في الثورة التونسية

محمد بن مسعود

اختفي لويس الرابع عشر(... ) ولم يتوقف المعاصرون قط عن الإعجاب بانحطاط عهد عظيم. لقد فرحوا جميعا بالانعتاق ولم يتأسف احد على الملك

ألبير سوريل: منتسكيو

 

 لا جدال بأن ما حدث في تونس يمثل ثورة مغامرة. ولكن يبدو أنها تحتاج لتوصيف: فهي ثورة من حيث أنها تعد بضرورة القطع مع الماضي في صورته الاستبدادية. وهي مغامرة إذ تدفع بالشعب التونسي نحو شق طريق لم يشقها من قبل من اجل ممارسة القيم التي ترسخت بفضل التعليم والفن والايدولوجيا في ذكاء المثقف التونسي منذ عهد الأمان. ولكن هذا التوصيف ليس معطي بل يحتاج إلي تحليل نقدي من خلال اختباره في ضوء الفرضيات التالية:

* إن الاستبداد في تونس شاملا ومنهجيا وممأسسا

* المجتمع المدني في تونس بلا تاريخ

* تختزل القوي المدنية والسياسية الفاعلة اليوم في المجتمع التونسي مطلب الديمقراطية في المشاركة في الحكم

 فهل بإمكان الثورة التونسية أن ترسم ملامح هذا المواطن القادر على التحرر فعليا من علاقات الاستبداد والتبعية؟ وإذا ما تحقق هذا المطلب أي ديمقراطية تضمن بناء مشروع المواطنة؟

1 /بنية الاستبداد في عهد نظام بن على

 إن الاستبداد يختزل أفراد الدولة في كونهم حشود multitudes أي كعدد من البشر تعرف بالأرض التي يسكنون وما يترتب عنها من علاقات قرابة وولاء دون الاعتراف بحق الفرد وإرادته. ففي هذه الحالة يعد الفرد مجرد شخصا طبيعيا أو تابعا وبالتالي لا يستطيع أن يكون مواطنا. وإذن فانه لا شك في أن عهد بن على قد أجهض انبجاس مفهوم المواطنة والحق من خلال خطاب ديماغوجي بواسطة نصوص قانونية معيارية وشكلية من جهة ورفع المسافات بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني بشكل تعسفي وقمعي.

 فمن جهة الخطاب اعتمد نظام بن على علي مرجعية قانونية وضعية positiviste وشكلية. فهي وضعية من حيث أنها تعالج القيم القانونية وفقا للمعطي الاقتصادي من جهة النجاعة l’efficacité وبالتالي فان القواعد القانونية لا ينظر إلا في بعدها الأداتي أي تلك الوسيلة التي ينبغي أن تتحرك في خدمة أهداف محددة بمفاهيم اقتصادية مثل تأويج الثروات maximisation des richesses (1) ولكن هذا التأويج لا يخص المجتمع وإنما هو محتكر من قبل مجموعة أفراد تحكمها علاقات السلطة والقرابة والولاء. ومن ثمة فقد الحق استقلاليته وشرعيته واختزل في بعده الشكلي و البرغماتي الضامن لنجاح المشاريع التعسفية التي يتغذي منها النظام ذاته. كما يظهر مثلا بوضوح في تعامل سلطة بن علي مع حرية التعبير في مجال الصحافة فهو يحرضهم على التخلص من الرقابة الذاتية ثم يرشح جملة من الفاسدين لإدارة العمل الصحفي لتبرير التعسف وإخفاء الفساد وتصفية الحقوقيين بشكل منهجي لدرجة فقدان المواطن التونسي الإحساس بالحقيقة (2).

