عن أداء "قناة الجزيرة"

شاهد العيان والخبير.. وأشياء أخرى

نافذ أبو حسنة

في مقال شهير وصف الصحافي المبدع "جوزيف سماحة" "دولة قطر بأنها عاصمة الجزيرة". (القناة الإخبارية). وذلك في إشارة واضحة إلى طموح الإمارة الخليجية الصغيرة، للعب دور سياسي إقليمي، يتجاوز حجمها الطبيعي، وقدرتها المفترضة، تبعا لذلك الحجم، على التأثير في المحيط.

من الناحية العملية نجحت "إستراتيجية الجزيرة" إذا جاز التعبير، في إكساب حكومة قطر جانباً كبيراً من المكانة التي تطلعت إليها. وبدا واضحاً على الرغم من شعار "الرأي والرأي الآخر" الذي فاخرت الجزيرة به، أن القناة الإخبارية تنفذ سياسات مرسومة بصرف النظر عن الشعار الشهير إياه. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً. فقناة الرأي والرأي الآخر كانت تشن حملات إعلامية تسير بالتوازي، مع أجندة وزير الخارجية، والأمير. وتغض الطرف عن أحداث جديرة بالانتباه من قبل قناة إخبارية متخصصة، إن لم تكن هناك مصلحة محددة، أو غاية مرسومة للإفادة من التغطية. وهكذا صارت "الجزيرة" الأداة الأساسية في يد الحكومة القطرية، إلى جانب موارد الغاز الضخمة، والتي جير جانب منها، لخدمة الوسيلة الإعلامية الهامة، وواسعة التأثير.

صناعة الأسطورة

من المتصور أن القناة التي ظهرت في ظروف "الجدب الإعلامي" العربي، استطاعت بسرعة، حيازة مكانة كبيرة لدى المشاهد. ونجح القائمون عليها، من خلال ملامسة نبض الشارع، في القضايا الأساسية (وخاصة القضية الفلسطينية، والصراع العربي – الصهيوني، والاحتلال الأمريكي للعراق) في كسب قطاعات واسعة من المشاهدين العرب، الذين باتوا يعتبرونها قناة تتحدث عن قضايا تهمهم، ويريدون متابعتها عبر الشاشة المميزة. وقد ظهر ذلك بوضوح أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والحرب على العراق، وعدوان تموز على لبنان.

هذه المكتسبات لدى الجمهور المتلقي، معطوفة على مواقف الحكومة القطرية (مع وجود الحيرة في تفسيرها وفهمها) جعلت من القناة مصدراً أول للأخبار، بالنسبة للمشاهد العربي. وبدا أن الغالبية قد دربوا أنفسهم، على شيء من "التواطىء"، "والغفران" للجزيرة وتالياً لقطر، ويبدو أن هذا هو ما كان مطلوباً بالضبط، أي: قناة مميزة، وذنبها وذنب أصحابها مغفور.

لم يعد المشاهد كما النخب يتوقفون عند الدور التطبيعي الخطر للجزيرة، والتي كان مذيعوها ومقدمو برامجها (وما زالوا) يستضيفون الصحافيين الصهاينة بوصفهم "زملاء". كما أن استضافة المتحدث باسم جيش الاحتلال الصهيوني، بوصفه: "الناطق الرسمي باسم جيش الدفاع الإسرائيلي"، كي يقوم بالتعليق، من زاوية الرأي الآخر، على عمليات المقاومة الفلسطينية، أو ليشرح مواقف جيشه، أصبحت أمراً معتاداً، ودخلت منطقة "الغفران" وغض الطرف، طالما أن الجزيرة تغطي الأخبار الفلسطينية بتوسع محسوب.

ونسي المشاهدون أن القناة التي تبدو في موقف الرافض لاحتلال العراق، تقع على مقربة من "القاعدة" التي تنطلق منها الطائرات لدك المدن العراقية. وبلغ الأمر حدود تجاهل كثير من الأسئلة، فالجزيرة تبدو ضد التسوية الاستسلامية، وقطر عضو نشط في محور الاعتدال وتشارك في الاجتماعات الأمنية مع الصهاينة... والقائمة تطول. على أن ما يهمنا هنا هو النجاح في تسويق الالتباس الذي حقق قبول الجزيرة وأصحابها بوصفهم في موقع الدفاع عن قضايا الأمة.

بيد أن النجاح في المخادعة والوقوف في منطقة الالتباس، لا يمكن أن يستمر بلا نهاية. وعندما حان وقت الوضوح انكشف الغطاء بشكل كامل.

