وخزة ضمير لحياة افضل

في ذكرى رحيل الفقيه الشيرازي

محمد علي جواد تقي/مؤسسة الفقيه الشيرازي الثقافية

ما الذي يدفع الانسان للقيام بهذا العمل وترك ذاك، او اتخاذ موقف معين دون غيره؟ هل هي القيم والاحكام الدينية؟ أم التشريعات القانونية؟

نعم؛ من البديهي ان يلتزم الانسان المؤمن بسلسلة من الضوابط الدينية في مجال الاخلاق والاحكام طالما يعد نفسه مسلماً ومؤمناً، لذا لا يسعه الجواب إلا بالإيجاب إن كان يصلي او يصوم او يحسن التصرف مع الآخرين، في جانب آخر نجد التشريعات القانونية المدونة بيد الانسان نفسه، تنظم حياة هذا الانسان، وتبين ما له وما عليه في المجتمع، وتضمن حقوقه في الامن والحرية وغير ذلك، إذن؛ فهو يلتزم بها خوفاً من العقاب او طمعاً بالحساب والمصالح.

لكن بما ان الارادة تحتل حيزاً كبيراً في تكوين الانسان، نجد ان كل تلكم الدوافع والالتزامات الدينية منها والقانونية ربما لا تواكب حياته بشكل كامل، او لنقل بان المسألة نسبية وليست هنالك تكاملية، إلا في حالات نادرة نجدها في اشخاص ارتقوا سلّم التكامل والسمو الانساني.

 أما الآخرين – ونحن منهم طبعاً- فعلى الاغلب قد نكون متهربين من المسؤولية والالتزامات بذرائع وحجج مختلفة. لكن هذا لايعني أن لا نكون ممن يحاول ان يرتقي السلّم نحو التكامل، إذن؛ فما هي الخطوة الاولى؟ وكيف يوجه الانسان ارادته لعمل الخير واتباع طريق الحق ليكون ممن يسير في طريق التكامل والسمو؟

من يتابع افكار و رؤى الفقيد السعيد سماحة آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) من خلال محاضراته او ما تحول من هذه المحاضرات الى كتب مصنفة موضوعياً، يجد حرصاً بالغاً من هذا الفقيه المقدس لتسليط الضوء على الضمير الانساني ومحاولة حثّه واستنهاضه ليكون عاملاً مساعداً لسلوك جادة الصواب، ولعله (قدس سره) عرف بحكم قربه وارتباطه الوثيق بالمجتمع وافراده، السر وراء غياب الالتزام الديني وتراجع القيم الاخلاقية أمام القيم المادية، فوجد أن لامناصَ من (وخزة ضمير) لمساعدة صاحبه على مراجعة حساباته في تعامله مع نفسه اولاً ومع الآخرين، ثم مع الله تعالى، هذا اذا كان حقاً يخشى العاقبة السيئة ويطمح لتغيير نمط حياته الى الافضل.

اننا غالباً ما نتوقع (وخزة الضمير) من المذنبين والمنحرفين، لعلنا نتخلص من تصرفاتهم الطائشة والمضرة بالصالح العام، في حين تدعونا الرؤية الشمولية والشفافة لفقيدنا الغالي الذي نعيش هذه الايام الذكرى المرّة لرحيله، الى الالتفات بجد الى ان كل واحد منّا ربما يكون بحاجة الى هذه الوخزة بدون احراج او خجل! تكون بمنزلة جرس انذار او تذكير لئلا ننحرف ذات اليمين او ذات الشمال، وسواء من يكون منّا كاسباً في السوق او طالب علم او ربّ اسرة او مسؤول حكومي او حتى عالم دين، واجد نفسي مندفعاً جداً للإشارة الى أعلى مرتبة قد يصلها الفرد في المجتمع وهي مرتبة مرجع الدين الذي روى سماحة الفقيه المقدس حكايته – دون ان يذكر اسمه- بانه اثناء مواصلته سلسلة مطالعات حول أمور وصفها بانها (بعيدة) وكيف ان ذلك العالم الكبير تلقى نداءً خفياً وصارخاً أن (الى اين انت ذاهب)؟!!

أما عن سائر افراد المجتمع فان الفقيه المقدس يروي حكايات من الماضي القديم والحديث عن اشخاص نجوا بأنفسهم عندما لبّوا نداء الضمير مثل (مالك بن دينار) ذلك اللص الشهير في التاريخ الذي سمع قارئ القرآن الكريم يتلو الآية الكريمة "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" (الحديد /16)، وكان في هذا الحال على جدار احد البيوت ليمارس مهنة السطو والسرقة، لكنه نزل فوراً واعلن توبته الشهيرة التي ظلت مضرباً للأمثال.

ومن الواقع الذي نعيشه اليوم، يستشهد الفقيه الشيرازي بحوادث مروعة وقعت في مجتمعنا الاسلامي ذهب ضحيتها اطفال بسبب غياب الضمير، ولو ان صحوته وعودته تأتي دائماً متأخرة ويكون من المستحيل تعويض ما حصل. مثل ذلك الاب الذي أوسع ابنه الصغير ضرباً مبرحاً على يده التي عبثت بمقعد وثير وثمين اشتراه حديثاً، وتسبب الضرب بإتلاف يد الطفل وكانت النتيجة ان بتر الاطباء اليد لعدم امكانية معالجتها، او ذلك الأب الذي القى بابنه الرضيع على الارض لأنه ازعجه ببكائه ولم يسكت، وبعد لحظات من صحوة الضمير وجد ابنه الطفل البريء وقد فارق الحياة على وجه الارض.