 أما من جهة العلاقة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني فيبدو أن نظام بن علي قد أعاد إنتاج النموذج الفاشي كما حلله المفكر غرا مشي. فالمجتمع المدني بماهو جملة المؤسسات التي تعمل إيديولوجيا كتصور للعالم يغطي فروعا مختلفة كالعلم والقانون والأدب والفن حاضر بالغياب. فهو حاضر عن طريق فئة المثقفين ككل مركب من كتاب وفنانين ومعلمين وأطباء وسياسيين وإداريين ولكنه غائب بحكم خضوع المجتمع المدني اللامشروط للمجتمع السياسي الذي يطابق من حيث المضمون السيطرة القيادية المباشرة المتمركزة على الإكراه coercition والتعسف (3) والعنف الإرهابي. وبذلك تحول الفضاء الاجتماعي في حيزه الخاص والعام إلى نظام محتشدي يقوم على الرعب والحيلة على غرار لويس الرابع عشر في فرنسا مما كرس ثقافة الخوف وجعل من المساواة عدمية باعتبار أن كل الرعايا متساوين أمام المستبد ولذلك كان كل شيء في تونس هذا العهد يتمحور حول فكرة أو فكرتين أو ثلاث أفكار الأمن وكالتضامن والتنمية مع رفض الأفكار الجديدة: فعندما تروضون حيوانا احذروا أن تغيروا له المروض والتمرين والسرعة واسترعوا انتباه عقله بحركتين أو بثلاث حركات لا أكثر (4).

لكن السؤال: هل كان بن على قادرا، وهو الضعيف من الناحية الثقافية والأخلاقية(5)، على تصور مثل هذه العلاقة بين المدني والسياسي.؟

 إن إدارة بن علي للبلاد لا تكمن في شخصيته التي تفتقر للبعد الكاريزماتيكي وإنما في قصوره الفكري والأخلاقي الذي دفعه إلى استثمار أطماع المثقف المقاول(أو المثقف المهرج حسب تنميط يوسف القعيد) (6) في أوائل التسعينات الذي توهم انه يمكن أن يحقق مشاريعه بمجرد التحالف مع السلطة. ولكن هذا المثقف تمسك بالسلطة وتنازل عن مشاريعه الثورية في التعليم والاقتصاد والسياسة والقيم وذلك على اثر انخراطه في الورشة الليبرالية التي صنعت منه مثقفا مقاولا ينجز مهامه باعتباره خبيرا يختزل الثقافة برمتها في الرهان لا في المبدأ ويلزم مكانه من حيث أن استمراره رهين الولاء استمرار سلطة بن على في السلطة والمحافظة عليها.

 نستنتج إذن أن نظام بن علي كان فاسدا مرتين. فهوفاسد أولا لأنه أجهض مشروعا حقوقيا يكاد يكون ملحميا من جهة انه يتعلق بمفاهيم حقوقية أساسية كالمواطنة والحرية والعدالة والديمقراطية وتسبب في انحراف الثقافة التونسية التي فقدت أصولها الاجتماعية فأصبحت بلا مرجعية تحمل أفكارا بلا فكر أضحي فيها المجتمع المدني بلا مدينة وحقوق الإنسان بلا إنسان والمؤمن بلا دين. لكن هل بإمكان الثورة أن تعالج هذه المفارقات؟

2 / قراءة لمسار الثورة

 إن مشهد احتراق البعزيزي ليس مجرد حدث عابر لشخص مهمش ومعتوه بل انه حدث متفرد من حيث أن اشتعال جسده اقترن باشتعال الثورة. فرسالة البعزيزي كشفت عن مفاتيح الدخول لتفكيك نظام متماسك وقمعي بأسلوب عنيف ولكنه مباغت لكل أجهزة المراقبة والعقاب وذلك من خلال حيلة الموت المنفلتة من الحساب العقلي الذي عادة ما يدفعنا بالتضحية بالحرية من اجل الحياة حتى يكون لصراع الاعتراف معني ما على غرار ما نجد ذلك في جدلية العبد والسيد عند هيغل (7). وتكمن هذه الحيلة في كون اشتعال جسد البعزيزي ليس مجرد حالة من تدمير الذات يعبر عن انحراف رغبة الحياة تجاه رغبة الموت – التناتوس- بل تمرير لفعل التمرد بالنسبة لمن اختار قصديا البقاء حيا. ولعل حكاية نصر الدين جحا، التي يرويها بودريار*، توضح هذه الحيلة: كان جحا يعبر الحدود كل يوم بصحبة البغال محملة الاجربة وفي كل مرة كان يتم تفتيش الاجربة ولا يعثر فيها على شيء وكان نصر الدين يواصل اجتيازه اليومي للحدود بصحبة بغاله. وبعد سنوات سئل عما كان يهرب عبر الحدود، فأجاب جحا: كنت اهرب البغال. ((8

