ما وراء الصحوة العربية الثانية

 

شبكة النبأ: مضى الآن حوالي 75 عاما منذ ان كتب جورج انتونيو عن ما وصفه بـ «الصحوة العربية» الاولى، حينما تحدث حول انفجار الشعور القومي العربي ضد المستعمرين الاوروبيين. والآن، ربما يكون ما نشهده اليوم هو «الصحوة الثانية» التي لم تنبثق هذه المرة من الشعور بالعداء لإسرائيل أو امريكا بل هي ظاهرة داخلية بحتة تستهدف زعماء العالم العربي السلطويين الذين أساءوا كثيرا لشعوبهم. بيد اننا لا نستطيع الجزم ما اذا كان ما نراه الآن هو ثورة ديموقراطية حقيقية فعلا. فبينما يمكن ان تفشل الاحتجاجات في بعض البلدان يمكن ان يتحول بعضها ايضا للفوضى في بلدان اخرى، لاسيما اذا ما انقسمت المعارضة على نفسها، واكتفت بتحقيق هدفها الاول الذي تمثل في اسقاط النظام كما حدث في تونس ومصر.

كما يمكن للقمع ان يستمر اذا ما ابدت الحكومات تصميما على التشبث بالسلطة مثلما يحدث اليوم في ليبيا. لكن حتى لو حدث هذا لابد ان تبدأ دورة التحدي للسلطة من جديد.

ومهما يكن الامر، من الخطأ التعميم بالطبع لاختلاف كل بلد عن الآخر مما يعني ان الوصول للاهداف السياسية سيتم من خلال طرق متنوعة على الارجح.

غير اننا نستطيع التحدث حول بعض الاشياء بثقة، فمن الملاحظ ان الانظمة الملكية في المنطقة تلقى قبولا من مواطنيها اكثر مما تلقاه الانظمة الاستبدادية التي تعتمد على التوريث كما في مصر، ليبيا واليمن. وهذا شيء طيب بالنسبة للمغرب، الاردن والمملكة العربية السعودية لكن يبدو انه لا ينطبق على البحرين التي تواجه فيها الاسرة الحاكمة اضطرابات مثيرة للقلق.

لكن على الرغم من هذا، سوف تواجه الانظمة الملكية هذه ضغوطا لكي تتسم اكثر بالطابع الدستوري في الحكم.

ومن المفيد ان تلاحظ هنا انه حتى اللاعبين الاقوياء كالولايات المتحدة يواجهون قيودا الآن فيما يستطيعون انجازه. لذا يتعين عليهم التحرك بحذر والانتباه لأن من السهل معاقبة الاصدقاء اكثر من معاقبة الاعداء. فمن المفارقة بالفعل ان المجتمع الدولي كان حتى الآن اكثر قسوة مع مصر والبحرين منه مع سورية أو ايران.

لذا، ينبغي على المسؤولين في الولايات المتحدة واوروبا زيادة نداءاتهم العلنية المطالبة بالاصلاح السياسي الجذري في مثل هذين البلدين غير الصديقين ومساعدة حركات المعارضة فيهما.

على أي حال، من الواضح ان حركات الاصلاح في المنطقة تواجه الآن مأزقا من ناحية الاستراتيجية. فمن المعروف ان الامر يتطلب طرفين لجعل الثورة لا تتسم بالعنف، فقد نجحت الثورة في مصر بلا عنف لأن الجيش فيها لم يكن مستعدا للتضحية بشرعيته من اجل انقاذ حسني مبارك.

مثل هذا النهج لم ينجح بالطبع في ايران وربما لن ينجح طالما اعتمد النظام فيها على ولاء الرعاع. ولا شك ان تكتيك عدم اللجوء للعنف مهم جدا لكنه يتطلب ابتعاد العسكر والشرطة عن استخدام القمع حتى ينجح.

عموما، يتعين ان نكون واقعيين في ما نتوقعه من هذا التحول المحدود بعد نحو الديموقراطية في المنطقة.

فالديموقراطيات غير الناضجة بعد أو الجزئية عرضة للاختطاف من جانب القوميين المتطرفين، كما يمكن ان يصبح الشرق الاوسط الاكثر تأثرا بالرأي العام اقل استعدادا للعمل ضد الارهاب أو في التحرك نحو السلام مع اسرائيل بل ويمكن ألا يكون شريكا بعد الآن عندما يتعلق الامر بتوفير النفط بأسعار معقولة.

من ناحية اخرى، ربما يكون من الصعب اقامة الديموقراطية بصيغتها الكاملة في الشرق الاوسط، وذلك لأن دول المنطقة تفتقر تقليديا لمتطلباتها وعناصرها التي منها: وجود طبقة اجتماعية وسطى نامية وكبيرة، دخل فرد اكثر من 3000 دولار في السنة ومجتمع مدني متطور يستند الى مؤسسات مستقلة. غير ان الاهم عن كل هذا هو احتمال ان تصبح الاوضاع السيئة اكثر سوءا أو افضل.

