الطريق الى الله

د. حسين رشيد الطائي

من يقرأ كتاب الله تبارك وتعالى يلفت انتباهه الكثير من المفاهيم العظيمة التي تحثه على اللجوء الى الله ومخافته ومحبته والركون اليه في كل وقت بل والتسليم المطلق اليه. ولكن هذه المفاهيم جاءت متفرقة وغير مجتمعة تحت مصطلح واحد وإن كانت تصب في موضوع واحد محوره الله تعالى والرجوع اليه.

ولكن الذي يقرأ الكتاب العزيز يحاول بكل جهده ان يربط بين هذه المفاهيم ليستخرج النظرية التي توحدها كلها، فيحاول مثلا ان يستخرج المركّب النظري الذي يربط بين مفهوم قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات/56، وبين قوله تعالى (إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) إبراهيم/8، فالباري عز وجل يقول انني خلقت الجن والانس لأجل العبادة، ومن ثم يقول انني غني عن عبادتهم، وربما يمتد هذا التساؤل الى موضوعات اخرى تشمل مسائل اخرى متفرقة، إلا ان جل هذه المسائل يرتبط بعالمي الدنيا والآخرة، وان هناك طريقين لا غير يجب على الانسان ان يختار أحدهما منهجا له، إما طريق الآخرة وإما طريق الدنيا.

 وإذا كان طريق الدنيا هو أبعد الطرق عن الله سبحانه وتعالى فإن طريق الآخرة هو أقرب الطرق اليه. لذلك فقد حثنا الباري عز وجل الى اللجوء لهذه الطريق فقال (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) الذاريات/50. وتكمن هذه الطريق في منهجين متلازمين لا ينفصلان عن بعضهما البعض الاول منهج الترغيب والثاني منهج الترهيب. لذلك نرى كثيرا من الآيات ترغّب الانسان في الآخرة وتوعده بالجنة والكرامة والتشريف الذي سوف يلقاه هناك وبالنعيم واللذة التي لا تنقطع، كما ان هناك الكثير من الآيات التي ترهّب الانسان وتذكره بالآخرة وشدّة السؤال وعذاب القبر ووحشته وظلمته وجهنم وما اعده الله من العذاب والمهانة والذلّة للمسيئين والكافرين أعاذنا الله وإياكم اجمعين.

ومن خلال هذين الطريقين تتوضح معالم البعد القرآني في ان الانسان جاء الى هذه الدنيا لكي يرحل ولم يجئ لكي يبقى، وما هذه الآيات الكثيرة التي ترغبّه احيانا وترهّبه احيانا اخرى إلا من اجل ان يعيش الدارين معا دار الدنيا ودار الآخرة ولكن بشرط ان يعيشهما كما ينبغي لكل دار منهما.

فالانسان إذا ما اقتصر الطريق على الدنيا دون الآخرة فسيفسد طريق الآخرة وينغمس في الدنيا وملذاتها ومشغلاتها، والانسان إذا ما التزم طريق الآخرة دون الالتفات الى الدنيا أفسد الحياة الدنيا وترك الكثير من الأمور التي كان يجب عليه ان يفعلها كالعيشة الكريمة والاتصال بالناس وحمل همومهم وتكوين الاسرة الطيبة وتعمير الارض وهذا ما يريده الله تبارك وتعالى حيث اوضح بشكل لا لبس فيه ان على الانسان ان يعيش الدارين معا دار الدنيا ودار الآخرة ولكن كما ينبغي لكل منهما قال تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) القصص: 77، لذا يجب على المرء الذي يسلك الطريق الى الله سبحانه وتعالى ان يحسن دنياه لتحسن آخرته قال تعالى (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) العنكبوت/64، فالله سبحانه يشير في هذه الآية اشارة واضحة الى ان هذه الحياة الدنيا ما هي الا لعب ولهو وان الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية لذلك فحسن الحياة الآخرة يمر من خلال حسن الحياة الدنيا.

 بمعنى آخر انك لا تستطيع ان تحسن آخرتك إلا بعد ان تحسن دنياك وهذا ما اشار اليه قوله سبحانه وتعالى (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الزمر/10، ولذلك تشير الاحاديث النبوية الشريفة الى هذه المعاني وتحث على التزام طريق الآخرة وذم طريق الدنيا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (حب الدنيا رأس كل خطيئة) وقال ايضا (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) وورد عنه ايضا عن الحسن: بلغني ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال لاصحابه (انما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حتى اذا لم يدروا، ما سلكوا منها اكثر او ما بقي، انفدوا الزاد وخسروا الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة ولا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك اذ خرج عليهم رجل في حلة تقطر رأسه، فقالوا: هذا قريب عهد بريف وما جاءكم هذا الا من قريب، فلما انتهى اليهم قال: يا هؤلاء، فقالوا: يا هذا! فقال علام انتم؟ فقالوا: على ما ترى، فقال: ارأيتم ان هديتكم الى ماء رواء ورياض خضر ما تعملون؟ قالوا: لا نعصيك شيئا، قال: عهودكم ومواثيقكم بالله، فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئا قال: فأوردهم ماء رواء ورياضا خضرا فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال: يا هؤلاء! قالوا: يا هذا! قال: الرحيل! قالوا: الى اين؟ قال: الى ماء ليس كمائكم والى رياض ليست كرياضكم، فقال اكثرهم: والله ما وجدنا هذا حتى ظننا انا لن نجده وما نصنع بعيش خير من هذا؟ وقالت طائفة - وهم اقلهم - الم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله ان لا تعصوه شيئا وقد صدقكم في اول حديثه فوالله ليصدقنكم في آخره؟ فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم فبدرهم عدو فاصبحوا بين أسير وقتيل).

والله سبحانه وتعالى يفصل في الامر كله بان الطريق الى الله يمر عبر الدنيا ولكن من دون ان نأخذ منها إلا ما يجعلنا ان نعيش فيها المقدار الذي يشاءه الله ثم نرتحل بعدها وان يكون همنا الرئيس هو الآخرة وهو الطريق الذي ينجي الانسان من المهالك، ولذلك فالباري عز وجل يبين الطريق الحقيقي اليه بقوله تعالى (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) الشورى/20، لذلك فليتخذ كل منا الدنيا محطة يتزود بها للآخرة قال تعالى (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) البقرة/197، وألا نلتفت اليها إلا بمقدار ما يتعلق بها ويكون همنا ونظرنا ووجهتنا الآخرة لكي ندخل في دائرة الرضا الالهي وسنعيش في الدنيا محسنين ونحشر في الآخرة من المحسنين جعلنا الله جميعا من المحسنين الذين قال تعالى فيهم (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) يونس/26.

* اختصاص في علوم القران والتفسير - لندن

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 4/آيار/2011 - 1/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م