بداية فإن مقولات من مثل "الإعلام المحايد، والباحث عن الحقيقة"، هي أكاذيب صرفة. ولا يمكن تخيل إنفاق مبالغ طائلة لمجرد تقديم الحقائق، وهي نسبية على كل حال، فأي إعلام له هدف ورسالة محددة. ويعرف كل من عمل في الإعلام هذه الحقائق، كما يعرف أن المقولات المشار إليها، نظرية تماماً، ويتداولها الإعلاميون وأساتذة الإعلام، بوصفها ذاك.

لكن من يعمل في الإعلام، يعرف أيضا أن هناك قواعد مهنية تتوجب مراعاتها، عند صوغ وتقديم الرسالة الإعلامية، كي تكون مقنعة وتحقق الهدف منها. ودون ذلك تصبح الرسالة على درجة عالية من الفجاجة، وتتعجل الوصول إلى الهدف بأية طريقة. وإذا كانت الوسيلة الإعلامية التي تقدم الرسالة على هذا النحو، قد بنت حضوراً لدى المتلقي فإنها تصبح أداة خطرة، بقدرتها على تمرير الأكاذيب بكونها حقائق منتهية، وهذا هو حال الجزيرة اليوم.

صناعة الأكاذيب: مأساة ليبيا

أضافت الجزيرة إلى رصيدها في تغطية أحداث الثورة المصرية، رغم ما شاب التغطية من أخطاء مهنية جسيمة، فقد كان الشارع العربي وليس المصري فقط، متطلعاً إلى التغيير في مصر، نتيجة غضب متراكم منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وإخراج مصر من دائرة الصراع العربي – الصهيوني، وصولاً إلى حصار غزة، وبناء الجدران الفولاذية، وبيع الغاز الرخيص لدولة الاحتلال.. وعشرات الأسباب الداخلية. وهو لذلك كان يريد استقبال كل إشارة إلى نجاح الثورة.

مع نجاح التغيير الكبير في مصر، خيل للجزيرة (وخبرائها ومفكريها) أنها صانعة ثورات، وليس مجرد وسيلة إعلامية تتعاطى مع الأحداث، وفي الوقت نفسه بدأ توضع "أصحاب الجزيرة" في معسكر "الثورة المضادة" التي تريد استيعاب تفاعلات الحدث المصري الكبير، وتأثيراته على منظومة الصراع العربي- الصهيوني. والعلاقات في الإقليم.

انفجرت الأحداث في ليبيا، وبدا واضحاً من اللحظة الأولى أن أطرافا كثيرة عربية وغير عربية، قد انخرطت في فعل نشط، من أجل إعاقة مفاعيل الثورة المصرية، وعرف هؤلاء بأطراف "الثورة المضادة" والتي لا تستهدف ثورة مصر وحسب، بل وثورة تونس أيضا، بل وإلى كل ما تقدم، عملية التغيير السلمي الديمقراطي والإصلاح السياسي في الوطن العربي.

كانت بداية التحرك الشعبي في ليبيا، البداية فقط، شبيهة بما حدث في تونس ومصر. ولكن "الثوار" (الذين يسمون أنفسهم: شباب السابع عشر من فبراير، برغم وجود مصطفى عبد الجليل، وخليفة حفتر، وعبد الفتاح يونس، ومحمود شمام في قيادتهم) سرعان ما امتشقوا السلاح، وشرعوا في مهاجمة المواقع العسكرية. وسوف تكون هناك حاجة لوقت طويل، ولبحث دقيق كي نعرف ما الذي حدث بالضبط، وأخذ الشباب الليبيين في الاتجاه الذي ساروا فيه.

ولكن ما نعرفه الآن أن "الجزيرة" باشرت ومنذ اللحظة الأولى عملية تحريض هائلة، وبدأنا التعرف إلى نوع جديد من المصادر الإخبارية: "شاهد عيان". تميز شاهد العيان هنا بامتلاك وسيلة اتصال فاعلة، خارج الشبكة الليبية المتخلفة، وبقدرة على فبركة الأخبار، وصياغة "ما سمعه" على أنه حدث أمام عينيه. وكان أفظع ما قام به شهود العيان، اتهام النظام الليبي بقصف المتظاهرين بالطائرات.

