الفقه بحر لا يدرك مداه

العلامة السيد محمد علي الشيرازي

بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على اشرف الانبياء والمرسلين حبيب اله العالمين ابي القاسم محمد وعلى آل الطيبين الطاهرين و اللعن الدائم على اعدائهم اجميعن إلى قيام يوم الدين.

الفقه هو ثاني أشرف العلوم بعد العقائد وذلك لأنه يتكفل تنظيم عمل الإنسان على محورين: الفردي والاجتماعي.

وبعبارة أخرى إنه بيان عن الأحكام النازلة من الشارع المقدس لتبيين كيفية العبادات والمعاملات التي تعم النظم والسياسات وتلك الأحكام بين ما تهديه إلى طريق الصواب والرشاد وما فيه المصلحة لو امتثلها، وبين ما تنجيه من المضار والهلكات لو انزجر عنها.

والحاصل إن علم الفقه يهدي الإنسان إلى سعادة الدارين، الدنيا والآخر، ولكن بشرط الإلتزام به وجعل عمله على وفقه.

نعم التطبيق الكامل العملي لأحكام الشريعة الإسلامية لم يكن إلا في زمن النبي صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، وذلك لأن الحكومات الجائرة التي جثمت على صدر المسلمين منذ القرون الأولى لم تكن تحمل من الإسلام إلا اسمه، ولذلك قال أحدهم بعد أن خلع الوالي: إني لم أحارب للصلاة والصيام فإنكم مسلمون تصلون وتصومون، بل حاربت للإمرة عليكم، وعمم آخر كتاباً بعد أن استتب له الحكم، وذكر فيه: من وعظني بتقوى الله من اليوم فصاعداً ضربت عنقه، إلا أن الأئمة عليهم السلام بسطوا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وبينوا الأحكام وفسروا القرآن لكونهم عيبة علم الرسول وحفظته، فكان علي عليه السلام باب مدينة علم الرسول، ملاذاً للأمة ومفزعاً في المشكلات حتى قال سلوني قبل أن تفقدوني، وشهد لعلو قدره حتى اشد مناوئيه، فهذا عمر يقول : (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن) وقولته الشهيرة الأخرى (لولا علي لهلك عمر) وقد سئل ابن عباس عن علم علي عليه السلام فقال: (ما علمي وعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله في جنب علم علي إلا كقطرة من سبعة أبحر) بل كل علم ينسب إليه كما ذكره المعتزلي في شرح نهج البلاغة.

نعم كان الحسنان عليهما السلام في شدة وظلم وقد تفرق عنهما الناس بعد أن ارتدوا على أعقابهم القهقرى فلم يرتووا من علومهما ولذلك بذل الحسين عليه السلام مهجته ليُنقذهم من الجهالة وحيرة الضلالة.

وأما السجاد فقد ربى جيلاً واعياً بسياسته في شراء العبيد وتربيتهم إلى سنة ثم عتقهم وإرسالهم إلى مناطقهم مبلغين علماء فضلاء وقد تخرج من مدرسته أمثال جابر بن يزيد الجعفي ولوط بن يحيى بن سعيد شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة.

ولكن شهدت الساحة الإسلامية في عهد الصادقين وبداية عهد الكاظم عليهم السلام حركة علمية معرفية لم تشهدها، فتبلورت تكاملية النظام المعرفي في الإسلام وأنه قادر على ملئ الفضاء الفكري بأسره لكونه يمتد في مختلف الأبعاد العقائدية والعملية ليستوعب كل مفردة في صياغة الهيكل الحضاري للإنسان أمة وفرداً.

فكان للصادق عليه السلام أربعة آلاف تلميذ كما ذكره في أعلام الورى كل واحد منهم يقول : حدثني جعفر بن محمد عليهما السلام.

ثم يأتي عهد الرضا عليه السلام ومَن بعده من الأئمة عليهم السلام لينقحوا الأخبار ويبينوا صحيحها من سقيمها، فعن هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول: (كان المغيرة بن سعد لعنه الله يتعمد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة لعنه الله فكان يدس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي عليه السلام).

ولذلك كان أصحاب الأئمة يعرضون المصنفات عليهم عليهم السلام ليبنوا الافترائات الواردة فيها، فقد عرض يونس بن عبد الرحمن على الرضا عليه السلام كتب جماعة من أصحاب الباقر والصادق عليهما السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة، وقال إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه السلام.

وقد سمي فقهنا بالجعفري لأن تلامذة الإمام الصادق عليه السلام كتبوا أربعمائة مصنَّف لأربعائة مصنِّف ـ ثم جمعت تلك الأخبار في الكتب الأربعة: ففي الكافي الشريف أكثر من ستة عشر ألف رواية، وفي من لا يحضره الفقيه أكثر من تسعة آلاف حديث وفي التهذيب أكثر من ثلاثة عشر ألفاً وخمسة مئة خبر، وفي الاستبصار أكثر من خمسة آلاف وخمسمئة مأثور عن أهل البيت عليهم السلام، وقد ذكر الحر العاملي أن أصحاب الأئمة كتبوا إلى الغيبة الصغرى ستة الاف و ستمئة كتاب، ونقل في المراجعات عن الحر العاملي أن ما ألف في عصرهم يقارب عشرة آلاف كتاب.

وفي الحديث الشريف أن أصحاب الكاظم عليه السلام كانوا يحضرون معهم ألواح آبَنوس لِطافٌ وأميال، فإذا نطق أبو الحسن بكلمة أو أفتى في نازلة أثبت القوم ما سمعوه منه في ذلك.

