حين يختفي الخوف ويتبدّد الصمت، تبدأ الثورة بنشر إرهاصاتها أو بدق
إسفينها بين أنظمة استبداد طغيانية وبين شعوبها، حينها يبدأ الحراك
المجتمعي يأخذ طابعا أكثر راديكالية، في المواجهة المحتومة؛ بين من
عاشوا على إرث تأميم السياسة، والحرمان الذي أجدب المجتمعات وصحّرها؛
فيكون الانتفاض وقتها بمثابة القطرة الأولى، قد يكون بفعل عدوى ما، أو
اختفاء ما لم يكن متوقعا أن يختفي في لحظات غير متوقعة، حين تشتعل
الأرض تحت أرجل الطغاة، فلا يعودوا يملكون زمام المبادرة لوقف زحف
الثورة، وتدفق ثوار الشعب إلى ساحات الحرية والتغيير.
وإذا كنا سنتحدث عن عدوى الثورات الديمقراطية في فضائنا العربي،
فبالتأكيد هناك أكثر من العدوى، ما يدفع بالمجتمعات العربية إلى حراكها
الانتفاضي، ضد أنظمة استبداد قمعية أبوية، شرّشت في تربة بلادنا، حتى
بات نموذج أو موديل النظام الرسمي، يتشابه نسبيا في اتجاهاته وتوجهاته
السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية.
لذلك شكلت ثورة الشعب التونسي؛ إحدى الشرارات الخالدة التي أطلقت
عدواها، في التقاء ذاتي وموضوعي في ظروف وشروط ومعطيات الاستبداد، في
كسر لحواجز الخوف والصمت، والخروج من أقفاص الرهن والارتهان، التي
اعتقدت الأنظمة الحاكمة أنها نجحت وإلى الأبد، في إحكام قبضة أغلالها
على شعوبها، وإذ بالثورات الشعبية الديمقراطية لا تشي ولا تؤشر إلى
إمكان العودة إلى روتين الحياة اليومية التي كرسها الاستبداد، كمرايا
لإجماع زائف؛ واحد وموحد، خلف زعامة بطريركية أوتوقراطية أو
توتاليتارية شمولية، نامت وتنام على حرير الواحدية الأحادية.
إلاّ أن "اكتشاف" المجتمعات العربية لتعدديتها، وإن عبر عدوى
الانتفاض والثورات الشعبية، والتواجد في ساحات وميادين التغيير
والتحرير، كان نقطة حاسمة في صالحها وصالح شعاراتها الوطنية الجامعة،
مقدمة لخيار التطور الديمقراطي القادم، في ظل تعددية إجماع فعلي على
دمقرطة فعلية، يبدأ الشعب في بنائها من تحت، فلا تُفرض عليه من عل؛ على
ما جرى في العراق، حين جرى بناء محاصصاتها على أسس إثنية عرقية وطائفية
مذهبية، وبدعم من خارج إقليمي لا مصلحة له في إنماء ديمقراطية فعلية؛
تعددية، ولا في إنماء نزوع وطني دولتي، يمكن الرهان عليه في صياغة
وطنية عراقية صلبة، بينما كان الواقع العراقي يجري إغراقه في ظل تصورات
خاطئة، كانت أساس كل الخطايا التي انزلقت إليها تجربة "ديمقراطية
الاحتلال" التي لم تكن ديمقراطية، وإن كانت تعددية شكلا وإشكالا.
لقد تعمّدت الأنظمة السلطوية مخادعة الذات وخداع الآخرين، حين لجأت
إلى اعتماد تعددية حزبية ديكورية، وتعددية برلمانية شكلانية، وتعددية
إجتماعية أهلوية، أعيدت خلالها القوى الاجتماعية، كما القاعدة
الاجتماعية للنظام الحاكم؛ إلى صيغ علائقية بدائية وأولية، لا علاقة
لبناء دولتي بها، كما لا علاقة لأية صيغ مدنية حداثية بما أرسته السلطة
من صيغة تحاكم تسلطية، فرضتها وتفرضها على شعبها، من دون اعتماد أية
معايير أو آليات تحاكم متعارف عليها، حتى في النظم الشمولية السابقة
على قيام الدولة الحديثة غير الديمقراطية.