نجحت الجزيرة في فبركة خطرة، ولكنها كانت لوهلة أولى قابلة للتصديق، فقد استندت إلى هيمنة شاشتها على المشاهد، و كذلك إلى صورة نمطية معممة عن سلوك القذافي لدى المتلقي نفسه. وهكذا صدق الجميع ما قاله شهود العيان على الجزيرة. وتتابعت الأحداث بسرعة، تحت وطأة غضب عارم من "السلوك الوحشي": قرار من الجامعة العربية بتعليق عضوية ليبيا، قرار من محكمة الجنايات الدولية (قال البعض إن غايته الحقيقية دفع القذافي إلى القتال حتى النهاية) ثم طلب التدخل الدولي لحماية المدنيين. فصدور قرار بفرض حظر جوي فوق ليبيا، ودوما لحماية المدنيين.

هللت الجزيرة للقرار، وشارك "أصحابها" في صوغه، وبعثوا بطائرات لتشارك في فرض الحظر، وأخذت عملية خلط الأوراق طابعا خطيرا، فالمدنيون هم أنفسهم "الثوار" الذين " يكزدرون" ما بين إجدابيا والبريقة، بالسيارات المحملة بالرشاشات الثقيلة. ولم تعد القدرة على التمييز ممكنة، حتى مع استقدام الجزيرة الخبير(المتقاعد) الذي يحمل رتبة "مخبر" للناتو.

يجلس الخبير كل ليلة أمام "لعبة" تحمل خارطة ليبيا، ويشرح طبيعة المعارك، طالبا من الناتو، أن يكثف الضربات هنا، وأن يستعمل السلاح الفلاني هناك. ومع أن الخبير نفسه أصبح مثيرا للشفقة، بسبب من بؤس قدراته، وضعف قاموسه اللغوي، من ناحية، وطبيعة المعارك المفتقرة للإثارة من ناحية أخرى،(ما خلا أن كتائب القذافي تستخدم صواريخ غراد) فإنه ظل من ضمن أدوات الجزيرة المعتمدة في تغطية الحدث الليبي. يعاونه خبراء عبر الأقمار الصناعية بين الحين والآخر، وشهود العيان إياهم، وقد صاروا يحملون لقب المسؤول الإعلامي لثورة شباب فبراير، ويخاطبون مذيعي الجزيرة بوصفهم زملاء. فهل يدل هذا على شيء ما؟ عندما تحدث شهود العيان أول مرة، ابتسم أحد الأصدقاء وهو يشيد بقدرة الجزيرة على تحصيل رقم هاتف مواطن ليبي من "الزنتان" مثلا. بعد وقت قصير كان من السذاجة أن يبتسم المرء، فثمة أشياء كثيرة، كان قد جرى تحضيرها مسبقا، بما في ذلك شهود العيان/الزملاء.

لم تعتذر الجزيرة ومن جاراها، عن كذبة قصف المتظاهرين بالطائرات بعد افتضاح الأمر، والأصل أنها لن تفعل، لأن الأكاذيب كانت جزءا مما أعد لليبيا (وللعرب) وتتكشف فصوله تباعا. بالمناسبة: ماذا يحدث على محور إجدابيا- البريقة؟ لم تعد الجزيرة تتحدث عما يجري. لماذا؟ لنفكر قليلا في الجغرافية والثروات.

تغطية خاصة: لا يحق للبحرينيين

 على مدى سنوات نشاطها سارت الجزيرة على خيط دقيق في تغطية الأحداث في دول الخليج العربي، فدولة قطر عضو في مجلس التعاون، لكن ذلك لم يمنع، ولمرات من تركيز حملات إعلامية، متصلة ب": النكايات" بين الدول الخليجية. وهذه قصة طويلة، ليس مجال الخوض فيها الآن.

عند بدء التحركات الشعبية في البحرين، تعاملت الجزيرة مع الحدث. ولكن مع القرار الخليجي، بإرسال قوات عسكرية إلى مملكة البحرين، عمدت الجزيرة إلى نوع خاص من التغطية: التجاهل الكلي لما يحدث داخل المدن والقرى البحرينية، وتناول الوقائع من خلال الموقف الرسمي لدول مجلس التعاون، والذي سلك مسلكا تصعيديا ضد طهران، واعتبر التحرك الشعبي في البحرين، نوعا من "الفتنة المذهبية".

"لا يحق للبحرينيين" هي العبارة التي تختصر تعامل الجزيرة مع الحدث الذي يدور على مقربة جغرافية منها. فلا ثورة هنا، ولا تنظير لكيفية إدارتها، ولا توضيح لطبيعة التدخل العسكري الخليجي في البلد الصغير، كما أن تشويها كبيرا قد لحق بمطالب من تحركوا مطالبين بالإصلاح، وبدور سياسي في بلادهم. إنه "الرأي والرأي الآخر" في أحد تجلياته القصوى، وفق "إستراتيجية الجزيرة" القطرية.

