اصدارات جديدة: الالام الفلسطينية

 

 

 

الكتاب: في البال

الكاتب: غصون رحال

الناشر: عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت

 عدد الصفحات: 243 صفحة متوسطة القطع

عرض: جورج جحا

 

 

 

 

شبكة النبأ: تصور الكاتبة الاردنية غصون رحال في روايتها الاخيرة "في البال" الالام الفلسطينية الطويلة والمكثفة في سرد ممتع وعمل روائي متكامل ينقل معاناة فلسطينيين تشردا وضياعا في الخارج وقتلا في الداخل.

وكأن هذه الالام التي صنعتها ايدي البشر لا تكفي اذ ان قصة الحب التي جمعت بين بطلي الرواية اللذين تجاوزا جيلين من التشرد والغربة والاذلال -وبعد وهم الوصول الى شاطىء امان وقسط من السعادة- انهتها يد القدر من خلال مرض السرطان الذي اصاب الحبيبة.

وكأنه مكتوب لهذا الفلسطيني التائه الا يحط الرحال وألا يحصل على قسط من الراحة والهناء بل الا تكون له حياة عادية كالاخرين من الناس بل عليه ان يستمر في "سيزيفية" لا نهاية لها. وكأن التشرد من بلده لا يكفيه فالحروب والاضطرابات تلاحقه الى بلدان اللجوء فما يكاد ينشيء جذورا في مكان او يتوهم انه انشأ شيئا من الجذور حتى تقتلع بمرارة وقسوة.

ورواية "في البال" وهي العمل الروائي الرابع لغصون رحال منذ 1999 صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وجاءت في 243 صفحة متوسطة القطع وبلوحة غلاف لفنان من قطر هو سلمان المالك. بحسب رويترز.

تبدأ الرواية من النهاية او قبيل النهاية وتعود بنا في الزمن وعبر جيلين وثلاثة احيانا الى ايام الجيل الاول الذي عاش تهجير عام 1948 .

بعد الاهداء -وهو الى راحل عزيز- نقرأ ابياتا حزينة للشاعر العراقي بدر شاكر السياب وفيها يقول "تعالي فما زال لون السحاب/ حزينا... يذكرني بالرحيل/ رحيل/ تعالي تعالي نذيب الزمان.../ ونصبح بالارجوان شراعا وراء المدى/ وننسى الغدا".

بطلا الرواية حبيبان ثم زوجان. احدهما اي البطل اقنع نفسه بانه مواطن عالمي وبانه حيث يستقر يصبح له وطن. اما هي فما زالت تحمل في نفسها لا الحنين فقط بل الاحتراق لدى مشاهدة التلفزيونات حيث تحمل اليها الام شعبها الى مكان حياتها الجديدة اي الى لندن بعد سنوات من التشرد. انها على فراش الموت وقلبها هناك.

غصون رحال تقص بشعرية مؤثرة. نقرأ السطور الاولى حيث تبدأ فتقول "وراء الباب ليل يذوي بصمت. في الخارج مطر يطرق زجاج النافذة بعنف وريح هوجاء تصر على النفاد عبر شقوقه الجانبية مثبتة حضورها. في الجو رائحة رطوبة لزجة ترشح من ثنايا الجدار.

"في الركن مصباح معدني طويل يسعل ضوؤه العليل فتتراقص فوق جدران الغرفة البيض خيالات شاحبة مسبغة على المشهد حسا جنائزيا مبكرا. فوق السرير يسترخي جسدها نصف حي نصف ميت.

"الحرام الصوفي المرقط يلفها بوبره الغزير مغيبا ما تبقى من معالم جسدها المغيبة اصلا ورأسها الحليق يختفي تحت قبعة قطنية لا تفارقه ليلا او نهارا."

