علوم القرآن بين النظرية والتطبيق

د. حسين رشيد الطائي

القرآن الكريم كتاب الله الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو الصيغة المثلى للكتب السماوية المنزلة من الله تبارك وتعالى ولا يمكن لنا ان نفهمه حق فهمه بالاقتصار على ظاهر اللفظ فقط او الوقوف على اجزاء الفاظه ومفرداته دون ربطها بدلالاتها وسياقات الآيات الاخرى المرتبطة بها واسباب نزولها، ومن اجل فهم هذه السياقات وربط تلك الاجزاء هناك مجموعة من العلوم الخاصة التي لا يمكن لأي مفسر من مفسري القرآن الكريم ان يغض النظر عنها وهي بمجموعها تسمى (علوم القرآن)، ومن شأن هذه العلوم ان تذلل عمل المفسر من اجل الوصول الى الفهم الامثل والحقيقي للقرآن الكريم.

ولذلك فقد اعتنى علماء التفسير منذ القدم بهذه العلوم وجعلوها القواعد الأساسية لعملية تفسير القرآن الكريم، وان أية عملية تفسيرية مجردة من هذه القواعد هي سقيمة وغير ذات قيمة. ومن أوائل الذين اهتموا بهذه العلوم وتبيينها وتقسيمها بعد النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) مع ضرب أمثلة واضحة عليها الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) الذي ترك لنا كتابا مهما في تقسيم علوم القرآن الكريم ما زال في طي الكتب لم يأخذ نصيبه من التحقيق والدراسة.

فقد أوضح الامام (عليه السلام) ان اية عملية لتفسير القرآن الكريم سواء على مستوى اللفظ القرآني او المقطع او الآية لا بد لها ان تخضع لمجموعة من القواعد التي بدونها يخرج المفسر من اطار التفسير الصحيح ويدخل في غياهب التفسير بالرأي الذي هو مذموم عند جميع العلماء والمفسرين وقبل كل ذلك ذمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث قال: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)(1)

كما ان الأئمة الاطهار عليهم السلام ذموا هذا النوع من التفسير ورواياتهم واضحة في ذلك فقد جاء عن أبي عبد الله (ع) انه قال (من فسّر القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر وإن أخطأ كان إثمه عليه)(2)

وعنه ايضا قال (ما علمتم فقولوا وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم، فان الرجل ينزع بالآية فيخرّ بها أبعد ما بين السماء والارض)(3)

وعنه (عليه السلام) انه فقال (من فسّر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر)(4)

فقد كان الائمة الهداة المهديون ينهون عن التفسير بالرأي وتأويل آيات الله بغير علم ويحثّون على الالتزام بما فسره النبي وآل البيت عليهم السلام كونهم المخصوصين بهذا الامر والقادرين عليه.

وهذه العلوم القرآنية في طبيعتها تنقسم الى عدة أقسام منها ما هو عقلي ومنها ما هو نقلي. اما العلوم النقلية فهي العلوم التي تعتمد على ما نقل من الاحاديث والروايات والاخبار بعكس العلوم العقلية التي يكون للعقل فيها دور فعال في استنطاق النص القرآني والوصول الى حقيقته. والادلة العقلية اذا ما تعارضت مع الادلة النقلية وجب تقديم الاخيرة على الاولى لأن القاعدة التي تستند اليها الاخيرة اقوى وأثبت، ولذلك قال العلماء بوجوب تقديم الدليل القاطع على الدليل الظني، والى ذلك ذهب اغلب العلماء فجزم الرازي بتقديم الدليل النقلي على الدليل العقلي مطلقا عند التعارض باعتبار ان الدليل العقلي أصل في معرفة صحة الادلة النقلية، وبذلك يتضح لنا سبب علة عصمة الكتاب والسنة من الخطأ.

والقول في تعارض الادلة العقلية مع النقلية لا يخلو من مناقشة علمية، فقولنا ان الدليل العقلي يتعارض مع الدليل النقلي يحتم علينا ان نقول بتنافر الدليلين وتضادهما واذا كان هناك تضاد في الدليلين فهذا يعني صحة احدهما وخطأ الآخر والاصل في المسألة ان احدهما يكمل الآخر ولا يتعارض معه، وانما اصطلح بتعارض الادلة العقلية مع النقلية لأن الادلة النقلية لم تدرس على النحو الذي ينقيها وينقحها ويحققها تحقيقا تاما فلا تتعارض مع كتاب الله تبارك وتعالى ولا سنة رسوله (صلى الله عليه واله)، وعندئذ لا يكون ثمة تعارض بينها وبين العقل.

