شبكة النبأ: في اللحظات المحورية
للزمن، تتضاعف مسؤوليات النخب، لدرجة أنها تفوق بأضعاف المرات،
مسؤوليات العامة من الناس، وطالما أننا نعيش الآن أياما وربما شهورا
محورية، تعمل بوضوح على نقل الشرق الاوسط، لاسيما الدول العربية، من
حالة السبات السياسي، والخنوع لسلطات القمع، الى حالة نقل السلطة الى
الشعب بصورة فعلية، فإن زمنا محوريا كهذا، يتطلب إستعدادا موازيا
لقيمته ومزاياه، من لدن النخب المجتمعية، وأولها المثقفين.
فهذه النخبة كما يذكر التأريخ المنظور وسواه، لها باع طويل في تحريك
الطاقات الكامنة للشعوب، من خلال حُزَم وموجات الوعي المتواصلة، التي
تزجها في عقول الناس البسطاء وغيرهم، لذا يُنظر الى المثقف، على أنه
مسؤول فكري مبدئي، يمهد السبل الصحيحة لشرائح الشعب الاخرى، لكي تواصل
سيرها في المسارات الصحيحة.
من هنا ثمة أولويات تتصدر غيرها فيما يتعلق بالمثقفين، ومنهم المثقف
العراقي، فهو صاحب أولويات، أو ينبغي أن يكون كذلك، وهذه الأولويات
ليست جديدة، لكنها قطعا تتغير من ظرف الى آخر، ولكن هل يمكن لنا أن
نتساءل عن هذه الأولويات، وماهيتها، أو طبيعتها، ومدى قربها من نبض
الشعب، وقدرتها على تحقيق أهدافه، في التحرر والعيش بطريقة تحفظ حقوقه
وحرياته وكرامته ؟.
ولو تخيلنا إجابات المثقف العراقي، في هذه المرحلة المحورية، التي
ينتقل فيها المواطن البسيط، من التفكير السطحي، والقبول بما يسد الرمق،
الى التفكير الجوهري، والسعي الى تحقيق النمط الحياتي التحرري، فإننا
قد نصاب بخيبة كبيرة، لأننا سوف نطلع على سقف من المطالب، لا يليق قطعا
بدور المثقف، ومسؤولياته الكبيرة في هذه المرحلة.
إنني أدوّن رأيي هذا ليس وفقا للمزاج، أو استنادا الى عشوائية
التصوّر والاستنتاج، بل ما أقوله هنا يستند الى وقائع، يمكن أن نبصرها،
ونلمسها في الشارع العراقي، فالمثقف العراقي صاحب أدنى سقف للمطالب، بل
غالبا ما ترتبط مطالبه، بمطالب الذات او الفردية المستمَدة من أنانية،
لم نستطع كمثقفين أن نتخلص منها حتى اللحظة، وإذا كان الامر كذلك، فما
بالك بالشرائح الأقل وعيا، وكيف يمكن أن يقوم المثقف - بوصفه نخبة
فكرية قائدة- بدوره في رفع سقف المطالب، الى الدرجة التي تليق بأهمية
الانسان، وأحقية مطالبه المشروعة، التي كان ولا يزال يفتقد لها، وهي
لاتعدو كونها (حياة تحقق له حفظ الكرامة في أدنى مستوياتها).
فمن مطالب المثقفين مثلا، السعي لتحقيق منافع فردية بحتة، لا تتجاوز
الاطار المادي (سكن/ راتب/ رعاية صحية ...الخ) وهذا ما نسمعه، ونقرأه،
ونراه في وسائل الاعلام، من هذا المثقف العراقي او ذاك، ويبدو أن وعي
المثقف العراقي، لايزال متأثرا بحالة الغبن العامة التي تعرّض لها عموم
الشعب، من الحكومات العراقية التي تعاقبت على تهميشه، وسلب حقوقه،
وتحجيم تطلعاته، ولكن لايجوز للمثقف أن يتساوى في الوعي، مع عامة
الناس، واذا صح هذا فإنه من باب أولى، ينبغي أن لا يتساوى في مستوى سقف
المطالب مع الآخرين.
الحرية هي مطلب المثقف الأزلي، وهذا المطلب هو الذي كان سببا مباشرا
بقتل، واعدام، ونفي، وتشريد مئات المثقفين على مر التأريخ، ولم تكن
المطالب المادية الفردية، والامتيازات، والاغراءات، من شيم المثقثين
الأصلاء، لأنها غالبا ما تكون سلاح الحكومات المستبدة وقادتها الطغاة،
فحرية الشعب أولا، ثم يأتي الطعام، والسكن، واللباس، والخدمات المادية،
التي ستأتي كتحصيل حاصل، لمطلب الحرية الذي لن يتنازل عنه المثقف
الأصيل، أو يُفترَض به أن يكون هكذا، ولا يُقصَد هنا بالحرية معناها
القولي المجرد، بل جوهرها الفعلي الشاخص والحاضر في ساحة الفعل.
لهذا ربما يفتقد العراقيون في هذه المرحلة المحورية من تأريخهم، الى
المثقفين الذين يعرفون خطورة دورهم، وحجم مسؤولياتهم، وقدرتهم على
التفريق بين مطالب تحسِّن حياتهم المادية، وأخرى تنشئ مجتمعا متحررا من
الخوف، والجهل، والعوز المادي، والضمور الفكري في آن.
وهذا ما يتّضح من تدنّي سقف مطالب المثقف العراقي، الى أدنى الحدود
التي تطبعها النزعة المادية، في حين تغيب عن مطالبه، سمة الوعي
والايمان بضخامة الدور الملقى على عاتقه راهنا. |