كذلك تعمد الشعوب اليوم، وللوصول إلى إنجاز ثوراتها الديمقراطية،
إلى انتهاج طرق تغيير سلمية قدر الإمكان، إلاّ في الحالات التي يفرض
النظام عنفه الأعمى، في محاولة منه لحرف وتحويل الثورة وصبغها بالدم،
استمساكا منه بالسلطة، ودفاعا عما اعتبره ويعتبره ملكيته الخاصة، على
ما يفعل اليوم نظام القذافي في ليبيا، ونظام علي عبد الله صالح في
اليمن، وأنظمة مشابهة أخرى؛ تتجهّز منذ الآن لإطلاق ثوراتها المضادة
عبر أذرعها وأجهزتها الأمنية، في حين نجح التونسيون والمصريون في تقليل
خسائرهم إلى أدنى حد أمكن الوصول إليه، قبل الفوز بإسقاط رأسي نظاميهما.
ومهما تكن وسيلة التغيير؛ تغيير نظام تملكي أو استملاكي مطلق، مارس
ما لا يحصى من أساليب وطرائق الاستبداد التسلطي، وتغيير بنى السلطة
والمجتمع والدولة، كي تتلاءم ومصالحه الخاصة ومصالح وارثيه من الأبناء
وربما الأحفاد، فإن إسقاط نظام كهذا وعبر آليات تثوير إفتراضية إلى
جانب تلك الواقعية، لا بدّ لها من أن تستند إلى قوى متعددة، أكثر
تمثيلية وأوسع من القوى والأحزاب الموجودة، وأكثر تنوعا وقدرة على
تنسيق خطواتها بشكل ديمقراطي، وعبر طرائق جوهرها ديمقراطي كذلك، وصولا
إلى إنجاز ثورة تحرر ديمقراطية، يستعيد عبرها الشعب انتظامه الوطني
كشعب، يحقق حريته السياسية، ويمضي نحو بناء تجربة ديمقراطية، تكفل له
استعادة بناء الدولة؛ دولة مدنية حديثة، والمجتمع؛ مجتمعا وطنيا طبيعيا
متماسكا؛ واحدا في تعدد قواه، ومتعددا في واحديته الوطنية.
إن توق المجتمعات العربية إلى التحرر من قيود وأغلال الأنظمة
البوليسية التي دمّرت كل النسيج الوطني، وانحطّت بنماذج السلطة القهرية
التي استبعدت وأقصت كل سلطة أخرى، كسلطة القضاء على سبيل المثال، يحتم
اليوم، وفي فضاء الثورات الديمقراطية؛ إعادة اعتبار ملحّة وضرورية إلى
سلطة القضاء والقانون، وسلطة المنظمات المدافعة عن الحريات وحقوق
الإنسان، إلى جانب إعادة الاعتبار إلى الثقافة المدنية العربية ببعديها
الديمقراطي التحرري والإنساني، وذلك كعامل حاسم في إشاعة ثقافة تتجاوز
كل مسبّبات النكوص والاستخذاء والزبائنية لبقايا الأنظمة التسلطية
والاستبدادية الأبوية، حتى لا يُتاح لها أن تنهض من جديد؛ لتبني سلطة
قهرية جديدة، ولو بعد لأي من الزمن.
إن نماذج الثورات الديمقراطية الجديدة، وهي لمّا تزل طريّة على أي
حال، وتواصل بث إشعاعاتها في فضاءات الشعوب والأنظمة، ليست نماذج
معيارية، بل هي تختلف من بلد إلى آخر، ومن شعب إلى آخر، وهذا تحديدا ما
يكفينا مؤونة المناداة أو الدعوات إلى اتباع نموذج أو آخر، كالنموذج
التركي على سبيل المثال الأبرز في أيامنا هذه، في تجاهل تام لتباين
"الطبيعة التطورية" الإنسانية، وخبرة بناء مجتمع علماني ديمقراطي هناك،
أو التخليفية التي انحكمت لها مجتمعاتنا، وإسهامات السلطة وبعض قوى
المجتمع الأوتوقراطية هنا، حيث التضاد والتغاير أكثر من واضح، بين حال
المجتمع التركي وقواه وقواعده الاجتماعية والسياسية والطبقية، وحال
مجتمعاتنا وسلطاتنا ودولنا التي لم تبلغ سوية الدولة/الأمة بعد، رغم
عراقة البناء الحضاري والتاريخي الذي أشادته مجتمعات ودول الأنهار،
كمصر والعراق، ولكن السلطات التي تعاقبت عليهما انحطت بالدولة والمجتمع
فيهما إلى مستوى دول بدائية متخلفة.
وإذا كان لكل نموذج خصائصه المميزة، ولكل خصيصة فاعليها البشريين،
فمن المؤكد أنه لا يمكن تقليد نموذج ناجح في بلد ما، ومحاولة استعادته
أو محاكاته عبر وضعه في قوالب جامدة يمكن القياس بها وعليها؛ ونقلها من
بلد إلى آخر. |