في نهاية هذا العام أمّا سيرحل المحتلّ، وهذا ما نرجوه، وكما هو
مقرر (حسب الاتفاقية الأمنية بين العراق وامريكا الموقعة بين الجانبين
عام 2008). أو لا يرحل، بسبب موقف جديد تفرضه الادارة الأمريكيّة،
وبالتعاون مع جهات أخرى. فهل سينعم العراق ببحبوحة من العيش الهانئ
والرخاء والاستقرار؟.
الاجابة كلاّ، لأنّ أمريكا غزت العراق لتأمين مصالح معيّنة، وهذه
المصالح لم تتحقق بشكل تام. كما ان أمريكا غزت العراق لا كما ادعت
وتدعي، بأنها تريد نشر مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. كلاّ
انّ لأمريكا أهدافاً أبعد من تسويقاتها الإعلاميّة، المعنيّة بالحريّات
وحقوق الإنسان. إنّ أمريكا كيان مستعمر له من القدرات الماديّة
والبشريّة المسخّرة لاستعباد الشعوب، وابقائها مسجونة في (حضيرة
الحَلْبْ) لنهب خيراتها أوّلاً، ولضمان تصريف المنتجات الأمريكيّة في
الأسواق الخارجية ثانياً، ولتأمين مصالحها الاستراتيجيّة الأمريكيّة
ثالثاً، وهي نفس اهداف الإستعمار القديم ولكن الاختلاف في طريقة الوصول
اليها.
لقد أدركت أمريكا، بعد فترة قليلة من احتلالها للعراق، أنّ مشروعها
الاستعماري، لمّ يحضَ برضا قطاعات كبيرة من الشعب العراقي، إضافة
لأطراف إقليميّة. فتحركت أمريكا باتجاه تطبيق نظرية استعمارية قديمة
هي(الحرب بالنيابة)، فأوعزت الى حلفائها بالمنطقة للقيام بهذا الدور
الخبيث.
إضافة لذلك، فإنّ أمريكا وجدت أنّ مصلحة أمنها القومي، ومصالحها
الإستعماريّة الاستراتيجيّة، بأنْ تبقى في العراق لاستنزاف إيران، عن
طريق حثّها لهدر طاقاتها الاقتصاديّة، بتطوير قدراتها الدفاعية من جهة،
ومن جهة ثانية، استعمال الجهات المعارضة الداخلية(داخل إيران)، كوسيلة
ضغط داخلية للتأثير على القيادة الإيرانيّة لتغيير موقفها من أمريكا،
وهذا ماحصل بالضبط مع الاتحاد السوفييتي السابق. وبالاتجاه المعاكس،
حرصت إيران على استخدام نفوذها بقوّة في العراق، لتقول للأمريكان: نحن
هنا، لكن بدون صِدَام مباشر بالعلن، إنّها أيّضاَ (حرب بالنيابة).
ولأجل تحقيق غرض أمريكا، فليس بعيداً عن التصوّر، أنْ تكون امريكا
قد اوعزت بتحريك مخابرات دول صديقة لها، للتدخل في العراق عن طريق
تسويق الارهاب اليه، ومن ثم جعل العراق ساحة لمواجهة الارهاب العالمي،
وهذا ماصرح به جورج بوش الإبن، بجعل العراق ساحة لمحاربة الارهاب، كما
اثيرت النعرة الطائفية بين أهم مكونين عراقيين مسلمين السنّة والشّيعة.
ومن خلال هذه الحرب الطائفيّة المقيتة، استطاعت أمريكا ان تتملص من
حرب خاسرة، كما نجحت أيّضاً بتمزيق الوحدة الوطنيّة العراقيّة وشرذمتها،
خصوصاً أنّها بالأساس كانت هشّة لضعف الوعي الجماهيري، جرّاء تأثير
الحكم المرير لنظام صدام المقبور. تقول مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية
الامريكية السابقة، في كتابها (مذكرة إلى الرئيس المُنتَخَب/ ص198): (ويمكن
ان تتدخل ايران وسوريا والمملكة العربية السعودية والاردن ومصر وتركيا
إذا تعرّض العراقيون الذين يشاركونهم الدين او الإثنية لخطر الذبح.
وتشعر الحكومات بالقلق ايضاً من أن تؤجّج أعمال القتل في العراق مشاعر
السنة في سوريا، والشيعة في الكويت والمملكة العربية السعودية والبحرين،
والأكراد في تركيا وإيران وسوريا. وفي أسوأ الحالات نسرّع دورة القتل
والتخريب التي تؤدي إلى إعادة رسم الحدود، ومزيد من الدمار الاقتصادي،
وتدمير المزارات الدينية التي لايمكن استبدالها؛ ما يولّد عطشاً للثأر
لايروى له غليل)(انتهى النصّ).
لقد وجد الأمريكان من العمليات الارهابية فرصة تكتيكيّة لتبرير
تواجدهم في العراق أطول فترة ممكنة. ونحن على اعتاب مرحلة رحيل المحتل
الامريكي(حسب تصريحات بعض المسؤولين في وسائل الاعلام). نجدّ بعض اعضاء
مجلس النواب منقسمين الى قسمين، الأوّل، يرى وجوب رحيل الأمريكان.
