تعاقب النظام والفوضى على المشهد العربي

زهير الخويلدي

ان فضيلة التعقيد هي ادانة ميتافيزيقا النظام

 

تمر المنطقة العربية زمن الثورة الشعبية العارمة بأحداث هامة ولامتوقعة وفترات حرجة واهتزازات عنيفة ومتعاقبة غيرت نظرت الناس الى الحياة وموقعهم في العالم وبدلت نظرة العالم اليهم وتمثلت في اللجوء الى القمع واستخدام القوة الشديدة من طرف الدولة ولجوء الأفراد والجماعات المنتفضة الى أسلوب الحرق والسلب والتخريب، واذا كان مبرر الطرف الأول هو الدفاع عن مؤسسات السلطة والمحافظة على الأمن العام فإن مبرر الطرف الثاني هو الاعتراض على الظلم ومقاومة الفساد والتصدي للهيمنة والتعديات واستعادة الحقوق.

غير أن حجر الزاوية في الأمر وأصل المشكلة لا يتعلق بطبيعة العلاقة المتوترة أصلا بين الدولة والمجتمع المدني وانعدام الثقة بينهما وتربص كل منهما بالآخر فحسب بقدر ما يتمثل في سوء فهم للحرية وهروب من تحمل المسؤولية والافراط في الاستخفاف بالهوية وارادة احتكار الشرعية والسلطة وسوء التقدير للعلاقة الشرعية بين العام والخاص.

من هذا المنظور يمكن التعبير عن هذه المشكلة بالاحتراز الاشكالي من ثنائية النظام والفوضى في الآن نفسه من طرف قوى الشعب الثائرة ومن الممسكين الجدد بمقاليد الحكم، فالنظام الصارم قد يؤدي من جديد الى الاستبداد وتشكل المجتمع ذي البعد الواحد، أما الفوضى العارمة فهي تؤدي لا محالة الى  خراب العمران وارتكاب الرذائل وتفكك الدولة.

بيد أن المشكلة تطرح على هذا النحو: اما فرض النظام مع سلطة مطلقة وطاعة تامة واستقرار اقتصادي ورجوع الحياة الى نسقها العادي واما التمتع بالحرية والمحافظة على الثورة مع فوضى تدميرية وانفلات أمني وتسيب أخلاقي وتنازع اجتماعي واختلال في التوازن وتقلبات اقتصادية وكوارث صحية وانفلات الأفعال من مقاصد الذوات.

كما أن مواصلة الثورة يؤدي الى انخرام النظام القديم وفقدانه لأسسه وبروز الفراغ والوقوع في الفوضى، أما التحلي بالحكمة والتعقل وترك الأمور تسير كما يريد أولو الأمر فإنها قد تؤدي الى فتور  الثورة وشروع بقايا النظام في توحيد صفوفهم واعادة انتاج نفس المنظومة وعودة الأساليب القديمة في القمع والدفاع عن مصالح الطبقة الحاكمة بالردع والقانون.

 فما نعني بالنظام؟ وكيف يتسبب في تشكل سلطة شمولية؟ وما المقصود بالفوضى؟ وماهي النتائج التي تترتب عن اندلاعها في الفضاء العمومي؟ وما العمل للخروج من هذه الامية المقلقة؟ ومتى نحصل على نظام بلا استبداد وحرية بلا فوضى؟ وهل توجد شروط معقولة لتأمين الانتقال العقلاني من حالة الثورة الى وضع الدولة؟ ولماذا يؤدي هاجس الخوف من سرقة الثورة الى العودة الى الاحتجاجات والعصيان المدني؟ وكيف يمكن المرور من النزعة الأحادية البعد التي تميز البيروقراطية الى نزعة متعددة الأبعاد التي تميز الديمقراطية ونقيم علاقات تكاملية بين القوى المتصارعة ونحسن التعامل مع التضامنات المعيشة؟

اننا دخلنا منذ مدة وبشكل غير مسبوق الى الحقبة الحقيقية للثورة الرقمية العميقة ربما أكثر جذرية من الثورات السابقة في التاريخ البشري واننا نعيش اليوم داخل هذه الثورة الشعبية المتفجرة في صراعات صعبة جدا لا يمكن أن تتوقف الا حينما يلتهم الجديد القديم ويأتي النظام ما بعد الثوري بالمؤسسات العادلة والحياة الكريمة للمواطنين.

