ليبيا بعد العراق

تعود إلى ما قبل الثورة الصناعية

علي الأسدي

تزداد ضبابية يوما بعد يوم صورة الديمقراطية التي حلمت بها جماهير الليبيين، عندما خرجت بالآلاف إلى الشوارع والساحات تطالب بها، لكنها أحرقت أمام أنظارهم قبل أن تكتحل بها عيونهم. كلنا اطلعنا على القرار رقم 1973 الذي صدر من مجلس الأمن، وباشر بتنفيذه في بداية الأمر تحالف غربي تطوعي، ثم أطلسي بتخويل من سبحانه وتعالى. لكن، ماذا نرى اليوم على الشاشات الصغيرة والكبيرة وبأم العين؟

قصف دائم ومكثف للمدن والمواطنين العزل، حرائق للعربات العسكرية والخاصة مخلفة أنقاضا متفحمة في كل مكان، هجرة جماعية من المدن والأرياف، وهروبا من الصواريخ والقنابل التي تنهمر عليهم كالمطر، تقذف تجاههم دون تمييز- من القواعد العسكرية في ايطاليا ومالطا وفرنسا وقبرص واليونان، ومن السفن والبوارج الحربية في البحر، ومن طائرات التحالف الأطلسية التي تنفذ عشرات الطلعات الجوية يوميا، ومن كتائب القذافي، ومن الليبيين الثوار (حسب تعريف قناتا الجزيرة والعربية الثوريتان).

انهم ثوار حقا، لأنهم يجيدون ويتلذذون باطلاق النار كالأطفال، بكل الاتجاهات من أسلحتهم الأوتوماتيكية الحديثة التي تكرمت بها عليهم دول الخليج الديمقراطية العريقة وفي مقدمتها قطر والمملكة العربية السعودية وغيرها من الساعين لخير الليبيين.

 لقد شاهدنا المدن المحترقة التي هجرها سكانها، وشاهدنا وسمعنا كيف يكبر الثوار" بالله أكبر " بعد كل قذيفة أو صاروخ يطلقه طيارو الناتو باتجاه مدنهم ليقتلوا بها ما أمكن من قوات القذافي، ولافرق لديهم اذا ما أصابت أبناء جلدتهم من المواطنين العزل سكنة المدن الآمنة، أو كتائب القذافي المتحصنة هناك. واذا ما تأخر طيران الأطلسي عن قصف صوراريخه، يصرخون متوجهين إلى السماء، أين الناتو، أين الناتو، أن جيش القذافي هناك ؟

يعتقد أولئك الثوار بأن الناتو هناك في السماء بالفعل، يستجيب لكل مستغيث من ظلم، ولكل متعطش للديمقراطية وحقوق الانسان. لكن أولئك الثوار لم يدرك على ما يبدو، بأن الحلف الأطلسي ليس منظمة خيرية تقدم خدماتها لوجه الله، ولو كانت كذلك، لقدمت المساعدة لشعب الصومال، أو للشعب الفلسطيني المنتهكة أرضه وحقوقه في الحياة الحرة في وطنه منذ أكثر من ستة عقود، أو لشعب السعودية المغيبة ارادته، والمستباحة حقوقه الشخصية والسياسية من قبل عائلة فاسدة ومتغطرسة منذ أكثر من قرن.

الناتو الذي يستبيح الأرض الليبية ليس من أجل شعب ليبيا، بل من أجل الغاز والنفط، ومن أجل اعادة القواعد العسكرية التي طردت من أراضيهم بعد الاستقلال، ولفرض شروطه السياسية والعسكرية، لحماية مصالح الدول الغربية في القارة الأفريقية والشرق الأوسط.

في آخر زيارة لوزير الدفاع البريطاني للولايات المتحدة الأمريكية لي فوكس، طلب من زميله وزير الدفاع الأمريكي وليام غيث المساعدة في التعجيل بالقضاء على القذافي، فقد انقضت كما قال، عدة أسابيع منذ بدء العمليات العسكرية التي تشنها قوات وطائرات الأطلسي دون الوصول اليه وقتله. لقد نفى الوزير الأمريكي بدبلوماسية المراوغ، أن يكون القذافي هدفا لقوات التحالف الأطلسية. لكن السيد غيث الذي أدلى برأيه هذا في مؤتمره الصحفي الذي عقده مع زميله البريطاني الأربعاء في 27 نيسان الحالي بواشنطن، لم يكن يرد على وزير الدفاع البريطاني، وانما ردا على انتقاد فلاديمير بوتين، رئيس وزراء روسيا الذي كان في زيارة للدنمارك. فقد انتقد بوتين عمليات الحلف العسكرية الأخيرة ضد مقرات القذافي في العزيزية بطرابلس، يوم الاثنين والثلاثاء في محاولة واضحة لاغتياله، مما يشكل مخالفة وتجاوزا على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973. وينقل الكاتبان الصحفيان في صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية، أوين ماك سكيل، وريتشارد نورتون في عدد الصحيفة الأربعاء 27 نيسان عن بوتين قوله: " من أعطى لهم التخويل بالحكم بالموت على أحد، بصرف النظر من هو؟ وقال: " أن الناتو يتصرف بخلاف القرار الدولي بالحظر الجوي".

