الانسان والحرية هما الكفة الراجحة في الوجود الانساني بأسره، هما
كفة الصراع من أجل اثبات الذات الفردية والجمعية عند الجماعة او
الشعوب. الحرية عند الانسان صراع، نضال، جهاد، مواجهة وقبول واحيانا
خضوع ورضوخ لينتهي في الاخير بنتيجة هذا الصراع قبل الوفاق وصراع بعد
الوفاق، اذن الصراع تواصل لاتقاتل، الصراع هو محرك هذا الوجود ولايقصد
به إلا الاعتراف المتبادل.
يقول الاستاذ الدكتور فرج احمد فرج رحمه الله إن المستبد أو
الدكتاتور كائن فاقد لإنسانيته،إنه أسير ضرب من الانا وحدية من العزلة
والانغلاق النرجسي حول ذات يستحيل أن تتواجد إلا من خلال آخر.
ان حكام الانظمة العربية عبر عقود من الزمن رفضوا فكرة حق كل مواطن
مسؤول مسؤولية مباشرة عن ما يعتنقه من عقائد وما يتخذه من مواقف،
واستبعد هؤلاء الحكام حرية الانسان بالاختيار بل أمنوا بفكرة املاء تلك
المواقف او السياسات على الاخرين املاءا جبريا حتى جعلوا الانسان
العربي ان يتنازل عن قدر من حريته حفاظاً على بقاءه او تجنباً لاذاهم
او تحاشيا لبطشهم لا ليس الامر كذلك فحسب خصوصا عند بعض الحكام
الدكتاتوريين المتأصلة بهم روح الشخصية السيكوباثية المضادة للمجتمع
وهم الجميع بلا استثناء من الحكام العرب فعاش الانسان العربي خلال تلك
العقود ومازال يعيش حالة الاحتراق النفسي في كل مفاصل الحياة : في
البيت مع اسرته، في العمل، في التعامل مع الاخرين في المجتمع، حتى لبس
اكثر من قناع في مواقف الحياة المتعددة لكي يرضي ازلام السلطة ابتعادا
من بطشهم لذلك غاب الآخر في دواخلنا اما خوفا منه او تجنبا لعواقب غير
متوقعة من بطش اجهزة الانظمة التي روعت وعي الناس حتى اهتزت صورة
الوطنية عند بعض الشعوب كما هو الحال لدى العراقيين.
ان التغييرات التي تأخرت كثيرا بسبب سادية الحكام العرب واجهزتهم
القمعية حتى حاولوا ان يخلقوا النمط السادومازوخي عند معظم الشعوب
العربية لكثرة الضغوط وخلق الازمات والاختلالات في تركيبة المجتمعات
العربية وساد الشعور الجمعي عند المواطن العربي من الخوف من الظلام
لوجود اجهزة النظام التي تخطف الانسان العادي والمفكر والاديب والفنان
والطبيب والمعلم والاستاذ الجامعي والبائع بلحظة غير مرئية من الزمن
ولا نغالي اذا قلنا انها اصبحت استجابة شرطية لدى معظم شرائح المجتمع
في البلاد العربية واقتران ذلك بالسكوت خوفا من الاختطاف الى الظلام
وبدون آجل مسمى، هذا الخوف ولد عقدة لدى الكبار واصبح استجابة مشروطة
عند الاطفال لما عايشوه في ادق تفاصيل حياتهم ومع اسرهم لذا قاد هؤلاء
الذين كانوا اطفالا يوما ما شرارة الثورة وهم شباب حتى انها سميت
بانتفاضات الشباب في البلاد العربية، انهم بحثوا عن الحرية اولا،
الحرية في حياة بسيطة مع توفير الطعام وضمان المستقبل فلم يجدوه وهم
شباب فعرفوا اقدار الناس الذين سبقوهم وحظوظهم فلم يرضوا ان يكونوا
فقراء ازاء الثراء لدى البعض، العبودية لهم والسيادة لشلة الدكتاتور
واعوانه، رفضوا صراع الطبقات وقبلوا صراع السلطة فتصدى هؤلاء الشباب
بهمومهم واحزانهم بالانتفاضات وقادوا جيلا من الشباب معهم..
إذن الانتفاضات أخطر ما عرفته المجتمعات العربية خلال نهاية العقد
الاول من القرن الحادي والعشرين وحتى الغد القريب من هذا القرن. هناك
ظلم وقهر واستبداد واستغلال للانسان العربي ولايمكن لهذا الانسان ان
يكف عن حلمه في بناء مستقبله، حلم المساواة في فرص الحياة، حلم العمل
والحصول على الطعام، حلم ان يكون انسان بما هو انسان.