فهذا هشام الكلبي ألف مأتي كتاب، ولإبن شاذان مائة وثمانون مؤلفاً، وصنف ابن دوئل مائة مصنف، كما أن لابن أبي عمير أربعة وتسعين كتاباً، وللحسن والحسين الأهوازيين ثلاثين مصنف.

وكان أبان بن عثمان يتردد بين الكوفة والبصرة وينشر معارفهم وعلومهم، مثلاً روى محمد بن مسلم ستة عشر ألف حديث عن الصادق عليه السلام وثلاثين ألف حديث عن الباقر عليه السلام، كما أن لأبان ثلاثين ألف حديث عن الصادق عليه السلام.

ثم إن هنا نقاط ينبغي التطرق إليها:

الأولى: امتازت شريعتنا الإسلامية عن باقي الشرائع في شموليتها لجميع أبعاد حياة الإنسان فرداً وأمة كما سبق وأن أشرنا إليه، فإن له برنامجاً متكاملاً وتوصيات مترابطة من قبل الولادة إلى بعد الوفاة في الجوانب الأخلاقية والنفسية والفقهية والكلامية والعقدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وفي الحقوق بل حتى في مثل العولمة والبيئة وحقوق الحيوان، بخلاف باقي الشرائع المحرفة التي غالباً ما لا تذكر إلا بعداً واحداً أو بعدين.

الثانية: يمتاز الفقه الجعفري عن فقه باقي المذاهب بأمور:

أ- وجود نصوص شرعية من آيات وروايات تشمل جميع الأحكام بالعموم أو الخصوص، بخلاف بقية المذاهب التي وقعت في حبائل القياس والاستحسان والعمل بالظنون.

ب- فتح باب الاجتهاد بدون جمود أو تقليد أو اتباع الشكوك والاحتمالات.

ولا يخفى أن معنى الاجتهاد (استكشاف (استنباط) الحكم الشرعي من الأدلة الشرعية) وهو غير اعمال النظر والرأي كما هو واضح.

وأما فتح باب الاجتهاد عند الآخرين فقد سبب فوضى عارمة انتج اختلافاً فاحشاً وتناقضاً حاداً في الآراء الفقهية الصادرة عنهم، فترى أحدهم يكفر الآخر ويبيح دمه وعرضه لفتوى رآها خلاف الضرورة الدينية كما يشاهد هذا عند المتطرفين في أفغانستان وغيرها، وعليه فقد أحدث فتح باب الاجتهاد على مصراعيه عندهم اضطراباً وانفلاتاً، وقد تطاول على الفقه من لاحظ له من العلم، وادعاه من ليس له بأهل، وهؤلاء عالجوا المريض بالقضاء عليه لا باستئصال الداء.

وهذا بخلاف الفقه الجعفري فإن القواعد العامة عندنا ثابتة لا يمكن تجاوزها، وأبعاد اطار الشرعية المقدسة واضحة، فلا يخرج الفقيه الجعفري عن الروح العامة للشريعة الغراء، وقد شوقهم أهل البيت عليهم السلام إلى ذلك، فقال الرضا عليه السلام علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع، وقد قال الصادق عليه السلام لأبان بن تغلب: (اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإني أحب أن يُرى في شيعتي مثلك).

ولذلك قال الصادق عليه السلام لعبد الأعلى مولى آل سام بعد أن سأله من مسألة: (يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ امسح عليه).

ج- بدء التطور في الفقه الشيعي من فقهاء العصر الأوائل بتأليف أصول ومصنفات جمعت النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام في مجاميع حديثية وفقهية وعقدية، بتبويبات منقحة، جعلت الإحاطة المعرفية بالأبعاد الفقهية والروائية من السهولة بمكان، فقد ذللت الصعاب ووفرت على المجتهدين الوقت في الفحص عن الروايات.

الثالثة: لا يخفى أن للفقه مقدمات ومبادئ يحتاجها الفقيه في عملية الاستنباط:

منها: حاجته إلى معرفة حركة الشمس والقمر في ضبط الأشهر وأوقات الصلاة وكفاية رؤية أهل الشرع دون أقصى الجنوب الشرقي لأهل الغرب في الرؤية.

ومنها: ما يتعلق بالكيمياء في بحث الكحول وانفعال البخار الحاصل من الماء المتنجس أو عدم انفعاله.

ومنها: ما يرتبط بالدراية لمعرفة صحيح الحديث من سقيمه وحسنه من مؤثقه.

ومنها: ما يرتبط بالاقتصاد والاجتماع وعلم النفس والتاريخ والرياضيات والمنطق وغيرها كثير.

وعليه فحق أن يقال: إن الفقه بحر لا يدرك مداه، وإن أعطيته كلَّك يعطيك بعضه، وأن تعلمه يحتاج إلى توفيق إلهي، ليرفع طالبه إلى مقام تضع الملائكة أجنحتها تحت قدميه، نسأل الله تعالى أن يوفقنا للعمل بمرضاته ويجعلنا ممن ينتصر به لدينه فقد قال تعالى ﴿أقيموا الدين﴾.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين.

* نص محاضرة القيت على جمع من طلاب الحوزة العلمية الزينبية يوم السبت 13\ربيع الثاني\1432

http://www.m-alshirazi.com

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 2/نيسان/2011 - 27/ربيع الثاني/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م