وبالتالي فالرسالة التي كان يهربها البعزيزي تتمثل في التمرد والثورة التي ستترجم رمزية الموت في شعارات تحرض على الحياة والحرية والعدالة. وهنا بالتحديد تكمن الفرادة في موت البعزيزي الذي حول الحدث إلى تحدي النظام المغرق في العقلانية الباردة والمحمي بإستراتيجية أمنية إرهابية بما يسميه، ببلاغة فائقة الفقيد بودريار، بالهبة الرمزية للموت كسلاح مطلق (9)، وضمن هذا السياق لابد أن نؤول موت هذا الشاب دون أن نفترس ذكراه نحن الذين لم نختبر الموت.

 إن الشعار الأساسي الذي حرك ثورة تونس منذ بدايتها في سيدي بوزيد والقصرين وقفصة وقبلي وصفاقس يتمثل في الشغل استحقاق يا عصابة السراق. تكمن قيمة هذا الشعار في عبارة الاستحقاق من حيث أنها محملة بدلالات اقتصادية -سياسية واجتماعية وحقوقية ستسمح للمجتمع المدني بان يتحرر من هواجسه وينخرط ضمن الثورة بصفة شرعية. وبالتالي من الخطأ أن نعتقد بان مؤسسات المجتمع المدني هي التي صنعت الثورة بل الثورة هي التي حررت هذا المجتمع الذي يبدو انه بلا تاريخ. كيف نفهم هذه المفارقة؟ بأي معني تحولت شعارات من حالة من التعبير التلقائي إلى فعل تاريخي يصنع التاريخ؟

 تفيد عبارة الاستحقاق Mérite أن يحصل المرء بشكل عادل على معاملة تناسب طموحاته التي تصاحب الوعي بواقع الضيم Démérite (10) القائم على الانتقاص في توزيع الثروة داخل البلاد التونسية. إذن فالاستحقاق لا يحمل على فكرة العدالة بشكل مطلق وإنما يقال على مبدأ الإنصاف في المعاملة الاقتصادية والاجتماعية من قبل الدولة من حيث أنها تتمثل من قبل هؤلاء الثوار كدولة راعية ولكنها بلا رعاية في سلوكها تجاه شعبها. ويبدو هذا الوعي قد أنتج اقتران طلب الحق من حيث انه استحقاق بإدانة أخلاقية وقانونية للدولة التي حولها الفساد إلى دولة متخندقة يديرها جملة من اللصوص مما أضفي على سياسة هذه الدولة طابعا اليقارشيا l’oligarchie يقوم على التحالف السافر بين السلطة والمال الذي يتمثل في تمكين الأغنياء من السلطة واحتقار الفقراء (11) بقمعهم امنيا.

 وضمن هذا السياق تطور الشعار يوم 14 جان في 2011 إلى مطلب سياسي جذري صاغه الثوار في الساحات العمومية: الشعب يريد إسقاط النظام رغم توسلات بن علي أثناء الخطاب الأخير. إن قيمة هذا الشعار تكمن أولا في إرباك الجهاز الأمني ومباغتته من خلال محاصرة وزارة الداخلية وثانيا في التأكيد على أن الدولة التي يريدها الشعب هي تلك الدولة التي تستمد مشروعيتها لا من قدرتها على حفظ الأمن وإنما من الحق مما يسمح من بناء مؤسسات عادلة تسمح للمجتمع المدني من الظهور كحيز حقيقي لممارسة المواطنة على أساس الحوار العقلاني والديمقراطي ضمن ميدان عام متعدد. لكن هل بإمكان المواطن التونسي أن يحقق هذا الرهان خاصة بأنه لا يزال مثقلا ببراديغم الطاعة وتراكم الاستبداد أم انه قادر على خوض مغامرة الديمقراطية ولودون مشاريع حاله كالسجين الذي لا يفكر ما وراء باب سجنه؟