لكن ماهو النظام الذي تسبب في قيام الثورة الشعبية؟

النظام هو ايجاد روابط وتصنيفات بين عدة عناصر واحداث ترتيب بين عدة حدود وقضايا وأشياء وقيم في الزمان والمكان والعقل ويأتي في شكل قوانين ودرجات ومعايير وسلاسل وأسباب وغايات وأنواع وأجناس ولذلك احتوى العقل على ترتيب وتسير الطبيعة وفق نظام ويخضع المجتمع لجملة من النواميس وقد جاء في السياسة أن النظام الاجتماعي هو مجموع القواعد التي ينبغي أن يتطابق معها المواطنين ليصبحوا أحرارا وسعداء وفي هذا قال أوغست كونت : ان التقدم هو تنمية النظام، ولكن النظام الأخلاقي يظل هو النظام الحقيقي والثابت لأنه يعبر عن علاقات الكمال ويدفع الجماعة السياسية الى الانصهار والتوحد. من جهة ثانية ماهي الفوضى التي فككت النظام وكانت من النتائج الخلافية المنبثقة من الثورة ؟

أما الفوضى فهي ترمز أوليا الى الكاوس الأصلي والعماء الذي كان عليه الكون قبل تشكل الحياة ووجود الموجودات وبعبارة أخرى تشير الى الفراغ الغامض والذي لا حدود له الذي سبق حالة الكون الراهنة.

لكن الفوضى يمكن أن تعني الخلط بين العناصر المتنافرة والتلفيق بين المبادئ المتغايرة بغية خلع النظام الاستبدادي القديم واحداث الصدمة والذهول بالنسبة الى الرأي السائد وقد تقوم ببناء مغالطات وحيل لغوية وقوة تنظيمية تؤثر في المتلقين وتفرض عليهم السيطرة وتعمل على توجيههم نحو تحقيق أغراض لا تخصهم وتنفع غيرهم من أمراء الثورات الجدد.

المعنى الثالث يبرز حينما يكون المجموع غير منظم ومختل التوازن ويعاني من قصور ذاتي ومهدد بالعطالة والتفكك والاختفاء والانفصال شأن الأجسام المريضة والأنفس الممزقة والمجتمعات المتناحرة والشركات المفلسة والأحزاب التسلطية والنقابات البيروقراطية.

هكذا تطفو البشرية على فوضى قد تؤدي الى تحطيمها، وتعني الفوضى هنا الوحدة غير الواضحة بين الخلق والتدمير. لا نعرف ما الذي يحصل، لكننا نعرف أن هناك هدرا ضخما جدا وسيكون على أية حال في المستقبل، في الطاقات ، وفي النوايا الحسنة، والحياة.

ان النظام هو الواقع الذي لا يمكن تحمله من طرف المواطنين خاصة اذا ما فرضته ارادة التحكم وكان هرميا فوقيا ولم ينبع من ارادة الشعب ولم يكن محل اجماع وموضع اقناع ويكون قد مارس البطش والعنجهية على المحكومين، لكن تفكك النظام قد يؤدي الى تخبط الناس في الفوضى والى حدوث صراعات وتناقضات بين الملل والنحل والجهات وتتوسع الشروخ بين الجماعات واحتدام التضاربات في الأفكار وبين العلمانيين والايمانيين وبين أهل اليمين وأهل الشمال وأنصار الوسط من الباحثين عن الغنائم وتنتصر قوى الموت على قوى الحياة وارادة التحطيم على ارادة البناء والرغبة في الافناء على الرغبة في الابقاء وتنبثق مشاعر الكراهية والحقد والاحتقار في قلوب الناس وتشتعل الحروب المسلحة والنزاعات.

ان فرض النظام بغير حق يتطلب اخضاع الأفراد الى المراقبة المستمرة والحد من حرياتهم وتحويل المجتمع بآسره الى آلة سجن نفسية وجعل الحماية والأمن والاستقرار تغطي جميع ميادين الحياة بالنسبة للمجتمع. لذلك يكرس النظام الدكتاتوري آلة ضخمة مستعبدة وشمولية ويحدث تدرجا صارما في الهيمنة والسيطرة ويقوم بإدماج صارم وتعسفي للأفراد والفئات ويراقبهم بطرق وطقوس متعددة ويمارس عليهم ضغوطا كبيرة عن طريق العقلنة والوظيفة والتأديب وينتج عن ذلك ضعف في التواصل وانحسار في الحريات وغياب تام للحقوق.