اذن فجدلية التعارض واقعة اصلا في تحقيق الادلة النقلية، والاصل ان هناك اتفاقا بين الكتاب والسنة حتى انه (صلى الله عليه واله) أسس قاعدة عريضة مهمة في معرفة الحديث النبوي الشريف في قوله (ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو مني، وما خالفه فليس مني)(5) وهذه القاعدة المهمة تؤكد ان السنة شارحة للكتاب ومبينة له.

وعلوم القرآن هي علوم تهتم بدراسة القرآن الكريم وآياته وألفاظه ومفرداته من حيث النزول والمحكم والمتشابه والخاص والعام والناسخ والمنسوخ والاعجاز الاقسام والامثال والجدل والقصص والغريب والمشكل والاعراب والبلاغة وغير ذلك من التقسيمات التي تصب كلها في مصلحة النص القرآني. والمفسر من خلال عمله التفسيري لا يمكن له إلا ان يتبع هذه العلوم كأدوات وآلات يستطيع من خلالها ان يصل الى مراده وهو الفهم الحقيقي لآيات الله تبارك وتعالى.

 واذا تتبعنا المنهجية التي سار عليها المفسرون على امتداد القرون بدءا بالقرن الثاني الهجري ووصولا الى قرننا الحالي لوجدنا ان المنهجية العامة للمفسرين لم تتغير كثيرا، ولكن الاتجاه هو الذي طرأ عليه الكثير من التطور والتغيير، فالاعتماد على تفسير القرآن بالقرآن والأثر واللغة وباستخدام بعض العلوم القرآنية هذه المنهجية التفسيرية معتبرة ومتبعة منذ القرن الثاني الهجري والى اليوم اما الاتجاه فقد تبدل وتغير كثيرا تبعا لتغير كثير من المفاهيم والايديولوجيات والحقائق. فعلى سبيل المثال لم يكن هناك تفسير اجتماعي في القرون الماضية وانما برز هذا النوع من التفسير تبعا للتطور الحاصل في المجتمع وكثرة التعقيدات التي طرأت عليه، الامر الذي جعل المفسرين والعلماء على حد سواء يبحثون عن حلول ناجعة لمجموعة المشاكل الحاصلة في المجتمع، وكذلك هو الحال بالنسبة للتفسير العلمي للقرآن الكريم او الفلسفي او البنائي او التاريخي، وغير ذلك من الانواع التفسيرية او المحاولات التي هي في الواقع من الممكن ان نقول عنها انها محاولات لربط الواقع المعاش بالقرآن الكريم، وذلك لأن القرآن كما هو معروف فيه نبأ ما قبلنا وخبرنا وخبر ما بعدنا، لذلك فالمحرك الاساس للمفسر في هذا الاطار هو الواقع وليس القرآن، فالمفسر في هذا الوضع ينطلق من الواقع الى القرآن وهو ما يعكس الارتباط الحقيقي بين القرآن والواقع. فالقرآن فيه الحلول التي تنشأ في الواقع والواقع بما يحمله من متغيرات مرتبط بالقرآن الكريم مما جعله محتاجا اليه بشكل مستمر وهذا الامر أثبت ديمومة القرآن الكريم وقيمومته على الواقع.

ان مفسري القرآن الكريم اعتمدوا مجموعة العلوم القرآنية في تفسيرهم للقرآن الكريم، وهذا الاعتماد في حقيقته جاء بسبب عدم التمكن من فهم الآيات إلا بالاعتماد على هذه العلوم. فمثلا لا يمكن لنا ان نفهم حقيقة آية مرتبطة بسبب نزول إلا بعد معرفة سبب نزولها، والمفسر اذا اراد ان يستنبط حكما شرعيا من القرآن الكريم عليه ان يعرف اولا الخصوص من العموم والاطلاق من التقييد والخاص من العام والاجمال من التبيين وكلها تفصيلات هي من صميم مجموعة العلوم القرآنية، هذا في اطار السبب الذي جعل المفسرين والعلماء يعتمدون على هذه العلوم في تفسيرهم للقرآن الكريم.

اما التساؤل الذي نحن بصدده فهو ما هي نسبة العلوم القرآنية التي اعتمدها المفسرون حقيقة في تفسيرهم لكتاب الله تبارك وتعالى؟ وللجواب عن هذا التساؤل يجب علينا اولا ان نستوعب تقسيمات هذه العلوم في هذا الاطار ومن ثم نقيّم عمل المفسر على ضوء ذلك.