3 / تحديات الثورة

 إن التحدي الحقيقي للثورة يكمن في تصور المجتمع المدني وعلاقة الفرد بالدولة ومسالة التعددية الديمقراطية، ولذلك فان نجاح الفعل الثوري يكمن بحق في اختبار هذه المفاهيم لا بشكل دغمائي وإنما على أساس مساءلة نقدية لهذه التصورات ذاتها: فهل من تاريخ للمجتمع المدني بتونس؟ وهل أن التعددية الديمقراطية تعددية شكلية أم أنها تعددية فعلية وحقيقية؟

أ/ إشكالية المجتمع المدني

 إن المتأمل في تاريخ الأفكار السياسية بالبلاد التونسية منذ عهد الأمان يلاحظ أن المجتمع المدني ببلادنا بلا تاريخ من حيث انه، كما كان يلح دائما الطاهر لبيب، مجتمع الضدية المقصاة سواء من جهة الدولة التي تستعمله لتحديد من هم ضدها ومن هم معها او سواء من جهة الفاعلين الاجتماعيين الذين بدورهم يتبادلون التهم والأدوار على أساس الولاء للدولة والخروج عنها وفقا لمعايير تندرج ضمن الوطنية المبتذلة كالوفاق الوطني والعمالة للخارج والتقدمية والسلفية... وفي الواقع غاب المجتمع المدني في تونس لسببين: أولا اختزل المجتمع المدني كفضاء ضد الأخر منذ تشكل الدولة الوطنية كآلة تنتج الإقصاء العنيف في صورة الحزب الواحد. ثانيا ارتبط المجتمع المدني بجملة من ثنائيات العقل العربي عموما المنقسم بين الديني والمدني من جهة والخلط بين الثورة والفتنة من جهة أخري. ويظهر ذلك بوضوح في الحراك السياسي في تونس سواء في عهد خير الدين أوفي عهد الدولة الوطنية في جميع مراحل تكونها وأزماتها.

 لقد فشل العمل بالدستور سنة1861بحكم التدخل الأجنبي الذي اجبر الباي على إعطاء الحرية لشعبه ولكنه اجبر على سحبها ولكن المشكل يكمن في عجز النخبة على معالجة السؤال الأهم الذي صاغه ألبرت حوراني كما يلي: كيف يمكن للمسلمين أن يصبحوا جزءا من العالم الحديث دون أن يتخلوا عن دينهم؟(12). يبدو هذا السؤال مدويا اليوم بالنسبة للحركات الإسلامية السياسية كالنهضة في تونس والإخوان المسلمين في مصر خاصة أننا لا نعلم حقيقة المراجعات التي مارستها قياداتها والتي تعد بها اليوم الجماهير في خضم الثورة على الاستبداد المدني في تونس. ولذلك فإننا لا نعلم حقا مدي نسيان قواعد النهضة لسنين العذاب والتهميش والإقصاء الذي مارسته الدولة وصمت عنه المجتمع المدني. ولذلك فمشكل النهضة اليوم مزدوج: فهي من جهة ينبغي أن تستأنف الحوار حول قيم الحداثة وعلاقتها القيم الإسلامية ومن جهة أخري يجب أن تساهم إلى جانب المجتمع في إعادة بناء ذاكرة ضحايا المساجين من كل رغبة انتقامية بالتأكيد على أن هؤلاء الضحايا لا ينبغي أن ينسوا بل يمكن أن يصفحوا. فالصفح هو نوع من شفاء الذاكرة وهو إنهاء لحدادها حيث أنها تحررت من أجل مشاريع كبري. فالصفح يمنح للذاكرة مستقبلا(13) في حين أن الانتقام لا يولد إلا العنف والشر المطلق.

