مر المجتمع العراقي قبل وبعد الاحتلال الامريكي بمرحلتين.. مرحلة
حكومة العصابات التي استمر حكمها عقود من عمر العراقيين، كانت تمسك
بالبلاد بقبضة من حديد فلها وحدها قدرة الاستحواذ على ممتلكات وثروات
البلاد وكانت تعاقب بشدة كل من يحاول ان يسرق او يتجاوز على الناس
لانها الوحيدة صاحبة هذه الامكانية بحكم القوة والتسلط.. والمجتمع
العراقي يحتفظ بالكثير من القصص التي يتبادلها الناس عن صرامة الحكومة
في عقاب المتجاوز، فلا تكاد تمضي 24 ساعة على جريمة او اختلاس او رشوة
الا واخذ جلد صاحبها الى مدبغة البعث.. هكذا بقيت الحكومة متمكنة من
غلق جميع منافذ الفساد في البلاد عدا منفذها الوحيد. وقد كشفت الايام
بعد سقوط النظام حجم التجاوزات التي كان تمارسها سلطة البعث..
ومرت تلك السنوات العجاف وجاءت حكومة تميزت شخصياتها بالشهادات
العليا حتى صار يقال عن العراق بلد الدكاترة.. واقترنت مع هذه الصفة
صفة الفساد ليحتل العراق بها مرتبة متقدمة عالميا.. تختلف حكومة
الشهادات اليوم عن حكومة العصابات بالامس.. ان حكومة الشهادات على ما
فيها من مفسدين سمحت بالفساد ليكون في متناول الناس، فمن امتلك قدرة
وجرأة نهب خيرات البلاد فليفعل، فالحكومة في شغل عنه، وهكذا نمت شبكة
الموظفين المفسدين ليقع البلد طريحا عليلا مثخنا بجراح المحتل وطعنات
منزوعي الدين والاخلاق من ابناء البلد، الذين لم تمنعهم انتماءاتهم
العشائرية او اثر التربية او الانتماء للارض او (المستحاه) من الناس او
اثر البيئة التي نشأ فيها.. من مد ايديهم الى المال العام رغم حصوله
على راتب متميز.. واخذ بعض المواطنين يتجاوزون على املاك الدولة
استنادا الى غياب الرقيب.. وكنا نقول عن المتجاوز انه يجازف بماله
عندما يبني على ارض تعود ملكيتها للدولة.. واذا بنا نفاجأ بتمليك
الدولة لهؤلاء المتجاوزين ظنا منها انه حل!!!..
انها مسألة محيرة او غريبة فعلى الرغم من اختيار الادارات من قبل
اهالي المنطقة او المدينة او المحافظة نجد كل هذا الحجم المهول من
التجاوزات، فإن كان الخطأ في اختيار الناس، فأين هي الاعتبارات الدينية
والاخلاقية والتربوية والعشائرية والتعليمية وحكم العشرة والوفاء
للمجتمع الذي يعيشه المرء.. كيف تمكن كل ابناء تلك المدن من المرشحين
للمناصب الادارية فيها، من تجاوز كل هذه الاعتبارات، فلم يمنعهم دين من
سرقة اموال الشعب، ولم تمنعهم اخلاق او تربية او مستوى تعليمي، ولم
يمنعهم انتماء عشائري او (حق الجيرة والعشرة)، كل هذه الاعتبارات سقطت
امام اكداس الاموال المصروفة لتجاوز معاناة الناس وتوفير الخدمات لهم،
فأنزلوها جيوبهم..
اليس من المخجل ان تشهد حكومة تظاهرات مطالبة اياها بمعاقبة
المفسدين، الا يدل هذا على ان الحكومة لم تكن على علم بما يفعل موظفوها،
او هي على علم وكانت لاتبالي، ربما لكي تمرر امور اخطر واكبر، وربما
لان الصغار على نهج الكبار، فمن اين يأتي العقاب، ربما لأن الحكومة غير
قادرة اصلا على معاقبة المفسدين لوجود قوى اكبر ترتئي ابقاء الحال على
ماهو عليه من اجل مصالح اكبر من هموم الناس.. ايا كان السبب فكلها تشير
الى ذنب كبير تتحمله الحكومة تجاه الناس، ومسؤولية اكبر بكثير مما يمكن
ان تتصوره قدراتهم الادارية والسياسية..