الكذب مستأنفا: الانكشاف الكلي

بينما كانت الجزيرة تقوم ب"التغطية الخاصة" للبحرين، شرعت في شن حملة أكاذيب ضخمة حول ما تشهده سوريا، استحضرت "شهود العيان" و حتى "شهود السماع". وحطمت دفعة واحدة كل مقاييس المهنية الإعلامية.

لقد استضافت الجزيرة في واحدة من نشراتها، متحدثا غير سوري، عبر الهاتف لأكثر من خمس وثلاثين دقيقة، وطرحت عليه "المذيعة المجتهدة" كل ما خطر في بالها من أسئلة، وما وضع في أذنيها من غرفة التحكم، حتى ملت وهي تعيد كرة الأسئلة مرة وراء أخرى، نافخة في كل تفصيل، وساعية لكل ما يمكن أن يوتر ويحرض. والويل لمن تستضيفه "الجزيرة"، ويقول: "لا أرى شيئا حولي" فهو معرض(وقد حدث هذا وشاهده من كان يتابع الجزيرة) للتأنيب واللوم. ولدرجة أن إحدى "المذيعات" التي لبست لبوس الثائرة في الآونة الأخيرة، قالت لأحدهم: "على أساس أتينا بك شاهد عيان" وكل ذنبه أنه قال لها: "كل شيء من حولي هادئ".

ولم تر "الجزيرة" ولا شهودها، ولا "أصحابها" كذلك جثامين الشهداء من ضباط و جنود الجيش العربي السوري، وقد جرى التمثيل بها، كما أنها لم تستطع ملاحظة تخريب المنشآت والممتلكات العامة والخاصة في سوريا.

تعتمد الجزيرة في تغطياتها، أسلوبا يعرف ب"الإشباع". وهو يعني من الناحية النظرية، الإحاطة بالخبر من كافة جوانبه، والذهاب نحو مناقشة كافة التفاصيل المتعلقة به. وقد حافظت على ذات الأسلوب في تعاملها مع تغطية الأحداث في سوريا، وحيث لم يكن هناك "حدث" يمكن تمطيطه والنفخ به، أحلت الجزيرة مكان "الإشباع الخبري"، إشباعا من اللغة التحريضية والأكاذيب، وإن لم يكن هناك حدث بالمرة، جرى اختراعه، ومن ثم إشباعه بذات الأسلوب، فالمئات آلاف، والآلاف عشرات الآلاف،ومن ثم الصراخ والصراخ، عل أحدا يصدق.

ويمكن الافتراض استنادا إلى ما قدمته وتقدمه الجزيرة، أن المطلوب كان الوصول بالأكاذيب إلى استدعاء التدخل الغربي البشع الذي استدعته أكاذيب الجزيرة في ليبيا وهللت له القناة على نحو ما تقدم.

بات من المعروف (ولعله كان مدركا ومعروفا منذ زمن) أن استهداف سوريا، هو استهداف لمواقفها الوطنية والقومية، وهو استهداف لخط المقاومة والممانعة، وفيه الكثير الكثير من محاولات الثأر للهزائم التي ألحقتها قوى المقاومة والممانعة بالمشروع الصهيوني، والمخططات الأمريكية.

يعرف كل هذا من يعمل في الإعلام، ومن لا يعمل أيضا. وحتى من لا يعلم فقد آن له ذلك، وهو يرى عبر الجزيرة وغيرها، مساعدة وزير الحرب الأمريكي للشؤون السياسية، وهي تتحدث عما تعتبره مطلوبا من سوريا.

على كل لا يتصل الأمر عند الجزيرة بالجهل أو سوء التقدير، بل بمخطط مسبق، دلت عليه هذه المرة أيضا سرعة استدعاء "شهود العيان" واللغة التحريضية الفجة، كما دلت عليه محاولات التضخيم والتهويل، وتجاهل مواقف قطاعات عريضة جدا من الشعب العربي السوري. ترى أن سوريا مستهدفة بسبب مواقفها الوطنية والقومية.

انكشفت الجزيرة، وانتهت مرحلة طويلة من التواطىء، في التعامل مع هذه الوسيلة الإعلامية. ومع الانكشاف صار بالإمكان الإجابة عن كثير من الأسئلة التي كانت لغزا محيرا، وأنتجت لمرحلة طويلة التواطىء الذي أشرنا إليه.

* إعلامي فلسطيني

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 5/آيار/2011 - 2/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م