 يبدو أن انخراط هذه الحركة في الثورة يخفف من وطأة هذه الشكوك باعتبار أن الخطاب الديني لم يتورط كالعادة في إدانة الثورة واعتبارها فتنة * وإن استبدل هذا المفهوم كغيره من بقية القوي السياسية العلمانية بمفهوم خيانة الثورة الذي أصبحت تختزل في بعدها السياسي والمشاركة في الحكم عوض المساهمة في ردم الفراغ الذي خلقه النظام بين الدولة والمجتمع المدني، وتفعيل العلاقة بين الحراك الاجتماعي والحراك الديمقراطي كما حدث إبان الثورة الفرنسية سنة في ربيع سنة. على هذا الأساس فنجاح الثورة اليوم لا يتمثل في الاستيلاء على السلطة وإنما في بناء المجتمع المدني كحيز للحوار الديمقراطي بين المواطنين دون إقصاء أو تأثيم حتى يتسنى لنا بناء دولة ديمقراطية تكون فيها السلطة للشعب تمارسها عبر مؤسسات سوية مسلحة بالشرعية مما يسمح الفاعلين الاجتماعيين ببناء مشاريعهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وفقا لطموحات الثورة: العدالة والمواطنة والحرية.

ب/ إشكالية الديمقراطية

 إن الديمقراطية تمثل التحدي الأكبر أمام النجاح التاريخي للثورة التي تواجه مشكلات في غاية التعقيد. ويمكن اختزالها في الفرضيات التالية:

- إن الثورة تجرب الديمقراطية بلا مشاريع: إن هذه الفرضية لا تسوغ للفوضى كما يلمح بذلك من لا يزال خياله المريض سجين الماضي أوانه لم يتحرر من التصور القاصر للإصلاح كما تمثله للشيخ محمد عبده الذي يؤكد بان النهضة في الشرق لا يضطلع بها مستبد عادل وإنما تفيد اعتماد منهج التجربة والخطاء، فطاغور يري انه إذا أغلقت كل أبواب الخطأ فان الحقيقة تبقي خارجها. لكن لا يفيد هذا المنهج السقوط من الناحية الابستمولوجية في الارتياب وإنما هو تمشي يكتشف عوائق الديمقراطية في نفس الوقت الذي يفتح أمامها الطريق، مما يجعل المشروع، ليس إجراءا شكليا بل مغامرة إنسانية حاملة لمطالب كثيرا ما حلم بها المواطن التونسي والعربي منذ حروب التحرير ضد الاستعمار ويمكن في المستوي أن نذكر بلائحة المطالب التي رفعها سعد الدين إبراهيم (14):

*الديمقراطية في مواجهة الاستبداد

* العدالة في مواجهة الاستغلال

*الوحدة العربية في مواجهة التجزئة

* الاستقلال في مواجهة الهيمنة الأجنبية والمشروع الصهيوني

* التنمية المستقلة في مواجهة النمو المشوه والتبعية

*الأصالة الحضارية في مواجهة التغريب والمسخ الحضاري(خاصة في زمن العولمة)

- هناك صعوبة في تمثل الوعي الجماعي في تونس لديمقراطية تعددية: فرغم أن الوعي العام حسم أمره تجاه براديغم الطاعة القائم على مبدأ ميكيافلي القائل من اشتدت وطأته وجبت طاعته(15) إلا انه لا يزال يتصور الديمقراطية في طابعها الاخضاعي القائم على أساس رد الوحدة للكثرة مما يحول العقد الاجتماعي كأساس للحرية المدنية والسياسية إلي عقد تفويض كأساس للأمن la sécurité بنوع من المصالحة المستحيلة بين فلسفة روسو وهويس كما يظهر في سلوك الحكومة الحالية (وبعض معارضيها) التي تعتقد أنها تمتلك الخير وبالنتيجة لديها الحق في فرضه على الجميع. ولذلك لابد لنا أن تجاوز هذه الاستحالة التي تسيطر على بنية تفكير الرأي العام في اتجاه الديمقراطية التعددية التي تقوم بحق على استقلالية كل من السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية كأساس لسلطة الدولة مما يسمح بالتعددية الحزبية وتعدد مصادر المعلومات كما يقول تودوروف(16)الذي يؤكد بان قبول التعددية هي خير وسيلة لحماية استقلال كل طرف ولضمان مؤازرته وتأييده عن بعد.

