يوما بعد يوم، تثبت المزيد من أنظمة الاستبداد العربية، أنها لا
تريد أن تفهم ما هو وضعها وسط شعبها، أو تتفهّم مطالب وأهداف الحراكات
الشعبية والمجتمعية التي تجري اليوم في العديد من بلدان المشرق والمغرب
العربي، وما يجري وجرى في البحرين واليمن والأردن وليبيا والمغرب
والجزائر، وأخيرا في سوريا؛ ليؤكد مقولة عدم الفهم والتفهّم على حد
سواء.
وهذا ليس من طينة سوء الفهم أو سوء التفاهم، بقدر ما يرقى إلى سوء
نية أو سوء نيات من ذهبوا إلى المعالجات الأمنية القمعية، كخيار أوحد؛
في مواجهة هبّات وانتفاضات وثورات الشعوب، مخلصين للأنظمة إياها،
أوفياء لها، انحيازا لمصالحهم ومنافعهم وامتيازات الرشى والفساد
الممنوحة لهم، من قبل أدوات وآليات الإفساد السلطوية، فأي سياسة
إصلاحية يمكنها أن تكون بديلا من تلك المعالجات القمعية التي أدخلت
البلاد و"العباد" في عنق زجاجة أزمة وطنية تاريخية، ليس من السهولة
بمكان استعادة استقرار وضع انتهت صلاحيته منذ زمن بعيد، ولم تفلح كل
المعالجات السابقة والراهنة، في حلحلة ولو جزء يسير من الأزمة الكبرى،
التي ما تني تتدحرج كرتها الثلجية؛ باتجاه معالجات غير سياسية، لا ولن
تؤدي إلى أي مستوى من مستويات الإصلاح، طالما أن دروب الحوار كلها
مسدودة، وبالتالي فإن إعادة الهدوء والاستقرار؛ بات مجرد تمنيات منقطعة
الصلة والجذور وبعيدة عن الواقع.
على أن حالة الإنكار الشائعة اليوم، في أروقة النظام الرسمي العربي،
لا تقدم له سوى المزيد من حالة إشعال الأزمة والنفخ في أتونها، ففي
مواجهة سلمية الحراكات المجتمعية العربية، ومواجهتها بالنار، يجري
استدعاء ردود فعل غير سلمية من جانب الحركة الشعبية، في محاولة
لاستجرار ردود من قبلها بالنار على النار، حيث تتفوق قدرة النظام
القمعية ومعالجاته الأمنية، وحيث يعتقد النظام أنه الأقدر على حسم
معركة المواجهة، دون تقديم "التنازلات المطلوبة" لتحقيق عملية إصلاحية
وسياسية ديمقراطية ملحة، لاستعادة اتزان وتوازن العلاقة التي اختلت في
شكل عميق بين السلطة ومجتمعها، حتى ليبدو أن هناك مخاوف كبرى من أن
تتجه الأمور في سوريا في اتجاهات تتفوّق على سيناريوات الثمانينات؛ أو
في أحسن الأحوال تسلك السيناريو الليبي، أو تأخذ الاتجاه اليمني، مع ما
في كلا الاتجاهين من الضحايا والدماء، على النقيض من اتجاهي تونس ومصر،
من حيث اختصار معاناة شعبيهما بأقل عدد من الضحايا، وخلال فترة زمنية
أقصر، لكن الخشية الأكبر التي قد تتجسد في القادم من الأيام، هو أن
تتجه الأمور باتجاه الفوضى، أو تتجه التيارات الدينية الإسلاموية
باتجاهات توظيفية – مباشرة أو غير مباشرة – وذلك لفرض توجهاتها على
الحركة الشعبية، مع ما يحمله ذلك من مخاطر إجهاض التوجهات الإصلاحية،
وإفشال الآمال الشعبية بالتغيير السلمي وتحقيق تحوّلات ديمقراطية، وما
يعنيه ذلك من استعادة النظام قوة سلطة القهر والإكراه الاستبدادية،
بينما تكمن قوة الحركة الشعبية في سلمية منطلقاتها وتعدّدية قواها
وديمقراطيتها، وهذه ميزة المزايا التي يتوجب الحفاظ عليها والاحتفاظ
بسردية سلميتها تلك، من دون مؤثرات قوى الأجندات الخارجية للإصلاح
وللديمقراطية، أو تلك الداخلية التي قد تتحول في لحظة ما إلى قوة
احتياطية لثورة مضادة، أو لفتنة مشتهاة ومرغوبة لإفشال أهداف ومطالب
الشعب.
ولئن توغل الأنظمة وسلطاتها الأمنية والبوليسية باتجاه تحويل
خيارات شعوبها الراهنة وعبر مسلكياتها القمعية، من مشروع انتقال سلمي
نحو التغيير الإصلاحي والديمقراطية وإعادة الاستقرار على أسس جديدة،
إلى مشروع حروب أهلية وفتن فئوية أو طائفية/مذهبية، لاحقا إذا ما فشلت
الحراكات الشعبية والمجتمعية في فرض تغيير النظم السلطوية الحاكمة.
وفي كل الأحوال فقد مضى عهد تجميد المجتمعات وحجبها أو حجب معطيات
أوضاعها عن الإعلام، والتحكم بالصورة التي تريد أن يراها العالم
لدواخلها الوطنية، ولم يعد بالإمكان تزييف إرادة الناس، وتجميل صورة
وممارسات النخب والطغم السلطوية والمالية المتحكمة بالسلطة وبالاقتصاد،
وهي الخبيرة بتدمير وفكفكة المجتمعات.
إن طريق الإصلاح الشامل، والتحول نحو الديمقراطية، لا يمكن
اقتصارها فقط على المرور بكل هذا القمع والترويع وحتى الترقيع في
إصلاحات شكلية، فكما أن أنظمة استبدادية عديدة أضاعت الطريق نحو
الإصلاح والديمقراطية، فكان من الطبيعي أن تختفي عن مسرح الحياة
السياسية لبلدانها، فالإصلاح الشامل حقيقة لا يكمن في النوايا، بل في
كونه يبدأ أو لا يبدأ. يكون أو لا يكون، وتلك هي المسألة.
المسألة أن أي تحولات ديمقراطية لا تستشرف حاجات الداخل الوطني
أولا، وتنبع من ضرورات سياسية ومجتمعية تستجيب لغالبية القوى المجتمعية،
لا يمكنها أن تحقق غايات الإصلاح التي تنشدها مجتمعات تحكمها وتتحكم
بها أنظمة، وجودها في حد ذاته هو جوهر الأزمة، بقمعها واستبدادها
وإقصائها وتهميشها كامل قوى الداخل الوطني، على أن مطالب الديمقراطية
والإصلاح وصولا إلى التغيير الشامل، ليست مطالب خارجية، حتى يتم
المطالبة بها وفقا لأجندات الخارج وشروط الغرب عموما، وأمامنا العديد
من تجارب شعوب استطاعت بكفاحاتها الديمقراطية السلمية أن تبلور العديد
من أنظمة سياسية، قطعت مع أنظمة الاستبداد القديمة، وهي تمضي اليوم؛
وإن لم تستكمل بعد كامل أهداف انتفاضاتها وثوراتها، استلهام
الديمقراطية في بنائها لعقد إجتماعي جديد، عماده المواطنة والحرية
والقانون والعدالة والمساواة. |