العبء الذي يقع على كاهل الولايات المتحدة. كما أن أي مشاركين من "الناتو" سيستفيدون من عشرين عاماً من خبرة التحالف في تسهيل -- وفي بعض الحالات تحمُّل -- إصلاح القطاع الأمني وخاصة فيما يتعلق بالكفاءة المؤسساتية، والإصلاح التشريعي، والسيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية، واستخدام الجيش للأمن الداخلي.

إن المشاركة والتأثير كما يتصورهما هذا الأسلوب مهمان لضمان المصالح الحيوية الأمريكية. فلو عانى العراق من فجوات في قدرات الدفاع الوطني فسيظل عرضة للعنف والمكائد والنفوذ المفترس من جيران يعملون ضد الاستقرار الإقليمي. وبالعكس، فلو أدت علاقات العراق المدنية - العسكرية وسياساته الأمنية إلى إحياء سنوات ما قبل 2003 فبإمكانها أن تفترس مواطني العراق وجيرانه. ومثل هذه التطورات يمكن أن تدفع العراق نحو حرب طائفية - عرقية وتمزقٍ، مما يصعِّد بشكل كبير من التوترات الإقليمية. إن ذلك يشكل مشكلة على نحو خاص في عصرٍ يتسارع فيه اكتساب الأسلحة، وهو الأمر بالنسبة للتطلعات النووية الإيرانية. وباختصار، إذا لم تُعِد واشنطن التفكير في طبيعة وتوقيت خطة انسحابها، فقد تواجه قريباً سيناريوهات تقلل بشكل كبير من نفوذ الولايات المتحدة في العراق، وتضر بالمصداقية الأمريكية بين الشركاء الإقليميين، وتُشجع المنافسين الإقليميين.

نبذة عن معهد واشنطن

الجدير بالذكر ان معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بحسب موقعه الالكتروني أسس عام 1985 لترقية فهم متوازن وواقعي للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. وبتوجيه من مجلس مستشارين بارز من كلا الحزبين من اجل توفير العلوم والأبحاث للإسهام في صنع السياسة الأمريكية في هذه المنطقة الحيوية من العالم.

وينقل موقع تقرير واشنطن الالكتروني إن الهدف من تأسيسه كان دعم المواقف الإسرائيلية من خلال قطاع الأبحاث ومراكز البحوث وان لجنة العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية المعروفة بإيباك كانت المؤسسة الأم للمعهد حيث أن مديره المؤسس هو مارتن إنديك رئيس قسم الأبحاث السابق باللجنة. وتزعم المنظمة أنها اختارت مصطلح "الشرق الأدنى" لتعريف الهوية الذاتية للمعهد (بدلا من "الشرق الأوسط) لأنه المصطلح المعترف به في الخارجية الأمريكي لوصف العالم العربي والدول المجاورة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 12/آيار/2011 - 8/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م