هي هنا وعيناها بل قلبها هناك في غزة. يقول البطل "عيناي تلتقطان مشهدين متعاكسين. عين على شاشة التلفزيون وعين على وجهها الشاحب... الشاشة التي لا ترحم تواصل قصفنا بأخبار الموت والفسفور الابيض. دوي القنابل الهادر دون انقطاع منذ يومين موصلا الليل بالنهار ينذر بمجزرة محققة... تلتقط بيدها الواهنة جهاز التحكم عن بعد وتضغط على ازراره متجولة ما بين القنوات الفضائية."

في الجولة بل الجولات على اماكن التشرد العديدة -تشرد البطلين كليهما- تنقلنا الكاتبة الى الكويت وعمان وتركيا وقبرص بشقيها والقاهرة وبيروت واماكن اخرى.

قدرة غصون رحال على نقل المشاعر والافكار والتفاصيل وسرد الاحداث قدرة غير عادية تتسم بالاقناع وبالتأثير في القارىء وهي لا تترك لاي من هذه العناصر كلها ان يتجاوز حده في رسم النفس البشرية فيرهق القارىء. انها تعرف تماما انه اذا اصاب القارىء ارهاق فبعض ما يدل عليه هو ان الكاتب نفسه اصيب بارهاق من نوع ما. هي هنا مثل قائد اوركسترا ناجح واذا اطالت المكوث في سردها في مكان ما فالاكيد هو ان الوضع يقتضي ذلك.

والشخصيات عندها مقنعة تشبه الحياة بل تشبه الشخصيات المحبوبة في الحياة. بعضها اي تلك التي تأتي من الجيل القديم ترسمها لنا الكاتبة اما عاطفية سهلة او عنيدة بعاطفة جياشة لكنها تبقيها داخلية فلم تتعود البوح السهل. الا انها تبوح في اللحظات الضرورية الحاسمة. وهي ايضا تشبه الحياة.

اما الاحلام فنقرأ عنها في كلام البطل عن حياتهما القادمة في لندن قبل اكتشاف الداء الذي جاءها قتالا. يقول البطل "قبل تلك اللحظة كنت على يقين من ان نهايتي... ستكون على صدرها لانني كنت قد خططت بالفعل لان امضي معها حياة طويلة تنتهي بشيخوخة هانئة كحال غالبية الناس هنا.

"وكثيرا ما كنت اغمض عيني لارانا عجوزين يتعكزان على بعضهما.. يتمشيان في ظهيرة مشمسة في انحاء حديقة عامة.. يرتاحان على مقعد خشبي حين ينهكهما التعب.. يطعمان الحمام ما يتساقط من فتات خبزهما. وما أن تغيب الشمس حتى اسبل عيني ثم القي برأسي فوق صدرها لاموت ميتة سعيدة فيما تتولى الحكومة تأمين كل ما يلزمها من مسكن وعلاج ومصاريف دفن."

هذا ما كان يخطط له لكن الواقع كان غير ذلك. انها تموت دون ان ينفعها الطب ولا العمليات الجراحية ولا العلاج الكيميائي. تطلب منه ان يرتب الامور وينظم رحلتها الاخيرة.

عاد الى المنزل فسألته اين كان فلم يجب. يقول لنا "هل اخبرها بأني كنت انفذ وصاياها.. ارعى موتها البهي وأعد لها مثوى ناعما وأنيقا يليق بكبريائها وصبرها.. هل اخبرها بأني كنت اتدرب على كيفية مواجهة الحياة وحيدا بعدها. هل اخبرها بأني انهيت نشيدها وبدأت نشيجي الذي سيمتد الى ما لا نهاية.. هل اخبرها بأنها وان رحلت فسوف تبقى في البال اغنية وشجرة ياسمين.."

وتنتهي الرواية على الصورة التالية وسط دموع جهد في اخفائها.. تمتمت قائلة له "بقيت لي رغبة صغيرة" وضغطت على يده وقالت "ضمني اليك."

الختام الاخير كان كما يلي "احتويتها بين ذراعي.. قبلتها قبلة طويلة فوق شفتيها.. اسبلت على اثرها عينيها.. وما عدت ادري ان كانت ستفتحهما ثانية."

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 18/نيسان/2011 - 14/جمادى الاولى/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م