ان مجموعة العلوم القرآنية كما اوردها العلماء والمفسرون كثيرة ومتنوعة ومتشعبة ويمكن لنا ان نجمل هذه العلوم برواية الامام الصادق (عليه السلام) عندما قال (واعلموا رحمكم الله أنه من لم يعرف من كتاب الله عز وجل الناسخ من المنسوخ والخاص من العام والمحكم من المتشابه والرخص من العزائم والمكي والمدني وأسباب التنزيل والمبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة والمؤلفة وما فيه من علم القضاء والقدر والتقديم والتأخير والمبين والعميق والظاهر والباطن والابتداء من الانتهاء والسؤال والجواب والقطع والوصل والمستثنى منه والجار فيه والصفة لما قبل مما يدل على ما بعد والمؤكد منه والمفصل وعزائمه ورخصه ومواضع فرائضه وأحكامه ومعنى حلاله وحرامه الذي هلك فيه الملحدون والموصول من الألفاظ والمحمول على ما قبله وعلى ما بعده فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله ومتى ما ادعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على الله الكذب ورسوله ومأواه جهنم وبئس المصير)(6)

فهذه وثيقة مهمة في تقسيم علوم القرآن الكريم التي يجب على المفسر معرفتها وعلى اساس هذه التقسيمات يمكن لنا ان نقيّم عمل المفسر.

جدير بالقول ان هناك الكثير من العلماء ممن اهتموا بانواع علوم القرآن وتقسيماتها كما فعل بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي المتوفى (794هـ) في كتابه القيم (البرهان في علوم القرآن): وقد قسّم فيه علوم القرآن الكريم الى عدة أقسام مثل اسباب النزول والمكي والمدني والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والخاص والعام والمطلق والمقيد ومنه حمل المطلق على المقيد ومنه حمل العموم على الخصوص وحمل الخصوص على العموم والعام المراد به العموم والخاص المراد به الخصوص والخاص المراد به العموم والعام المراد به الخصوص وغير ذلك من المباحث القيمة والتي لا غنى للمفسر عن معرفتها والكتاب مطبوع في اربعة أجزاء لمن اراد ان يطّلع عليه.

 وكذلك فعل جلال الدين السيوطي المتوفى (911هـ) في كتابه (الاتقان في علوم القرآن): الذي جمع فيه انواعا كثيرة لعلوم القرآن الكريم منها اسباب النزول وأول ما نزل وآخر ما نزل والمكي والمدني ومنها المحكم والمتشابه والخاص والعام والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ والفصل والوصل وغيرها وقد وصل ما جمعه الى تسعة وتسعين بابا فمن أراد أن يطّلع على تلك الاقسام فليراجع الكتاب المذكور. وقد كتب كذلك في هذه التقسيمات مجموعة من العلماء.

 إلا ان هذه التقسيمات بمنهجيتها وشروطها التي ذكرها الامام جعفر الصادق (عليه السلام) لم نجد لها تطبيقا كاملا في كتب التفسير. فعلى سبيل المثال لا الحصر قوله تبارك وتعالى (بل يداه مبسوطتان) المائدة: 64، جاء في تفسير ابن ابي حاتم عن يزيد النحوي عن عكرمة قال: يعني اليدين(7)

فحمل اليدين هاهنا على الحقيقة حمل ليس مبنيا على اصول قواعد العلوم القرآنية التي هي من اجلها اللغة واشتقاقاتها والمجاز والحقيقة حيث ان اليد هنا هي غير الجارحة كما يذهب الى ذلك الطباطبائي في تفسيره فيقول (وربما ذكروا لليد معاني مختلفة في اللغة غير الجارحة كالقدرة والقوة و النعمة و الملك و غير ذلك، لكن الحق أن اللفظة موضوعة في الأصل للجارحة، و إنما استعملت في غيرها من المعاني على نحو الاستعارة لكونها من الشؤون المنتسبة إلى الجارحة نوعا من الانتساب كانتساب الإنفاق والجود إلى اليد من حيث بسطها)(8)

فلو التفت الى الفرق بين المجاز والحقيقة لما صار السقوط الى مثل هذه الاخطاء التي حملت لفظة اليد على حقيقتها من دون تأويل، فالحقيقة كما اقر ذلك البلاغيون (ما اقرّ في الاستعمال على اصل وضعه في اللغة، والمجاز ما كان بضد ذلك، وانما يقع المجاز ويعدل اليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة وهي: الاتساع والتوكيد والتشبيه فان عدم هذه الاوصاف كانت الحقيقة البتة)(9)

والله سبحانه وتعالى لا شبيه له ولا مثيل فكيف تؤخذ هذه اللفظة على حقيقتها.

