شبكة النبأ: قضية قتل رمز الارهاب ما
بعد الحداثوي بن لادن تجسد دراما الدور الغربي في كتابة الكثير من
القصص المأساوية في القرون الاخيرة من الاستعمار والحروب العالمية الى
الحروب النووية ودعم الانظمة القمعية والاستبدادية وتكريس الفقر
والعنف.
فمنذ بواكير الموجة الفكرية ذات النهج المدني، حاول المفكرون في
مدنهم الفاضلة أن يقدموا للانسانية نموذجا أمثل للعالم، ولم يتراجع
العقل عن الاصرار المتواصل لتحقيق هذا الحلم، حلم بناء العالم المثالي
الذي يخلو من العنف والعنف المقابل، والذي تسوسه التفاهمات وتقوده
الحكمة، وتزدهر فيه نفحات السلام، وتُحترَم فيه العقول الاخلاقية التي
يحتاجها الانسان في الراهن والمستقبل معا.
هكذا كان مفكرو ما قبل التأريخ وما بعده، في طروحاتهم الفكرية،
يسعون قُدُماً نحو بناء العالم النموذجي، بالتوازي مع الصراعات
العقائدية والفكرية عموما، بمعنى أن العالم ما قبل التأريخ كان يضج
بالصراعات الدموية بين الامبراطوريات التي كانت تسعى للقضاء بعضها على
البعض الآخر، ودائما كان الدافع هو إثبات الذات والأفضلية لهذه
الامبراطورية على تلك، أو لهذا الجنس البشري على ذاك، ولم يكن الصراع
ذا طابع فردي، بل كان جماعيا أمميا إذا جاز الوصف.
في عالمنا اليوم، عالم الحضارة والمدنية الغربية كما يُطلق عليه، لم
يستطع المفكرون والفلاسفة من صنع العالم المثالي المتحضّر كما يحلم به
الانسان السوي، فقادة الغرب الذي يتصدر حضارة العالم المعاصر، يدَّعون
بأنهم الأفضل والاقدر على تمدين الارض وسكانها، لكن الإشكالية التي
تبقى قائمة وشاخصة أمام الجميع هي غياب المعايير المبدئية التي تحدد
صحة مثل هذه التوجهات الغربية من عدمها!! ومثالنا على ذلك أن الغرب
تعامل مع طغاة في الشرق الاوسط وحافظ او ساعد أنظمة حكم معروفة بقمعها
وفرديتها وطغيانها كما هو الحال مع نظام مبارك المخلوع أو نظام البحرين
الذي استخدم أبشع وسائل الترهيب والقمع ضد شعبه، وتحالف الغرب مع
النظام السعودي بؤرة الارهاب التكفيري الذي يصدر الى كثير من دول
العالم ماليا وبشريا، لكن الغرب مع كل هذا القمع والتجاوز على الحقوق
المدنية للشعب البحريني، لا يزال يعتبر النظام الوهابي حليفا له.
ان النظام الذي يفتقد للمعاير الانسانية الثابتة في التعامل مع
الانظمة القمعية، لايصلح أن يقود العالم وهو غير مؤهل لكي يبني عالما
متمدنا يقوم على السلام والمحبة والتعايش، والسبب بسيط جدا، أن الغرب
وامريكا تستميت من أجل أن تبقى متسيّدة وقائدة للعالم حتى لو سادت لغة
العنف والدماء وملأت الارض كلها، إذاً نحن (العالم) نحتاج الى حَكَم
مؤهل للتحكيم بين الجميع، وفي هذا الصدد لابد أن نطرح الاسئلة التالية
على أمريكا والغرب عموما.
أول هذه الاسئلة، هل سأل قادة أمريكا أنفسهم ذات يوم لماذا هذا
العداء العالمي ضدهم، وهل سألوا أنفسهم لماذا يتخذون من العنف مسارا
لتحقيق أهدافهم بغض النظر عن الضحايا او الخسائر المترتبة على ذلك، وهل
تعتقد أمريكا أنها قامت بما يكفي لمعرفة حاجات وأفكار وعقائد الشعوب
والامم الاخرى، وهل جرّبت أن تتعامل مع هذه الجوانب بطرق تنحو الى
السلم أكثر من العنف؟.
أسئلة كثيرة بعضها يلد البعض الآخر في ظل صمت أمريكي وتغاضي وغطرسة
لا تحفل بآراء الآخرين، علما أن الساسة الامريكيين لو أخذوا برأي
المفكر الغربي هوارد غاردنر صاحب كتاب (خمسة عقول من أجل المستقبل)
واتفقوا معه على أهمية العقل الاخلاقي للعالم (هذا العقل الذي يفضِّل
مصلحة الآخرين على مصلحة الذات) لوصلنا حتما الى صنع العالم المثالي،
لكن الاشكالية تكمن في عدم فهم الساسة الامريكان بأن العالم لا يقوم
على الافراد، ولن يتوقف مصير العالم على فرد بعينه حتى لو كان قائدا،
بل الافكار وتقاطعاتها بين الامم.
بمعنى أن رحيل الفرد حتى لو كان موقعه قياديا لن يؤثر كثيرا على
طبيعة ما يجري من صدامات بين العقائد والافكار وسواها، والسبب بسيط
جدا، أن الفكر والعقائد التي كان هذا القيادي او ذاك يتحرك وفقا لها قد
تبقى قائمة حتى بعد رحيله، لهذا ليس صحيحا أن يتم التعامل مع أفراد
حول مصير العالم، بل الصحيح هو أن يتم التعامل مع أفكار وعقائد وطروحات
لاتزال قائمة حتى بعد رحيل قادتها، هذا يتطلب من الغرب الذي يتصدر
الحضارة أن يبني العالم المطلوب ليس على أساس التعامل مع الطغاة
بمكيالين، ولا على أساس تخطئة الآخرين كليّا، وفرض النموذج الغربي
باعتباره الأمثل والأصح من بين جميع النماذج، بكلمة أوضح لابد لقادة
المدنية الجديدة أن يؤمنوا بالتنوع والتسامح والتشارك ومنح الفرص
المتقاربة لجميع سكان الارض.
وهذا هو دور الغرب وامريكا باعتبارها تقود العالم الآن، ولابد أن
يعرف قادتها ويؤمنوا بأن منهج القوة لا يبني عالما مثاليا ولن يضمن
لأمريكا صدارة أبدية لقيادة العالم كما يظن قادتها، لهذا لن يكون
العالم أفضل إلا إذا تم التعامل مع المناهج والافكار والعقائد للامم
كافة، في ظل قواعد التكافؤ وحرية التعبير واحترام الرأي الآخر وسيادة
حوار العقل الاخلاقي، وتحريم منطق العنف والقوة، والابتعاد عن منهج
السوبر مان الغربي.
ولاشك ان العالم سيكون افضل واكثر امانا بعد القضاء على صدام وبن
لادن والقذافي (الذين كانوا صناعة غربية بامتياز كما يعتقد كثيرين)،
ولكنه سيعود خطرا مادامت الانتهازية الغربية القائمة على ايدلوجية
احتقار الشعوب الضعيفة، ستقوم بصناعة ادوات ارهابية وقمعية جديدة
لتكريس صدام الحضارات وتأزيم العلاقات الانسانية وخلق المزيد من بؤر
التوتر للحفاظ على مصالح الرأسمالية الاستعمارية الضيقة.
العالم سيكون افضل حين يتم اجتثاث بؤر الارهاب والتوتر والتأزيم
والتكفير والفساد، وصناعة انظمة شعبية قائمة على مبادئ تكافؤ الفرص
والعدالة والانصاف. |