 إن الديمقراطية التعددية هي الضامن لبناء مجتمع مدني حقيقي كحيز تسوده قوة الحجة كبديل عن حجة الأقوى من خلال تحرير الرأي العام من إعادة إنتاج ثقافة الخنوع والولاء والعصبية إلى إبداع ثقافة بديلة تجعل من الرأي العام قوة تقوم على النقد والتسامح بد ل العنف والانتقام. لكن هذا الرهان يحتاج إلى تحليل انتروبولوجي نقدي لبنية الطبيعة الإنسانية للمواطن التونسي التي شكلها النظام الاستبدادي منذ الاستقلال على أساس انفعالات سلبية كالخوف والموت والكراهية(17) يغذها عقل حسابي بارد ومغرق في الأداتية. تتمظهر سيادة هذه الانفعالات في الجهوية والعنصرية وعدم الاكتراث المدني كما توحي بذلك بعض الأمثال التونسية: اخطي راسي واضرب وعندما يأتي الطوفان أضع ولدي تحت أقدامي وأطع من تخدم... ولذلك يري الأستاذ سليم اللغماني بان العائق الأساسي أمام الديمقراطية في تونس والوطن العربي يتمثل في كون الوعي العام متأخرا عن المستوي الذي وصلت المؤسسات والأطر القانونية ويكفي التثبت من ذلك أن نثير الشحنة التي تحدد معني كلمة حاكم في اللغة الدارجة (18)التونسية بالإضافة لعبارة التعليمات والمعلم (بفتح العين وكسر اللام).

 إن الديمقراطية التعددية تتحرك وفقا لنظام مختلف من الانفعالات كالشجاعة والحياة والحب (19) أي تلك الانفعالات الايجابية المحايثة لعقل مستنير وتواصلي تفعل نفوذ الرأي العام règne de l’opinion publique. يقوم هذا النفوذ حسب هابر ماس على ثلاثة مبادئ: (20)

* يفرض النقاش على السلط البحث جماعيا في الحقيقة

* إن انشغال هذه السلط بهذا البحث ينبغي أن يكون ذو طابع عمومي حتى يتابعه المواطنين

* تتمثل حرية الصحافة في تحريض المواطنين أنفسهم من أجل البحث عن الحقيقة وقولها للسلطة

 بهذا المعني فقيمة الديمقراطية التعددية لا تتمثل في أسس مشروعية نظام القانوني تكنوبيروقراطي يقوم على الخلط بين سلطة الدولة والإدارة مما يحول قوة القانون من ضامن للحقوق إلى مجرد إجراءات معقدة قد تبرر التعسف وتعميم اللامسوؤلية بحجة مصلحة الدولة وهيبتها التي تعبر عن نفسها في شكل تعليمات. وبهذا قد تعبر الديمقراطية عن الشعب ولكنه يحرم من ممارستها. ولذلك فالديمقراطية التعددية تعتمد على المبدأ الديمقراطي démocratique principe le المشتق من المناقشة الحرة والشفافة وفقا لقانون الحجة الأفضل كما يقول هبر ماس (21) مما يجعل من دولة المؤسسات هي دولة الحقيقة لا الشكل ودولة المجتمع لا دولة الأفراد أو العائلات أو العشائر أو الجهات. ولكن هذا المبدأ يحتاج أولا إلى ثورة ثقافية وإلى البحث في مبادئ جديدة لعقد اجتماعي يتجاوز أزمة الدولة في صورتها القانونية الشكلية.

