
شبكة النبأ: كثيرا ما يتندر العرب على
بعضهم بالقول أنهم متأخرون عن ركب الحضارة، ولنا في هذا الموضع أمثال
ونكات ومواقف لا حصر لها. وليس اللحاق بركب الحضارة المعرفي والعلمي
فقط هو موضع التندر انما قضية صناعة المجتمع الواعي الحريص على تطوير
نفسه والقادر على التخلص من حالات الضعف والاستكانة والانتفاض على
الواقع، هي أيضا مسألة يقع العرب في أدنى قائمة الأمم المهتمة بها.
فما الذي استجد لتنتفض الشعوب العربية وتغيِّر اثنين من أعتى أنظمة
الحكم على مستوى المنطقة والعالم وأعمقها تجذراً خلال شهر واحد؟ وما
الذي حصل لتشهد سبعة بلدان عربية اخرى ثورات غضب مماثلة للمطالبة
بإسقاط أنظمة الحكم فيها او التغيير والإصلاح السياسي؟
كما هو معروف أن التغيير عادة ما يقترن بعدم الاستقرار ولفترات
متفاوتة بحسب ما دلّت وتدل عليه تجارب الشعوب في هذا المجال، فيما
الركون بالضرورة هو محاولة لإيهام النفس بالطمأنينة او الإبقاء على
الواقع المعاش أملاً بأن يأتي التغيير بقدرة قادر، وبما أن الشعوب
الشرقية عموما تنتظر التغيير أن يأتي دون أن تعمل على خلقه، نراها تركن
إلى الهدوء حتى وان كان ذلك على حساب الحريات المدنية وحقوق الإنسان
والعيش الكريم.
على أن لا ننسى أن ما يدعى بالعالم المتقدم حاليا قد مرت عليه فترات
مظلمة من الاضطهاد الاجتماعي والسياسي والفكري والثقافي امتدت لقرون
عديدة، فمثلا في انكلترا حصل الشعب الانكليزي على كامل حقوقه عام 1688م
فانتقلت السلطة من الملك إلى البرلمان المنتخب من قبل الشعب وهو ما
يدعى بالملكية الدستورية، في حين قامت الثورة الفرنسية عام 1789م أي
بعد مائة عام من التحول الديمقراطي في انكلترا! فضلا عن عشر حروب قومية
ودولية امتدت لعقود ما بين دول أوربا. وهذا يدعونا للقول أن المائة عام
اللازمة لإجراء تغييرات جذرية هي مدة معقولة في عمر الأمم الضاربة في
القِدم.
وفيما يخص الدول العربية هناك العديد من العوامل الكامنة التي أدت
إلى تفجر الثورات الحالية الداعية للتغيير ومسايرة ركب الحضارة
العالمية نذكر منها:
1-الوعي الشعبي المتزايد بضرورة الحصول على الحقوق السياسية والأخرى
الأساسية للعيش الكريم، ويتركز هذا الوعي لدى الأجيال الجديدة من
الشباب ومتوسطي العمر ممن واكبوا تطورات العالم خلال نصف القرن الماضي،
وهذا لايتناقض مع النهضة الفكرية والثقافية الملحوظة التي شهدها العالم
العربي خلال تلك الفترة لسبب بسيط هو أن تلك النهضة قد ركزت على صنع
الهوية الثقافية والفكرية العربية بموازاة هويات الفكر والثقافة لباقي
الأمم، دون أن يتوجه نمط تلك النهضة نحو ايجاد قاعدة جماهيرية رصينة
تطالب بالحقوق من أنظمة الحكم فيها بنفس مستوى المطالبة بالاستقلال
ورحيل بقايا الاستعمار الأوربي حينذاك.
2- ثورة تكنولوجيا الاتصالات وقوة وسائل الاعلام المتعاظمة في
التاثير على الافراد والمجتمع عموما، بحيث اصبح تداول المعلومات
الكترونياً اسرع حتى من تداولها وجها لوجه في مكان حدث واحد، وإن كان
بين المعلِن والمتلقّي آلاف الكيلومترات. فساهمَ تداول المعلومات
الفائق السرعة في ولادة مجموعات كبيرة من الناس تتواصل فيما بينها دون
عناء او خوف من عوائق القمع والكبت، وساعد ذلك بطبيعة الحال في تنظيم
صفوف المعارضين وادارة الحملات المناهضة للنظم الحاكمة، وتعيين أوقات
وأماكن التجمعات وحتى نوعية الشعارات ومفرداتها التفصيلية.
3-التغيير في العراق وميول العرب بصورة عامة لتقليد كل ما هو جديد
مع معارضتهم له في اول ظهوره، فرغم التجربة الديمقراطية المتعثرة والتي
لم تزل في اول الطريق، إلا ان ملامح قيام نظام ديمقراطي يؤمن بتداول
السلطة السلمي من خلال انتخابات حرة ونزيهة، ووجود دستور يؤمّن الحريات
المدنية وحرية الرأي والتعبير، جعل من هذه التجربة موضع دراسة واهتمام
لدى العديد من شعوب المنطقة التي تنجب الأجيال تلو الأجيال في ظل حاكم
واحد يختبئ خلف جدار التوريث او القمع والاستبداد والقبضة الحديدية.
4- انهيار الجدران القديمة التي أقامتها الأنظمة الشمولية من رجال
عفا على أفكارهم وأفعالهم الزمن، فأصبحوا موضع التندر والازدراء لدى
شعوبهم، التي انتظرت شرارة الثورة طويلا حتى أتى موعدها مع ظهور أجيال
جديدة أكثر تنوراً وأملاً وقابلية للسعي نحو التغيير.
5- تفاقم الأزمات الإنسانية في هذه المجتمعات من جراء القمع
والاستبداد وكبت الحريات وتعاظم حالات الفساد وتردي الخدمات وازدياد
الأمية وتفشي البطالة والجريمة والمشاكل الاجتماعية، كل هذه العوامل
وصلت بهذه الشعوب إلى نقطة اللاعودة تجاه حكامها، فلم يعُد لها شيئا
تخسره إذا ما انتفضت على الواقع المأساوي الذي تعيشه.
6- اعتماد الشعوب على الزخم العددي من شرائح المجتمع المختلفة،
وتشكيل قوة بشرية هائلة مجردة من نزعات العنف المفرط الذي بدوره يشكل
حجة للقمع والتنكيل السلطوي، قوة بشرية تقودها الفطرة الإنسانية
للمطالبة بالحقوق، ويوحدها الشعور بالغبن والاستياء البالغ.
المفارقة الكبيرة في هذه الثورات التي ستعيد تشكيل وجه المنطقة هي
أنها منبثقة من الإرادة الشعبية لأبناء الشارع العربي، دون أن يكون
هناك أي دور للمفكرين او المثقفين او قوى المجتمع المدني ولا حتى
المنطلق الديني فيها.
لكن ذلك يولد الخوف الكبير على ثمار هذه الثورات العملاقة من
المُصادرة أو السرقة او التوجيه اللا ارادي من القوى الداخلية
والخارجية ذات الأيدي الخفية التي تعمل على الاستفادة من هذه التحولات
غير المسبوقة على مستوى المنطقة منذ عهد الاستعمار الأوربي. |