 وكانت ليبيا قد خولت روسيا بالطلب إلى مجلس الأمن الدولي للاجتماع لمناقشة الخرق الذي ارتكبه الحلف بحق ليبيا. الصين الشعبية أبدت هي الاخرى قلقها من عمليات حلف الناتو، ومن ارسال مختلف الأسلحة والمستشارين العسكريين من فرنسا و بريطانيا الى بنغازي وغيرها من المدن الليبية، لمساعدة المتمردين الليبيين في حربهم ضد قوات القذافي.

وبرغم المشاركة الأمريكية في العمليات العسكرية ضد القوات العسكرية في ليبيا، إلا أنها تحاول الظهور وكأنها لا تريد التورط في حرب جديدة، وذلك لأنها مازالت متورطة في حرب أفغانستان والعراق، ولأن الرئيس الأمريكي الذي ينوي الترشح لولاية ثانية، يحاول أن يعطي الانطباع للناخب الأمريكي أنه غير راغب في جر الولايات المتحدة إلى حرب ثالثة، بينما واقع الحال يقول غير ذلك، فهي تقدم السلاح والمستشارين، والمال الذي كانت آخر مدفوعاتها منه 35 مليون دولار هذا الأسبوع وحده.

وبخلاف الموقف الأمريكي المتكتم على مشاركته العسكرية، يعلن البريطانيون على لسان وزير خارجيتهم وليام هيك دون تحفظ، بأن على بريطانيا أن تكون مستعدة لمهمة طويلة في ليبيا، فالعمليات العسكرية تتقدم، ويجب علينا أن نستمر في جهودنا. لكن وزير الخارجية في حكومة الظل العمالية، طالب الوزير من حزب المحافظين، بتوضيح لما يجري حاليا من عمليات عسكرية وأهدافها، وقال: لقد أيدنا قرار الحظر الجوي، لكن ما يجري على الأرض هناك يثير التساؤل، ويتطلب من الوزير توضيح الأمر.

 وفي فرنسا تتصاعد المعارضة للتورط الفرنسي في الحرب الليبية، فقد أبدى أخيرا عددا من كبار الفلاسفة والكتاب ورجال الفن رفضهم للتدخل الفرنسي. فقد سبق لمجموعة منهم أن وقعت رسالة طالبت فيها ساركوزي بالتدخل الفرنسي العسكري في ليبيا، وطالبوه بدعوة ممثلي المعارضة الليبية للاجتماع في قصر الأليزيه كتعبير عن التضامن معها، وكان على رأس هؤلاء الفيلسوف برنارد – هنري ليفي. لكن المخرج السينمائي البارز كلاودي لانزمان وآخرون الذي كانوا من ضمن الموقعين على الرسالة قرروا أخيرا سحب تواقيعهم معتبرين تدخل حكومتهم بغير المقبول، وأنه يقود فرنسا نحو المجهول.

 وفي بريطانيا، قامت المنظمات اليسارية فيها بالتعبير عن احتجاجها وغضبها للتورط البريطاني الجديد في ليبيا، بنفس الوقت نشرت صحيفة مورنينغ ستار البريطانية الناطقة باسم الحزب الشيوعي البريطاني، بيانا لمسئول الشؤون الدولية في الحزب جون فوستر، حيث جاء فيه:- " أن هناك مساعي لتغيير النظام في ليبيا، وقد اتضح هذا من تزايد أعداد العسكريين البريطانيين وغيرهم الذين يتم ارسالهم إلى ليبيا لهذا الغرض في مخالفة صريحة للقرار الدولي لمجلس الأمن، مما يشكل دليلا على أن هناك أجندة امبريالية جديدة تشارك في تنفيذها الدول الغربية في المنطقة. " وقال: " أنها نفس القوى التي تقود التدخل في ليبيا – بريطانيا وفرنسا وأمريكا، تطالب اليوم الأمم المتحدة باتخاذ اجراءات ضد سوريا، بنفس الوقت الذي تسمح فيه لحليفتها اسرائيل بممارسة القمع ضد الشعب الفلسطيني، وتغض الطرف عن الممارسات البوليسية وانتهاكات حقوق الانسان التي يقوم بها حلفاءها في البحرين والسعودية واليمن وعمان والمغرب ضد تطلعات شعوبهم إلى الديمقراطية وحقوق الانسان ".

فهل يكفي هذا لإيقاف ماكنة الموت الأطلسية عن تدمير المدن الليبية واغتيال مواطنيها العزل؟

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 7/آيار/2011 - 3/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م