عندما اندلعت المظاهرات في شبه الجزيرة العربية وثار الشعب على
نظامه الملكي، سارعت هيئة العلماء بمملكة آل سعود الى تحريم التظاهر
والاحتجاج على الملك بدعوى أن الخروج على الحاكم غير جائز شرعا ويخرج
صاحبه من الملة، وهذه ليست المرة الأولى التي تخرج فيها هيئة علماء
المملكة من جعبتها الفتاوى والاجتهادات لتحرم وتمنع حق هو معلوم للناس
من الدين بالضرورة – ان تكلمنا بالشريعة – وأوجبه الله تعالى على عباده
وهو رفض الظلم والقهر والاستبداد من خلال الوسائل والطرق السلمية.
فالشريعة أعطت الرعية الحق في مراجعة الحاكم والاحتجاج عليه
ومنازعته ومقاتلته هو وجنده اذا استدعى الأمر، بل وجعلته من الواجبات
الشرعية والفرائض العينية على كل مسلم تعرض للظلم والاجحاف وذلك بنص
عشرات الآيات القرآنية والاحاديث النبوية التي تحث المسلمين على رفض
الظلم والقهر والاستعباد مثل قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ
النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا
يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) النساء (58)
وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون) (المائدة 8) وقال
أيضا في سورة النحل الأية/90 إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
وقال رسول الله (ص) أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر – أو أمير
جائر وقال ايضا "سيد الشهداء حمـزة بن عبد المطَّلب، ورجـل قام إلى
إمـام جائر، فأمره ونهاه، فقتله". وقال ايضا (ص) ((والذي نفسي بيده
لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث
عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم، وكان صحابة رسول الله (ص)
يقولون للخليفة لو راينا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا، فيحمد الخليفة
الله أن جعل في أمة محمد (ص) من يقومه بسيفه، والمتظاهرون المحتجون في
مملكة آل سعود لم يرفعوا سيفا ولا حتى خنجرا في وجه أحد، فقط رفعوا
اصواتهم مطالبين بحقهم في ما من الله عليهم به من ثروات وخيرات في باطن
ارضهم يسدون بها رمق جوعهم واحتياجاتهم الآدمية فقط، الا أن فقهاء
السلطان الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان وتحديدا في هذه الارض
المقدسة سارعوا كما اعتاد اسلافهم الى استدعاء الاحاديث الموضوعة
والقواعد الفقهية المشبوهة التي دونت في أشد عصور الأمة الاسلامية قهرا
واستبدادا للتحذير من الخروج على الحاكم ومنازعته والا فالقتل هو مصير
كل مخالف.
هذه الفتاوى والاجتهادات والقواعد الفقهية المغلوطة هي امتداد لمنهج
فقهي تاريخي يمتد من منتصف القرن الاول الهجري تقريبا حتى اليوم،
يستعين فيه الحاكم ببطانته من الفقهاء وحملة المباخر لاستصدار الفتاوى
والأحكام المجحفة للقضاء على خصومه والمعترضين عليه حتى ولو كان هذا
المعترض الثائر رجلا واحدا.
قديما وفي عهد الدولة الأموية تحديدا صدرت الاوامر من الخليفة بأخذ
البيعة من الامام الحسين بن علي سبط رسول الله (ص) أو قتله، وبالفعل
خرج جيش خليفة المسلمين الى صحراء الجزيرة العربية يطلب الامام الحسين
حتى لحق به في كربلاء فحاصره وأهل بيته ومن معهم اياما منعوا عنهم
خلالها الماء ثم قتلوهم جميعا وفصلوا رؤوسهم عن أجسادها، وحملوا الرؤوس
على اسنة الرماح الى خليفة المسلمين آنذاك يزيد بن معاوية الذي كان
يعرف لشدة فسقه وفجوره بيزيد الخمور ويزيد الفجور، وفي الطريق كان أهل
القرى يخرجون لاستقبال الجيش المنتصر والتهليل له وكيل السباب والشتائم
لمن بقي من نسل رسول الله (ص) السيدة زينب ومن معها والتنديد بهم
قائلين (الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب احدوثتكم) ذلك ان وسائل
الاعلام في الدولة الاموية كانت قد اشاعت في البلاد أن جيش المسلمين
خرج يطارد المارقين الخارجين على الدين وعلى أمير المؤمنين يزيد بن
معاوية ويريدون شق عصا المسلمين، وايدوا فتاواهم هذه بأحاديث نسبوها
الى رسول الله (ص) مثل (من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد
عصاني) وكذلك (أسمع وأطع وإن جلد ظهرك وأخذ مالك) وعندما كان الناس
يضجون من ظلم هؤلاء الطغاة المتجبرين ونهبهم لأموال المسلمين، يقولون
لهم (أنه يكون أمراء تعرفون منهم و تنكرون، قالوا (فما تأمرنا ؟) قال
(أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم) وهو شبيه بمقوله (أعطي ما لله لله
وما لقيصر لقيصر).