القسم الثاني، يرى أنّ العراق لا يزال بحاجة للقوات الأمريكيّة، لحفظ
توازن القوى في المنطقة وتأهيل القوات العراقيّة. وهذان الموقفان
لايمكن ترجيح احدهما على الآخر بدون القاء نظرة شاملة، تستوعب ابعاد
المصالح الكبيرة لقطبين متصارعين ضمن ساحة العراق، مختلفين ايديولوجياً
واستراتيجياً، هما أمريكا وإيران، وباقي المواقف هي صدى لهذين التوجهين.
والسؤال لماذا اسقطنا الارادة الوطنية العراقية من معادلة توازن القوى
في العراق؟.
الجواب ان الموقف الوطني الموحّد لا تبنيه إلاّ قيادة وطنيّة واعية،
ولابد من وجود مشترك وطني تتفق عليه جميع الأطراف السياسية العراقيّة،
وهذا غير متاح بسبب الشرخ الطائفي الذي خططت أمريكا لإحداثه في الجسم
الوطني العراقي.
يضاف لذلك، فشل المشتغلين بالسياسة في العراق منذ عام 2003 لحدّ
الآن، من إحداث تغيير في بنية الوضع السياسي العراقي، سوى إحداث مزيد
من الخلافات والاختلافات. الأمر الذي جعل الشارع العراقي يتوجسّ خيفة
منها، أكثر من أنْ يتفاعل معها. وأنا لا أدعي نفي وجود قوى وطنيّة
عراقيّة على أرض الواقع، لكني أقول إنّ هذه القوى غير متّحدة لعدّة
اسباب، كما أنّ اللون الطائفي أصبح مشكلة يعاني منها الجميع، وهذا ما
زرعته الديمقراطيّة التمثيليّة، التي بشّرت بها أمريكا على طريقتها
الخاصّة.
ومما زاد الطين بلّة، أنّ تداعيات الوضع العربي وما حصل ويحصل في
المشرق والمغرب العربيين، جعل دول عربيّة ترى أنّ انظمتها في مهب رياح
التغيير القاسية، لذا فمن الواجب ان تبقى أمريكا قريباً منها لنجدتها
وقت الحاجة. كما أنّ النظام العربي الخليجي، متّفق تماماً بعدم ارتياحه
وقلقه من إيران، وهذا الهاجس ليس على مستوى الشكّ، وإنّما على مستوى
الموقف الرسمي الخليجي. واذا ما اضفنا الى ما تقدم، النقاط التالية،
سيكون خروج المحتل مسألة صعبة التصوّر:
1. إصرار بعض الدّول العربيّة على عدم عقد القمة العربية في بغداد
في 11 مايس 2011، ومن ثم تأجيلها الى اجل غير معروف يجعل العراق مستمراً
في العزلة التي فرضتها عليه الأنظمة العربيّة.
2. فشل الدبلوماسية العراقية من بلّورة موقف سياسي عراقي، يقنع
العرب بأن العراق يسهم بشكل فاعل بتكوين بنيّة الأمن القومي العربي.
3. أنّ السياسة العامة في العراق، لم تكن بالمحصّلة سياسة دوّلة،
تستطيع استخدام الموقع الجغرافي للعراق، كعنصر جيوسياسي مؤثر على مصالح
الأطراف الأخرى. كما لم تقم باستخدام سوقه التجارية وموارده النفطيّة،
كوسائل متحكّمة في رسم الموقف السياسي لصالح العراق.
4. بيان شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيّب، الذي القاه في
مؤتمر صحفي مساء يوم 19 نيسان 2011، والذي طالب فيه إيران (بعدم التدخل
فى شؤون البحرين وكافة الدول العربية وأن تنظر إلى ما يحدث فى العالم
العربي من مشكلات على أنه شأن داخلي بحت تتكفل به شعوب هذه المنطقة،
وأصحاب الشأن فيها، وذلك درءاً للفتنة وحقناً للدماء، وحفظاً لحسن
الجوار وحقوقه، ودعماً لمشروع الحوار بين السنة والشيعة والذى تحرص كل
من إيران والأزهر الشريف على المضي فيه قدماً، أملاً في تحقيق وحدة
المسلمين في العالم كله شرقاً وغرباً).
هذا التصريح سيكون في غير صالح العراق، لأنّه يعبّر عن موقف مرجعية
اسلاميّة تبدي مخاوفها من ايران، ولموقف هذه المرجعية تأثير سياسي. ولو
نظرنا بصورة شاملة للوضع العربي غير المستقر، نجد أنّ الموضوع السياسي
يدار طائفياً، والرسائل الصادرة من هذا الطرف او ذاك، يمكن قراءتها على
ان هناك مواجهة (مؤجلة) ومحتدمة، بين أمريكا وإيران، يتوقف نجاح طرف
منها على الآخر، بنجاح السيطرة على العراق سياسياً.
واذا ما اضفنا تزايد نشاطات الإغتيالات في العراق، ستكون الصورة
واضحة، بأنّ الاتجاه يسير بطريق ابقاء قوات الاحتلال داخل العراق. لذا
تتحمل الاطراف السياسيّة الوطنيّة مهمة انقاذ العراق من براثن الاحتلال
الغاشم بنوعيه العسكري، والاستخباراتي، المُبَرَر بوجود مكاتب تبادل
المعلومات وتطوير قدرات الجيش العراقي.
* كاتب وباحث عراقي
[email protected] |