
شبكة النبأ: كم يبدو كبيرا، ذلك
التقارب بين معنى مفردتيّ العدالة والانصاف، وكم تضيع الحدود بينهما،
فكثير من الناس، ينظرون الى العدالة بوصفها إنصاف الآخرين، والى
الانصاف بوصفه انتهاجا للعدالة، في التعاطي مع المجتمع، بيد أن الامر
ليس كذلك.
بكلمة أوضح، ان العدالة لاتعني إنصاف الناس، وأن الانصاف، لايعني
التعامل بعدالة مع الآخرين، وربما يشكل هذا الاختلال والتداخل، بين
المفردتين والمعنيين، سببا من الاسباب، التي تجعل من ظاهرة الكيل
بمكيالين، حاضرة في التعامل المجتمعي، بشتى أشكاله وصوره.
تُرى لماذا تزدهر ظاهرة الكيل بمكيالين، في التعمل بين الافراد،
بعضهم مع البعض الآخر، وبين الجماعات والجماعات الاخرى؟، إن هذه
الظاهرة لاتنحصر بالتعامل الفردي، ولاتحركها المصالح الفردية، بل حتى
الشعوب والسياسات الدولية، والاقليمية، تقع في فخ الكيل بمكيالين، بحجة
حماية المصالح القومية او سواها.
لهذا يلاحظ المراقبون، بونا شاسعا في التعامل مع بعض القضايا
الدولية الساخنة، من لدن الدول العظمى كأمريكا مثلا، نزولا الى الدول،
الأقل حجما في القدرات العسكرية، والاقتصادية وغيرها، فهي ايضا تخضع
الى التعامل المزدوج، مع قضايا متشابهة، فتقع في فخ الكيل بمكيالين،
وربما لايصح أن نطلق على هذه الظاهرة، بالفخ، لأنها معروفة للدول التي
تقع فيها مسبقا، بمعنى أن هناك إصرارا مسبقا، للتعامل مع قضايا متشابهة،
وفقا لظاهرة المكيالين، وهذا ما تدفع إليه المصالح كما ذكرنا سابقا.
الافراد والجماعات الصغيرة، تحكمها أيضا هذه الظاهرة، نتيجة لعدم
القدرة على التفريق، بين الانصاف والعدالة، فالانصاف هو حالة داخلية،
تخص الذات او النفس، بمعنى أنك تنصف الآخرين من نفسك، لهذا تكون النفس
هي مصدر إنصاف الآخرين، وعدم التجاوز على حقوقهم، والتحرّز من
الاستئثار، ونوازع الاستحواذ وما شابه، وقوة الردع الذاتية للنفس تمثل
الانصاف تماما. أما العدالة فهي تصدر من خارج الذات، بمعنى أن هناك
عواملا خارجية، تتدخل في صياغة العدالة، وانتهاجها في التعامل مع
الآخرين، سواء كانوا أفرادا، أم جماعات، لهذا لايمكن أن تتشابه العدالة
مع الانصاف.
وعندما لا يستطيع الانسان سواء كان (فردا أو جماعة أو دولة)، أن
يحافظ على الخيط الفاصل بين العدالة والانصاف، في تعامله وعلاقاته مع
الآخرين، عنذاك تضيع الحدود، وتتداخل المعاني، وتصبح العدالة، إنصافا
والانصاف عدالة، وهنا تبرز ظاهرة الكيل بمكيالين الى السطح، لتتصدر
الافكار والسلوكيات، التي تتحكم بطبيعة التعامل المتبادَل، بين
الافراد، والجماعات، والشعوب كذلك.
لهذا تركّز المبادئ، والمنهجيات الانسانية، على أهمية أن يلتزم
الانسان بالثوابت الاخلاقية، وغيرها مما يدعم الثبات، وعدم التذبذب، في
التعامل الانساني المتبادل، وأن تحتكم الانشطة الانسانية المتنوعة، الى
الثوابت الأخلاقية المتفق عليها دائما، درءاً لظاهرة خطر الكيل
بمكيالين، التي غالبا ما تجد لها مكانا، في اختلال الفهم الانساني
للعدالة والانصاف.
وقد توصّل الكاتب والمفكر المهم هوارد غاردنر، في كتابه المهم ايضا
(خمسة عقول من أجل المستقبل)، الى أن العقول التي يمكنها النجاح في
تسيير العالم، تبدأ بالعقل التخصصي، ثم التركيبي، ثم الابداعي، ثم
العقل المحترم، وصولا بالنتيجة، الى العقل الاخلاقي، الذي ينبذ الأنا،
ويعمل من أجل الصالح العام، بغض النظر عن توافر المنفعة الذاتية، وهذا
العقل هو قمة العقول، التي بإمكانها أن تقود العالم، الى النجاح،
والاستقرار، والتطور، فهو عقل تؤدي إليه كل انواع العقول الاخرى، ولابد
أنه عقل يتجنب إن (لم يحارب ظاهرة الكيل بمكيالين) التي تسيء للانسان
فردا او جماعات، لذا علينا أن نعمل معا على اعتماد العقل الاخلاقي،
الذي يؤْثِر الآخر على الذات، وهذا هو جل ما يطمح إليه الانسان، لبلوغ
التكامل الاخلاقي، ونبذ الظواهر السيئة ومنها ظاهرة الكيل بمكيالين.
|