* أستاذ فلسفة بالمعاهد التونسية

البريج - تاكلسة

.............................................

الهوامش والمراجع

(1)Benoît frydman ,les nouveaux rapports entre droit et économie …in le droit dans la mondialisation ,sous la direction de Monique chemillier – gendreau et Yann Moulier –Boutang édition puf ,p 59 (2)يمكن مراجعة أرشيف صحيفة الحدث التونسية خاصة الحملات التي أدارها عبدا لعزيز الجريدي ضد الإسلاميين في مطلع التسعينات وضد جمعيات حقوق الإنسان منذ حوالي سنتين وخاصة المناضلة سهام بن سيدرين (3)الطاهر لبيب، سوسيولوجية الثقافة، معهد البحوث والدارسات العربية، سنة 1978، ص 56

(4)جان جاك شوفا ليه، تاريخ الفكر السياسي... ترجمة محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1993 ص 412

(5) يؤكد الأستاذ هشام جعيط في حوار مع القناة التونسية الخاصة نسمة بان نظام بن على سقط لأنه يدار من قبل سقط المتاع كما يؤكد الأستاذ الهادي التيمومي في حوار مع صحيفة الشروق التونسية (17 – 10 - 2011 ص17)بان الرئيس بن علي وزوجته اتسما بضحالة كبيرة على المستوي الأخلاقي كما أن مستواهما التعليمي محدود جدا في بلد عظماء العلم مثل القديس أوغسطين وابن الجزار وابن رشيق وابن خلدون

(6) انظر أنماط المثقف الملحمي والبدائلي والتراجيدي والمقاول كما حللها الأستاذ الطاهر لبيب في مقاله: الثقافة والمجتمع: تفكك العلاقة وتعليق الدلالة، مجلة الفكر العربي المعاصر عدد 118 –2001، 119 ص29. أيضا مقال يوسف القعيد: مرمر زماني، صوت الكويت 15 – 7 -1993 اذ يصنف المثقف في عهد عبد الناصر بكونه مبررا، وكونه مهرجا في عهد كل من السادات ومبارك

(7) انظر تحليل الكسندر كوجيف لجدلية السيد والعبد من المدخل إلى قراءة هيغل، ترجمة: د. وفاء شعبان، الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، عدد 114 – 115 سنة 2000، ص 50 – 51

(8)جون بودريار، جحيم السلطان، انظر كتاب ذهنية الإرهاب، إعداد وترجمة بسام حجار، المركز الثقافي العربي، الطبعة الاولى2003، ص108

(9)بودريار، نفس المرجع السابق ص، 108

(10)J. S. Mill ,L’utilitarisme , traduction George Tanesse Garnier- Flammarion,p. 122,123

11) أفلاطون، الجمهورية، الكتاب الثامن

(12) انظر البرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، 1798 – 1939، تعريب كريم عزقول، بيروت، دار النهار للنشر 1977 الفضل الرابع

(13)بول ريكور، العادل، تعريب مجموعة من الباحثين الجزء الأول، بيت الحكمة، تونس2003، ص 254

(14) سعد الدين إبراهيم، مقدمة في: أزمة الديمقراطية في الوطن العربي التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بيروت،: المركز 1984، ص 28

(15)سليم اللغماني، إشكالية الديمقراطية في الوطن العربي، المجلة العربية لحقوق الإنسان عدد6 لسنة 1999، إصدار المعهد العربي لحقوق الإنسان، ص143

(16) تزفيتان تودوروف، اللانظام العالمي الجديد، تعريب وليد السويكري، أزمنة، عمان, ص 52 - 53

(17)سبينوزا، انظر الايتيقا، الباب الثالث، القضية30و56

(18)سليم اللغماني، المرجع السابق، ص، 143

(19) سبينوزا، المرجع السابق

(20). , B. de Launay. Habermas, l’espace publique, traduit de l’allemand par Marc critique de la politique Payot p. 111

(21) Benoît frydman, Ibid,p. 68, 69.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 21/نيسان/2011 - 17/جمادى الاولى/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م