
شبكة النبأ: كثر الحديث في الآونة
الاخيرة بعد عدد من الاحداث في المنطقة العربية عن تركيا ودورها في
المنطقة، وطبيعة علاقاتها مع الدول التي حدثت فيها الثورات الشعبية
وتذبذب المواقف تجاه تلك الدول.
ظهرت الآراء والتحليلات التي اشارت الى ازدواجية المواقف التركية.
فهي قد وقفت موقفا واضحا مما جرى في مصر والبحرين وايدت مطالب
المتظاهرين في حين وقفت موقفا مغايرا مما يحدث في ليبيا. وفسر
المراقبون ذلك الموقف بالخوف على الاستثمارات التركية الكبيرة مع
النظام الليبي والتي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات.
انطلقت جميع الآراء من محورين مهمين في موضوع الفلسفة السياسية.
فالمحور الاول يظهر تركيزا على سؤال اساسي يتعلق بتحديد معنى القوة
ومظاهرها ومحاور تغيرها. وقد اتجهت الفلسفة السياسية منذ عهودها الاولى
وحتى الان الى تفسير وتحليل العلاقة بين القوة والقيم. في حين استهدفت
التحليلات التي تناولت الواقع السياسي الى فهم التغير المحوري للقوة
وتحديد ديناميكياته.
حاولت الثقافات القديمة بناء نوع من الانسجام بين القوة والقيم. اما
المفهوم الحديث لهذا الموضوع الذي بدا به مكيافيلي فقد طرح الواقع
السياسي بشكل منفصل عن البعد القيمي وهو ما اختصره التعبير الشهير (الغاية
تبرر الوسيلة).
تعتبر تركيا دولة محورية في مركز الاستراتيجيات الدولية والاقليمية
هذا من جهة، وهي دولة ممزقة فيما يتعلق بمسالة الهوية بناء على وصف
صامويل هنتنغتون من جهة اخرى.
في كتابه (العمق الاستراتيجي. تركيا ودورها في الساحة الدولية)
لوزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو والذي يعتبر مهندس السياسة
الخارجية لتركيا، يعتبر منطقة الشرق الاوسط هي الحديقة الخلفية التي
لاغنى لتركيا عنها.
في مجال العلاقات الدولية تاخذ الابحاث المتعلقة به خمسة ابعاد
رئيسية هي:
الوصف، التوضيح، الفهم، التفسير، التوجيه.
اما مقاييس القوة والتخطيط الاستراتيجي فهي تتضمن:
معادلة القوة وعناصرها والتي تضم:
*المعطيات الثابتة: الجغرافيا والتاريخ وعدد السكان والثقافة.
*المعطيات المتغيرة: الاقتصاد، التكنولوجيا والقدرة العسكرية.
*الذهنية الاستراتيجية والهوية الثقافية.
*التخطيط الاستراتيجي والارادة السياسية.
يعتمد الوزير الباحث في تخطيطه الاستراتيجي لدور تركيا المستقبلي
على نظرية القوس التي تعتمد على التاريخ والجغرافيا ومفادها: اننا حين
نسحب القوس فانه يتجه الى الخلف وهو الماضي وحين نطلقه فانه يصل الى
مسافات بعيدة وهي الجغرافيا.
ويرى وزير خارجية تركيا ومهندس سياستها ان لتحديد وتوكيد المرجعية
الحضارية في مركز الشرق الاوسط اهمية خاصة في المرحلة المقبلة، لابد من
ان يؤثر على البنية الجيوثقافية للمنطقة باسرها.