والمتأمل لهذه المقولات الزائفة يدرك بعين المبصر ان حياة المسلم في
ظل هذه الانظمة لا تختلف كثيرا عن حياة العبودية والرق التي كانت سائدة
قبل الاسلام في في شبه جزيرة العرب بل ربما كانت حياة العبيد أفضل
بكثير من حياة هؤلاء، فحتى العلاقة بين العبد وسيده كانت تحكمها
القوانين والاعراف السائدة آنذاك التي ما احترمها العبد فقد نجا بنفسه
وأهله وماله من بطش السادة والكبراء، أما ما يريد هؤلاء أن يجعلوه دينا
ويلزمون الله به ويفرضونه عليهم فلم تعرف البشرية له مثيل قديما او
حديثا ولا عجب ان يخرج المسلمون من بلادهم زرافات الى الدول الغربية (الكافرة)
بحثا عن العدل والحرية والقوانين التي يتمتع في ظلها الانسان بحقوقه
وحياته ويستشعر آدميته وكرامته وانسانيته مهما كان دينه أو فكره أو
مذهبه.
لكن متى كان الإسلام يطلب من المسلم ان يستسلم لحياة الذل والهوان
والاستعباد ويتنازل عن حقوقه التي اكرمه الله بها وينزع روح الثورة من
نفوس أتباعه ويميت الإحساس بالكرامة والعزة في قلوبهم ؟ ومتى هادن
الاسلام الظلم ومكن ومد له في سلطانه وجبروته ؟ الإسلام يأبى الضيم
ويأبى لأحد من أبنائه أن يقر عليه أو يهادنه ويجند لذلك ضمير المسلم
وإرادته وقواه وعامة مشاعره ويؤسس على ذلك بناء المجتمع المسلم، فليست
كرامة الفرد حقاً خاصا به له ان يقيمها في نفسه او يتنازل عنها، ولكنها
كرامة الإسلام نفسه وكرامة المجتمع المسلم الذي يعيش فيه ولا تستقيم
حياته ولا يقبل الله منه اعماله الا بها.
أما هؤلاء الذين نصبوا من أنفسهم آلهة يعبدون من دون الله وأعطوا
لانفسهم الحق أن يحرموا للناس ما أحل الله لهم ويزينون لهم ما حرم الله
عليهم، وجعلوا من انفسهم احبارا ورهبانا وأندادا لله وهم يعلمون وبلغوا
من الحقارة والانحطاط درجة لم ينحط اليها بشر ولا مخلوق، فشبهوا على
الناس دينهم وخلطوا عليهم أمرهم فجزوا عن ان يفرقوا بينهم، بين هو على
دين الله ولا يبتغي الا مرضاته وبين من هو على دين السلطان ولا يبتغي
ايضا الا مرضاته، الا ان الامام علي وصفهم وصفا بليغا دقيقا ما سبقه
اليه أحد ولا لحقه فقال: وأحذّركم أهل النّفاق فإنّهم الضّالّون
المضلّون، و الزّالّون المزلّون، يتلوّنون ألوانا، و يفتنّون
افتنانا... قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا، و لكلّ قائم مائلا، و لكلّ حيّ
قاتلا، و لكلّ باب مفتاحا، ولكلّ ليل مصباحا، يتوصّلون إلى الطّمع
باليأس ليقيموا به أسواقهم، وينفّقوا به أعلاقهم، يقولون فيشبّهون،
ويصفون فيموّهون، قد هوّنوا الطّريق، وأضلعوا المضيق، فهم لمّة
الشّيطان وحمّة النّيران « أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ
حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ». |