ان مسألة الضمير والوجدان غاية في الاهمية في شخصية الانسان المؤمن، فعند هذه النقطة الحيوية تلتقي معظم الصفات الاخلاقية، فان كان يقظاً وحيّاً تحيا عنده الصفات الحسنة والخصال الطيبة، مثل العطاء والعفو والصدق والامانة واحترام الآخرين وغيرها كثير، أما اذا كان الضمير والوجدان مغيباً او ميتاً – لا سمح الله- فان نفس الانسان بالضرورة تكون ملتقى الصفات السيئة مثل الكبر والبخل والخيانة والجنوح نحو الاعتداء على حقوق الآخرين بكل الاشكال. وقطعاً هذا السلوك السيء مع المجتمع ينعكس فوراً على سلوك الانسان بخالقه وربه، فيتراجع الشكر والصبر والخوف من المعصية وغيرها مما يهدد صاحبه بعاقبه وخيمة.

وبما اننا نستذكر فقيدنا الغالي في ذكرى استشهاد سيدتنا ومولاتنا الصديقة الزهراء عليها السلام، يجدر بنا الاشارة الى ما اشار اليه بقوة وفي كثير من محاضرات الفقيه الشيرازي بان شخصية الزهراء عليها السلام، إنما هي نموذج متكامل للشخصية المؤمنة سواء الرجال منهم او النساء، منذ حياتها وحتى تقوم الساعة. فقد كانت خطبتها المدوية المعروفة بـ (الخطبة الفدكية) مصداقاً لـ(وخزة الضمير) ليس فقط للمسلمين الذي كانوا في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المدينة في تلك اللحظات التاريخية العصيبة، إنما لكل مسلم غيور على دينه ومبادئه، ففي هذه الخطبة استنهضت الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، وهي تحمل كل ذلك الجرح الغائر في جسدها ونفسها، لكنها تجاوزت آلامها لمصلحة المجتمع الاسلامي ورفعته وعزته حتى لايشهد انتهاكات وتجاوزات كالذي حصل بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله). وما أحوجنا جميعاً لمراجعة تلك الخطبة العصماء والبليغة والغنية بالمفاهيم والدلالات العميقة.

لقد عرفت الزهراء عليها السلام، المسلمين والعالم على طول الخط، بان ما قام به والدها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، إنما كان نهضة حضارية عارمة وشق طريق مستقيم للإنسان يؤدي به – ان أحسن التصرف واستقام على الطريق- الى السعادة في الدنيا والاخرة.

وهذا ما يجعلنا نربط دائماً بين ذكرى رحيل الفقيه الشيرازي وبين ذكرى رحيل الصديقة الطاهرة عليها السلام، ولطالما أكد على إحياء الايام الفاطمية بإقامة المجالس او المشاركة فيها او مطالعة حياة الصديقة الطاهرة ثم الاقتداء بها، وطالما عدّ سماحته الارتباط بالزهراء عليها السلام بمنزلة الضمانة التي تنقذنا من المهالك والازمات في هذه الحياة.

ان تأكيد سماحته على مسألة المظلومية في حياة الصديقة الطاهرة، لاسيما قضية مجهولية القبر الشريف، هو بالحقيقة استنهاض وحثّ شديد على إبقاء الضمير المسلم حيّاً يقظاً ومرهفاً، فهذا الضمير وهو تعبير آخر للفؤاد او القلب، اذا تراكم عليه الصدأ والغبار والشوائب، فانه من الصعب جداً عليه رؤية الحقائق وتحسس القضايا مهما كانت عظيمة ومقدسة.

لقد أكد الفقيه الشيرازي على اقامة المجالس الفاطمية والحسينية في البيوت حتى وان كان بحضور عدد قليل، أو كان بحضور افراد العائلة فقط، ومن أجمل ما سمعته حقاً منه (قدس سره) ذلك التصوير عن مدى تأثير الدمعة الساخنة التي تنهمر من عيون الكبار أمام الاطفال الصغار في البيوت... فتلك المجالس المثمرة والمباركة، هي وسيلة فعالة لمراجعة انفسنا ومحاسبة نمط حياتنا ومراقبة سلوكياتنا وبالتالي بناء شخصية سوية وذات سليمة لنا ولأبنائنا.

ان أهل البيت مدرسة تربوية عظيمة حقة لذا علينا ان لا نفوت الفرصة وننشغل بما لا يغني ولا يقدم لنا شيئاً سوى اللهو وضياع الوقت. لأن الحياة بمرور الزمن تزداد صعوبة وتعقيداً، وبموازاتها يزداد الالتزام الديني والاخلاقي صعوبة، لكن وجود رموز عظيمة ومشاعل نيّرة الى جانبنا يبقي الضمائر حية ويهوّن علينا كل الصعاب والمستحيلات، ويقودنا نحو حياة مستقيمة سعيدة ومزدهرة ومباركة.

* مؤسسة الفقيه الشيرازي الثقافية

http://mr-alshirazi.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 10/آيار/2011 - 6/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م