ان الاستغفال امر لايمكن تقبله.. فبعد ان جازف الناس بارواحهم في
ذلك الظرف الامني السلبي والتهديدات بزعزعة الاستقرار في العراق، تحمل
الناس انطلاقا من رغبتهم في الوصول الى حكومة ينعمون معها بالاستقرار
والامان، ووصلوا صناديق الاقتراع لكي يفوتوا الفرصة على اعداء الوطن،
وفعلا فوتت الفرصة على الاعداء، ولكن عندما يشعر الناس ان الحكومة
المنتخبة تريد ان تفوت عليهم فرصة الاستمتاع بحصاد تلك السنوات من
التعب والخوف وارواح الابرياء التي ازهقت دون ان يعلم ذووهم ممن يأخذون
حقهم، لا احد يعلم من هو القاتل، وكما قال نزار قباني (في جسد القتيل
دوما تكمن الحقيقة).. ليس بعد كل هذا النزف المستمر، وبعد كل هذا
المشوار العكر، وبعد كل هذه السنوات الضائعة في انتظار رؤية وجه مشرق
للبلاد.. ليس من السهل ان تمر هكذا دون التوقف عندها مليا وبتمعن.. ان
المشكلة التي تواجهها الحكومة اليوم هي انها تدور في دائرة مغلقة من
سياسيين واحزاب وتيارات وصلت عبر صناديق الاقتراع الى السلطة، ولكن
بينت الاعوام والاحداث والمواقف ان اغلبهم ليسوا منتجين بالقدر او
الشكل الذي يمكن ان تتجاوز بهم الحكومة الاختبار او ان تفي بوعودها
للجماهير المتظاهرة، وربما اذا بقيت داخل هذه الدائرة المغلقة فقد
ينفجر مركزها وتقذف بها قوة الشعب الطاردة الى خارج الدائرة السياسية..
لابد من البحث خارج هذه الدائرة وفي محيط دائرة اكبر فمثلا عندما اقتضت
الضرورة لأن يكون وزير التجارة من الاكراد وكان الوزير الحالي غير مختص
في هذه المجال، كان بالامكان الانتقال الى دائرة اكبر وهي دائرة
الاكراد، هل من المعقول ان المجتمع الكردي الحافل بالعديد من الشخصيات
المميزة والمقتدرة، ليس فيه الا شخص املت الضرورة على الحكومة تعيينه
وزيرا للتجارة.. يقول الوزير الجديد انه يحب التجارة رغم انها ليست من
اختصاصه.. وكأن المسألة عبارة عن وظيفة صغيرة في دائرة صغيرة في منطقة
صغيرة في اطراف المدينة، بحيث يمكن تجاوز اخطاء الموظف الجديد الى ان
يتعلم بمرور الوقت..
وكذا الحال مع كل الاحزاب فاذا كانت الضرورة تملي ان يكون الوزير
الفلاني من الحزب الفلاني، فما المشكلة في ان يكون الوزير من غير
الاسماء المطروحة والمتداولة في الساحة السياسية، وفي نفس الوقت هو من
ذلك الحزب او من المستقلين الاكفاء..
اعود واكرر كما في كثير من المقالات بهذا الصدد ان الوقت لايزال
يسمح بتدارك الكثير والكرة اليوم في ملعب الحكومة.. لكي نتجاوز مرحلة
الحكومة المنهارة بالامس ومرحلة الحكومة الفاشلة اليوم.. اننا بحاجة
الى حكومة مخلصة، غير مفسدة، لاتسمح بالفساد من قبل حاشيتها ولا من قبل
الناس وتعاقب على ذلك بصرامة.. وليس الامر بالصعب قدر حاجته الى نفوس
غير ملوثة.. هي مجرد آراء والحكم غدا للناس.. |