ان من نتائج سياسات الحكام العرب الدكتاتورية هي بروز الشك والغضب
والتفكك الاجتماعي بين الجماعة وضعف واضح في البنيان الاجتماعي هذا كله
بسبب الازمات التي خلقها الحكام العرب بتسلطهم الدكتاتوري وعلم النفس
غني بدراساته عن الشعوب التي خضعت لسنوات طويلة للانظمة المتسلطة وكيف
افرزت شخصيات مختله في تعاملها لذا عندما يختل التوازن او يضطرب تختل
حركة المجتمع وتضطرب حركة التاريخ ويختل ايضا توازن الفرد ذاته وتوازنه
النفسي والعقلي كما يقول د. فرج احمد فرج وقوله ايضا لانبالغ كثيرا إذا
ما نظرنا إلى اختلال حركة المجتمعات والتاريخ والافراد ايضا من هذه
الزاوية.
لمَعَتْ الانظمة العربية الدكتاتورية عبر اكثر من ستة عقود لغتها
تارة بالوطنية وتارة اخرى بالاشتراكية وتارة بالدين وتارة بالقطاع
العام وتارة بالحياة السياسية الحزبية حتى انتهت الى الحزب الواحد
الشمولي الذي لايقبل رأي آخر ورئيس الحزب هو رأس الدولة وهو الدكتاتور
المتنفذ بالسلطة مع اسرته او شلة من حوله. حقا قاد هذا التلميع
والانتقال بالتدريج من حق الشعب الى حق الاسرة والشلة الحاكمة وهو بسبب
صمت الشعب امام حاكم فرد استعمل كل اساليب الترهيب والتصفية والترغيب
ودفعت الجماهير الثمن بدمائها ثمنا باهضا ومنه الشعب العراقي والان
الشعب الليبي وغيره.
ان الحاكم الفرد يبطش مقابل شعب يسكت، شعب يؤثر السلامة حتى وان دفن
رأسه في الرمال ولكن التساؤل هو: لماذا يبطش الحاكم واجهزته القمعية
بالشرفاء؟ وماذا يريد النظام الدكتاتوري من الشرفاء؟
انه لايخاف من المتملقين والمتسلقين لانها مادته الخام وهم آجلا او
عاجلا سيصبحون الشلة المقربة منه التي تنشر فكر السلطان الفاسد لكي
يحافظ هذا السلطان على التوازن داخل نظامه بخلق قوى فاسدة، ويتمنى ان
يكثر الفاسدون في كل مرافق الدولة وكانت التجربة التونسية والمصرية في
ادارة الحكم مثالا مميزا وسبقتها قبل ذلك تجربة العراق وما آلت اليه
الامور حتى غدا اعظم دولة بالعالم لا بالتكنولوجيا او بالابداع الفكري
الصحيح ولكن بالابداع في كل مجالات الفساد حيث طغى الفساد المالي
والاداري على كل سلوك فردي وجمعي،حكومي او شعبي.. انها نتاج الحكم
الدكتاتوري المتسلط.
ان الشرفاء لايخافون الحقائق ولايخافون الالم او يعجزون امامه، انهم
يعلمون ان مواجهة الظلم والتسلط والدكتاتور تحتاج الى وقفة كما وقفها
سبارتاكوس قبل الميلاد من اجل العبيد ووقفها السيد المسيح "ع" وحمل
عذابه نيابة عن البشرية وكما فعلها الامام الحسين "ع" الثائر بوجه
الظالم والطاغية يزيد امبراطور الشر في دولة الامويين والشواهد كثيرة
عبر التاريخ القديم والحديث.
ان ثورات الشعوب العربية اليوم هي ثورات ضد الدكتاتورية وانظمتها
الفاسدة وهي تهدف وتتطلع اولا واخيرا الى طلب العدل وبمعنى ادق نصيب
عادل من حرية القول بلا خوف او الحرية الاجتماعية للمجتمع بدون تسلط
تلك الصفوة من ذئاب السلطة.. هذه الذئاب التي حولت حلم الانسان البسيط
في حرية العيش في بلده الى كابوس من القهر والاستبداد وسرقت جهده وعمله
وقوته اليومي وفائض انتاجه مرة بالتبرع للمجهود الحربي ومرة لبناء
الامة ومرة بدعم الاقتصاد الوطني ومرة بدعم التقدم العلمي ومرة
بالتأميم واخيرا لضمان الاجيال القادمة حتى اختزل الدكتاتور جزءا من
عمر الشعب وانتاجه وعمله لصالحه ويصرح لأخر لحظة في ايام حكمه جميعنا
شركاء في السراء والضراء، في الخير والشر ولم تتراجع شعارته ابدا حتى
طمست الحدود بين الوطنية والذاتية المحظة وضاعت معالم الطريق.
* استاذ في الاكاديمية الاسكندنافية
الامريكية، متخصص في علم النفس
[email protected] |