وفي هذا الاطار يلاحظ ان تركيا تمتلك تراكما تاريخيا متجذرا في
المنطقة قد تخطت هذه المسالة دون ان تتعرض لصراع داخلي كبير، بل انها
تدخل مرحلة من انفتاح حضاري هام سيترك اثره ليس على صعيد الوحدة
الداخلية فحسب بل وعلى صعيد المنطقة ومستقبلها كذلك.ويشير الجدل الذي
ظهر في تركيا في السنوات الاخيرة الى ان المسالة الجيوثقافية المتجذرة
تمر بمرحلة مخاض ينتظر ولادة نتائجها. وفي حال تبني نهج الرافض او
النظر الى هذه المسالة على انها مجرد حلقة صراع فان ذلك من شانه ان
يؤدي الى مجازفات تضر بوحدة تركيا وتفاقم مشكلة عدم الانسجام بين
السياسة الداخلية والسياسة الخارجية.وفي الوقت الحاضر يمكن للمقارنات
والمحاسبات التي تجري بين الحضارات في جو من الحرية الفكرية ان تبرز
تركيا دولة تمتلك وضعا جيوثقافيا حيويا متعدد الجوانب.
حدث تغير هام من ناحية الخصائص الجيواقتصادية وساحات الجذب في
المنطقة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حيث وقعت جيوسياسية المنطقة
المتمثلة في النفط مع جيوسياستها التي وجهتها التوازنات المرتبطة
بالنفط طوال مرحلة الحرب الباردة تحت تاثير عناصر جديدة متعلقة
بالموارد المائية والمناطق الزراعية وقضايا نقل مواد الطاقة.
برزت المسالة المائية على المستوى النظري والدبلوماسي في الثمانينات
وتم تناولها على مستوى يوازي القضية النفطية في عقد التسعينات. وطرحت
من ثم باعتبارها مصدرا لازمة داخلية في المنطقة. واصبح لمسالة استخدام
مياه نهر الفرات ودجلة اهمية خاصة في العلاقات الثنائية بين تركيا
وسوريا والعراق.
ولذلك فان المشاريع المائية الزراعية في جنوب الاناضول التي تمولها
تركيا بميزانية كبيرة، ليست جزءا من التنمية الاقتصادية فحسب، بل انها
عنصر هام في موضوع لصراع جيوستراتيجي على المدى البعيد.
لقد تأخرت تركيا عن مواكبة الجيواقتصادية النفطية للمنطقة التي بدأت
منذ النصف الاول من القرن العشرين وتصاعدت طوال فترة الحرب الباردة
واحتلت موقعا مهما في مركز العلاقات الدولية الاقليمية. ولذا يجب على
تركيا كما يرى وزير خارجيتها ان تأخذ بعين الاعتبار مسالة نقل المياه
والمنتوجات الزراعية ومواد الطاقة كقضية اساسية وهامة في تخطيطها
الاستراتيجي للمراحل القادمة وعلى المدى البعيد وان تقوم بالاستعدادات
اللازمة لذلك.
ضمن الوضع الجديد يتوجب على تركيا ان تعيد النظر في سياستها تجاه
الشرق الاوسط. لقد فقدت تركيا الاحزمة الاستراتيجية الاكثر قوة في
منطقة الشرق الاوسط في الربع الاول من القرن العشرين، وعاشت بعيدة عن
المنطقة بشكل عام في ربعه الثاني والثالث، وطورت سلسلة علاقات متارجحة
بين صعود وهبوط مع دول المنطقة خلال الربع الاخير من القرن نفسه، وهي
اليوم مضطرة لان تعيد تقييم علاقاتها مع المنطقة من جديد بشكل جذري.
كما ان شبكة العلاقات المتوترة التي نسجتها تركيا مع اوربا بشكل خاص
جعلت الانضمام الى الاتحاد الاوربي امرا شبه مستحيل، كما جعلت موضوع
تطوير استراتيجية خاصة حيال الشرق الاوسط امرا لابد منه. اما اذا
انسلخت تركيا عن اوربا وعن الشرق الاوسط في الوقت نفسه، فلن يكون في
مقدورها ان تنجح في سياساتها الاقليمية او القارية.
تلك ابرز الامور المتعلقة بالشرق الاوسط التي ركز عليها احمد داود
اوغلو مهندس السياسة التركية في كتابه السابق ذكره. وهو ما يعمل على
تطبيق ما جاء به من نظريات على ارض الواقع السياسي في علاقات تركيا مع
الاخرين. |