ولو اردنا ان نلقي نظرة بسيطة على تفسير قوله تعالى (وفوق كل ذي علم عليم) يوسف: 76، جاء في تفسير ابن الجوزي انه (اي فوق كل ذي علم رفعه الله بالعلم من هو اعلم منه حتى ينتهي العلم الى الله)(10)

وقد غاب عن فكر المفسر الفرق اللغوي بين اللفظين (ذي علم) و(عليم) فذو علم هو صاحب علم وهو المنسوب الى العلم بنسبة من النسب وليست كل النسبة. اما عليم فهي صفة على وزن فعيل والصفة اذا جاءت على وزن فعيل فتفيد الثبوت والدوام والاستمرار، وبهذا فيكون من الانسب ان نقول ان العليم هو الله تعالى وذي علم هو الانسان اكان رسولا ام نبيا ام عبدا من عباد الله، وهو ما تشير اليه الآية الكريمة (وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم) الانعام:13، وقوله (ان الله عليم قدير)النحل:70.

وكذلك ما قاله بعض المفسرين في قوله تبارك وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) النساء:43، اتعجب اشد التعجب بل واستنكر ما قاله جلال الدين السيوطي في الدر المنثور حيث ادعى نزول هذه الآية في الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) وجماعة فقال: (عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة، فقدموني فقرأت: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون )(11)

فلا ادري كيف اعلق على هذه الرواية الواضحة البطلان والتي لا تمت بصلة بالامام علي بن ابي طالب عليه السلام الذي تربى في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله ونهل من معينه الصافي، اما الرواية الصحيحة فهي ما اورده ابن العربي في احكام القرآن حيث قال (قال عمرو بن العاص صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: قل يا ايها الكافرون لا اعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون قال: فانزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)الآية، خرجه الترمذي وصححه)(12)

وقد علق ابن العربي على هذه الرواية بقوله: (وهذا حديث صحيح من رواية العدل عن العدل)(13)

وافضل من بين هذا النوع من التفسير السيد محمد باقر الحكيم في كتابه علوم القرآن حيث قال عنها وعن غيرها من الروايات انها من باب التفسير لأغراض سياسية وذلك بأن يتم نقل صفات المسيئين الى اوصاف المؤمنين او بالعكس، ولا اريد هنا ان اقف طويلا عند هذه الرواية وذلك ان الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لا يحتاج الى تعريف وكم انه بعيد عن هذه الاوصاف ولكنني اردت من خلال هذا الطرح ان أنوه بكمية الروايات الغريبة والضعيفة والمكذوبة التي توجد في بعض كتب التفسير والتي تحتاج الى مراجعة وتمحيص وهي ابعد ما تكون عن استعمال العلوم والادوات الخاصة بعلم التفسير، فأين التحري عن سبب نزول هذه الآية الكريمة فهل ان سبب نزول هذه الآية غاب عن ادراك المفسر ام انه تغافل عنه وفي كلا الحالين فقد اقترف خطأ جسيما الاول في تحريف سبب نزول آية والثاني التعدي على رجل قال فيه القرآن الكريم انه طاهر مطهر.

ولا بأس بذكر مثال رابع يوضح المراد، فقد حصل من جراء التساهل في اطلاق كلمة النسخ على تلك المعاني اللغوية، عدم تحديد مفهومه، ان كثرت دعاوى النسخ، وكثر استعماله في هذه المعاني وغيرها على ألسنة الصحابة والتابعين فكانوا يطلقون على المخصص والمقيد لفظ الناسخ..(14)

ومن الامثلة على اطلاق كلمة نسخ في غير محلها:

(روي عن ابن عباس ان الحكم في قوله تعالى (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ)(15) نسخه الحكم في قوله تعالى (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)(16)، بينما الواقع ليس ثمة نسخ بينهما والعلاقة بينهما علاقة الاستثناء من العموم، ولكل منهما حكمه المستقل عن الآخر، وهو شمول الحكم الاول لمن عدا المستثنى، وشمول الحكم الثاني للمستثنى فقط)(17)

وقد كان الامام الصادق (عليه السلام) عارفا بهذا الامر وقد حذر منه فقال (انهم ضربوا بعض القرآن ببعض واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ واحتجوا بالمتشابه وهم يرون أنه المحكم واحتجوا بالخاص وهم يقدّرون أنه العام واحتجوا بأول الآية وتركوا السبب في تأويلها ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ولم يعرفوا موارده ومصادره)(18)