لكن الغريب أن الفوضى قد تعني الاعتداء والجنون والمبادرة والحرية في نفس الوقت ولذلك يتوافق مع الغلو في تطبيق النظام الذي يفرضه جهاز الدولة من خلال الحظر والممنوعات ازدياد في الفوضى...  وأن النظام قد يعني الشمولية والانغلاق والاستقرار والازدهار في الآن نفسه وهو ما يجعل الفكر في كماشة ولا يرجح طرف على طرف. لكن كيف السبيل الى التخلص من هاتين الرذيلتين: النظام والفوضى؟

في الواقع لا يمكن لمجتمع انساني أن يخضع تماما لنظام آلي مبرمج..

غني عن البيان أن خلاصنا من الكارثة يظل متوقفا على تجنب الوقوع في الفوضى في الوقت المناسب وتفادي تأبد النظام المغلق وذلك باحداث تحول حقيقي من الاستقرار الى الاختلال ومن الاختلال الى النظام من جديد وتحقيق التقدم في ظل الموت. كما أن السلطة المطلقة بحاجة الى ترياق يحد منها ويديمها في الوقت نفسه.

علاوة على تجنب وقوعنا في التنظيم العفوي المشترك وجنون الدولة المهيمنة ووحش الاستبداد وآلتها الدعائية الوقحة والقطع مع تحكم الفرد الشمولي وذلك باحترام النواة القديمة في التنظم وبناء نوع من التآزر الواقعي بين القوى والتحالف مع الشعب والسير نحو مجتمع عادل وهوية انسانية.

ان الدرس الذي يمكن استفادته من الثورة العربية أن الشباب يجيب أن يحولوا الفوضى الى مجال للخلق والابداع ويبتعدوا بها عن التحطيم والجنون وأنهم ينبغي أن يعطلوا النظام الشمولي ويشطبوا الديكتاتورية ولكنهم يجب أن يسرعوا الى بناء النظام الديمقراطي ويثبتوا القدرة على التنظم الذاتي والتعويل على النفس ويسمحوا بولادات جديدة في المجتمع المدني.

ان الخروج من هذه الامية المقيتة رهين توافق جميع القوى الفاعلة والأطراف المدنية على ضرورة تشكيل مشروع مجتمعي يمهد الطريق نحو قيام دولة ديمقراطية تحكمها مؤسسات مستقلة وعادلة يسيرها مواطنون أحرار خالية من كل تمييز أو تفاوت طبقي أو جهوي أو اثني. ان المطلوب هو ترجمة هذا التوافق في توقيع صحيفة الصداقة السياسية تترجم الكتلة التاريخية والاجماع الشعبي على الانتصار الى قيم الثورة.

 أضف الى ذلك ينبغي أن تكون الانتقالات على المستوى الاداري والمؤسساتي خالية من العنف وتعمل على ايجاد حلول جذرية لمشاكل الحريات وحقوق الانسان وأن تشهد العلاقات الانسانية والاجتماعية تغييرات عميقة تمس الأسس والأفعال والآفاق. لكن هل الدعوة الى التصافي والتسامح الفعلي هي انقاذ للنظام البائد من جرثومة الفوضى وحتمية السقوط؟ والى أي مدى يكون كل النظام سبب الجمود والانغلاق وتكون الفوضى مصدر خلق وتجديد؟

 مع أننا نعلم أن كل الأحداث الهامة في التاريخ العالمي أو في حياتنا هي أحداث لا متوقعة بشكل كلي، الا أننا نستمر في التصرف كما لو أنه لا شيء لامتوقع بإمكانه أن يحدث.

فهل نبرر جنوح الجموع الى الفوضى اذا ما كانت تعني حرية ومبادرة وابداعا أيضا؟ وكيف نعمل على ألا تكون ولادة الدولة من رحم الثورة حدثا فجائيا لامتوقعا؟ ومتى يكون دخول العرب الى المدنية والتقدم هو الأمر الذي ينبغي أن يحدث؟

* كاتب فلسفي

.....................................

المراجع:

إدغار موران، الفكر والمستقبل، مدخل الى الفكر المركب، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2004،

أدغار موران ، النهج، إنسانية البشرية، الهوية البشرية. ترجمة هناء صبحي، منشورات كلمة، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 2009.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 4/نيسان/2011 - 29/ربيع الثاني/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م