المواطنة.. وصنّاع القلق

عباس عبود سالم

الصورة التقليدية للمواطن العراقي خلال العقود الماضية عبارة عن (بضاعة) كان يتسلمها الانقلابيون بعد كل بيان يتلونه، وبعد كل مغامرة يخوضونها، وقد حولوا المواطنة الى لعبة يتسلى بها القابضون على السلطة، وهم يمنحون ضمائرهم اجازة مفتوحة، ليسوقوا الناس طعاما لثورات، ومهالك تستنزف خيراتهم، وجهودهم و كرامتهم وانسانيتهم.

عقود والعراق دولة ممنوعة من التفكير، ثقافتها مختنقة بالشعارات، وطنيتها حبيسة المزايدات، معالمها تستنشق الالم.. وقد شاخت قبل اوانها، فالخاص، والممنوع كانا ينتشران اكثر من اعلانات الحض على النظافة، او علامات المرور..

كانت هناك طرق خاصة، ومواقع خاصة، وحرس خاص، ومواطنون خواص، والدولة خاصة، والسياسة خاصة جدا، لانها منهمكة في تبرير شرعية (الرفيق) الذي قفز من حوض الشاحنة (الزيل) ليجلس على كرسي الرئاسة، مخترقا كل القوانين والقواعد والاعراف.

وبعد كل هذه السنوات المريرة، تنقلت صورة المواطن العراقي، من مجند مثقل ببزة متهرئة، واوامر قاسية، الى مختبئ من السلطة، او متملق لها، او ترميه الاقدار مهاجرا، او هاربا، او حبيس زنزانة قذرة، او رأسا مقطوعا يعبث به الجلادون، وهم يتباهون بجريمتهم امام عدسات الكاميرات، ثم يغسلوا ايديهم متصورين انهم ازالوا اثارها.

ولكن للاسف بعد سطوع شمس الحرية.. لم تنتقل المواطنة من صورتها القاتمة، الى الصورة المشرقة، ومن المقيدة الى الطليقة، بفضل ماتحقق من حرية وديموقراطية، بل تشتت الى مواطنة سياسية، واخرى حكومية، واخرى مدنية، تحاول الانتماءات الاخرى تسييسها، وتهميشها، فالمواطنة للاسف مازالت اليوم حبيسة الخوف من الماضي، وعدم التصالح مع الحاضر، او الثقة بالمستقبل، بعد ان اكتنف المواطن افراط من التفاؤل، لكن هذا الافراط سرعان مابدده الرعب القادم من مجهول.

ولم يكن الرعب وحده هو القادم، بل القلق ايضا قد تسيد سوق السياسة، فمثلما يوجد للارهاب صناع وادوات، فللقلق رجاله المستترون خلف يافطات تبدو وطنية لكنها ليست كذلك، فهناك الكثير من الساسة باتوا خبراء في انتاج القلق وتصديره، واصبح لدينا الكثير ممن يجيدون الكلام والتعامل مع الكاميرات وجذب الممولين.

اذن نحن ازاء لعبة تبدو مربحة.. و تستحق المجازفة.. والرهان مربح على مواطن لايمتلك من العراق الا هوية الاحوال المدنية، ودفتر خدمة منتهي الصلاحية، يشكو تخمة الاختام والهوامش، وتواقيع ضباط التجانيد التي سجلت المهدور من العمر، وهو الجزء الاكبر منه.

القلق لايحتاج لصناعته امتلاك مهارات كبيرة، سوى الهجوم والنقد اللاذع وخلط الاوراق، وكل ذلك كفيل بان يبدد اي ضياء يلوح لنا بعد خروجنا من النفق، وصناع القلق يريدون دخول مجد السلطة من باب الديموقراطية الفضفاض، ثم يتحدثون لنا عن عيوب تطبيقها، وعن سقطات من ينفذون السياسة حتى وان افنوا كل مالديهم من اجل اداء واجبهم لوضع القطار على السكة.

ولكن الاخرين يمتهنون السياسة من اجل السياسة، هم بعيدون عن المواطن جغرافيا ونفسيا لكنهم قريبون منه اعلاميا، يعدون بما لم يتحقق الان، ويجهدون انفسهم لصنع مواطن قلق يسهل الايقاع به، فالمواطن لديهم ليس سوى وسيلة لغاية السلطة التي تعني في العراق ثروة ومجدا لايضاهيه اي مجد آخر.

لذلك فأن ساسة القلق لاتحكمهم محددات وطنية ولايلتزمون بمواثيق اخلاقية او حرص على ثوابت شركائهم، بل يدفعهم النهم الى الفوز، فالوطنية لديهم ليست اكثر من مناظرة تلفزيونية يربحونها، او تصريح صحفي يطلقونه في اوقات المحن، ليجعلوا المواطن قلقا جدا، وعاجزا جدا.. قلقا لرغبته بمعرفة حقيقة مايجري، وموقعه مما يجري، وعاجزا على ان يميز بين السراب.. وبين الحقيقة.

ويحذرون من ان خير الديموقراطية الوافر وظلالها الوارفة لم تكسي العراقي بثياب السندس والاستبرق، ولم نر ولدان مخلدون كانهم لؤلؤ مكنون بل ولدان انتحاريون وسياسيون انانيون مارسوا لعبة السلطة متوهمين ان صورة المواطن مازلت رقم سياسي يمكن تضليله.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 16/نيسان/2011 - 12/جمادى الاولى/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م