ويعزو هذا السبب في هذه الاخطاء الى العدول عن اهل البيت عليهم السلام والاستغناء عن علومهم حيث يقول: ( إذ لم يأخذوه عن أهله فضلّوا وأضلّوا )(19)

فهذه كتب التفسير اشتملت على كثير من المرويات الاسرائيلية والاحاديث الضعيفة والمنكرة والمكذوبة وتضمنت الكثير من الآراء الشخصية والسياسية وابتعدت عن الموضوعية، ولا ادعي ان كل المفسرين نهجوا هذا النهج ولكننا نادرا ما نرى مفسرا متجردا عن ذاته وموضوعيا بقدر ما للكلمة من معنى، يفسر القرآن بطريقة تجعلنا ننساق اليها من دون تأخير ولا تخيير، وذلك راجع لعدة اسباب منها ان الكثير من المفسرين قد ولجوا هذا الطريق من غير أدوات ولا آلات تعينهم فيه على ذلك فغرقوا في ذلك البحر اللجي ومنهم من لم يستكمل أدواته بعد وانخرط فيه ومنهم من ادعى معرفة هذه الادوات حتى وصل به الامر الى حد الاسفاف فاستشهد بكثير من الروايات والاحاديث دون معرفة السقيم منها من الصحيح والغث من السمين واستنبط الاحكام من دون تمييز وترك المحكم وتمسك بالمتشابه فضلّ وأضلّ وبالغ في النسخ حتى اوصله الى اكثر من مائة آية بل وجعل آية واحدة تنسخ مائة اية ولم يفرق بين الاستثناء من العموم والخصوص فيه من النسخ الواقع في الآية ولم يراع المكي من المدني في الآيات المنزلة واتبع الخاص على خصوصه والعام على عمومه ولم يراع التقييد فيه والتخصيص ولم ينظر الى اللغة واشتقاقاتها ومعاني مفرداتها وأصولها وافعالها ومصادرها المختلفة بما ينعكس ذلك على الفهم، الى غير ذلك من التقسيمات التي لم يراع البعض من المفسرين اهتماما بها ولا العمل بها جهلا او تنكرا او حتى تعمدا لاغراض في نفوسهم، فسيحاسبهم الله تبارك وتعالى عن كل ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم.

ومن خلال هذه السطور البسيطة أوجه دعوة لكل المتخصصين بعلم التفسير وعلوم القرآن ان يراعوا هذه العلوم مراعاة كافية شاملة قبل ان يبدأوا في اي عملية تفسير للقرآن الكريم، وعلينا جميعا تقع مسؤولية تنقيح ما كتبه الاقدمون بالاعتماد على القواعد والعلوم القرآنية. وفقنا الله جميعا لذلك والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين وآله الطاهرين.

...............................................

المصادر والمراجع:

1 – الحدائق الناضرة: المحقق البحراني ج6 ص 355

2- تفسير العياشي ج1 ص17 طهران

3 – المصدر نفسه ج1 ص17

4 – المصدر نفسه ج1 ص17

5 - أحكام القرآن - الجصاص - ج 1 - ص 629

6- الكاشاني الفيض: تفسير الصافي ج 1 ص 39، ط2، مؤسسة الهادي، قم،1416هـ

7 – تفسير ابن ابي حاتم ج4 ص 1168 تحقيق اسعد محمد الطيب – المكتبة العصرية – صيدا

8 – الميزان الطباطبائي ج 6 ص 34 منشورات جماعة المدرسين - قم

9 – الخصائص ابن جني ج2 ص 442 تحقيق محمد علي النجار المكتبة العلمية – دار الكتب المصرية

10 – زاد المسير: ابن الجوزي ج4 ص 197 تحقيق محمد بن عبد الرحمن عبد الله – ط1 – دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت – 1407 – 1987

11 – الدر المنثور: جلال الدين السيوطي ج 2 ص 165 دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت

12 – احكام القرآن: ابن العربي ج 1 ص 551 تحقيق محمد عبد القادر عطا دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت

13- المصدر نفسه ص 552

14 – انظر مصطفى زيد: النسخ في القرآن الكريم ج 1 ص 73 -110 – دار الفكر العربي القاهرة 1963

15 – الشعراء: 225 – 226 - 227

16 – الشعراء: 227

17 – انظر فرج توفيق وفاضل شاكر: علوم القرآن المنتقى ص 168 دار الحرية للطباعة بغداد 1978

18- الكاشاني الفيض: تفسير الصافي ج 1 ص 39، ط2، مؤسسة الهادي، قم،1416هـ

19 – المصدر نفسه

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 27/نيسان/2011 - 24/جمادى الاولى/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م