فكما ذكرت جين كيركباتريك في مقالها: «الديكتاتوريات والمعايير المزدوجة» عام 1979، يمكن ان تكون الحكومات السلطوية اقل تعسفا من الحكومات الثورية واكثر عرضة لليبرالية. ويمكن القول ان الفوضى، الحرب الاهلية، الدول البوليسية، الطائفية والحكم الاسلامي هي جميعا بدائل محتملة للانظمة السلطوية المهيمنة على الشرق الاوسط.

ولما كانت هذه العواقب ممكنة، من غير المرجح ان يؤدي أي منها لتمتع الناس بحرية اكبر.

كما من الضروري ان نتذكر ايضا ان اسقاط الانظمة هو الجزء الاقل صعوبة من التحدي. وما عراق ما بعد صدام الذي عانى لسنوات من صراع اهلي ويمر الآن بما يمكن ان نصفه بمرحلة الـ «الاختلال الوظيفي» سوى مثال على ذلك.

وفي مصر تبدو مؤشرات التوتر واضحة بين الجيش والشارع (المعارضة) حول جوهر خطوات الاصلاح. الحقيقة ان الثورة الديموقراطية غالبا ما تكون تحوّلا شاقا قد يسفر عن تغيير غير ثوري تماما وسياسات اقل ديموقراطية مما كان متوقعا.

الطرف الخاسر

في السياق ذاته طرحت صحيفة واشنطن بوست الامريكية ثلاثة أسئلة قالت انها تمخضت من الثورات العربية المندلعة في المنطقة في الوقت الحالي وكيف تعاملت الولايات المتحدة معها.

وقالت الصحيفة ان أول هذه الاسئلة التي يتحتم مناقشتها، هل يمكن لهذه الثورات أن تمتد لجميع البلدان العربية بما في ذلك المملكة العربية السعودية، وسوريا التي لا طالما عرفت بنظامها القمعي السلطوي؟، والسؤال الثاني، هل يمكن إيقاف هذه الثورات عن طريق العنف من قبل الأنظمة الأكثر قسوة من تونس ومصر؟، والثالث، هل يمكن أن تنجح هياكل وكيانات السلطة الراسخة فى الحد من مقدار التغيير الذى يمكن أن تحدثه، من خلال الرشوات والمفاوضات؟.

وتابعت واشنطن بوست: إجابات هذه الأسئلة لم تتضح بعد حتى الأن، ولكنها تتجه نحو 'لا'؛ مما يعد احتمال مثير لمؤيدي الديمقراطية، ولجميع الشباب العربي المتطلع إلى إعادة بناء بلادهم، لكنه – أيضا – يعنى استقرار أكبر في المنطقة، جنبا إلى جنب مع بعض الخيارات الصعبة على الولايات المتحدة الأمريكية.

وأشارت واشنطن بوست في افتتاحيتها إلى أن الخبراء في شؤون الشرق الأوسط يشكون في إمكانية انتشار الثورة من تونس، ومصر، واختراق للامارات الخليج العربي ولكن الأن انضمت سلطنة عمان إلى البحرين في انتفاضها الشعبية، بالإضافة إلى المطالبات التي يواجهها العاهل السعودي الملك عبد الله من مجموعة من المثقفين دعوا من خلال 'الفيس بوك' إلى مظاهرات هذا الشهر للمطالبة باصلاحات بعيدة المدى.

وأضافت الصحيفة: ان استراتيجية السعودية في استخدام القوة لإخماد الاحتجاجات قد شجعت حكومتي مصر والبحرين لإتباع السياسة نفسها في تعاملهم من المتظاهرين؛ وهى الاستراتيجية التي فشلت، الأن، في ليبيا، فعلى الرغم من هجوم القذافي على المواطنين الليبيين بالطائرات، وقوات المرتزقة، إلا أنه فقد السيطرة على ليبيا بشكل شبه كامل.

وتابعت: 'كان ذلك صحيحا حين جاء الرد الدولي على عنف القذافى قويا بما يكفي للمساعدة في ترجيح كفة الميزان نحو خصومه' كما أشارت الصحيفة أنه لولا تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلارى كلينتون، ما كانت قرارات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لتتحقق؛ مضيفة، ' إدارة أوباما، الأن تعكف على دراسة العديد من التدابير مثل، اللجوء إلى فرض منطقة حظر الطيران، أو الاعتراف بالمعارضة، أو توفير الإمدادات إلى المناطق التى تسيطر عليها المعارضة'.

وقالت ان السؤال الأبشع هو إلى أي مدى سيذهب هذا التغيير؟؛ وهنا أشارت الافتتاحية إلى استقالة رئيس الوزراء التونسي الغنوشي، والمظاهرات المصرية الحاشدة المتواصلة التي اجبرت رئيس الوزراء المصري على الاستقالة حيث كان ينتمى إلى العصر البائد؛ مشيرة، إلى ما يردده البعض عن أن كثرة المطالب بالتغيير قد تؤدى إلى فوضى، مضيفة، أن الخطر الأكبر يكمن في محاولات بعض النخب القديمة الفاسدة إلى التمسك بالسلطة، الأمر الذى سيدفع إلى مزيد من الصراعات.

واختتمت واشنطن بوست افتتاحيتها قائلة 'إن مصلحة الولايات المتحدة تكمن فى تشجيع مزيد من الحرية والوصول بالعرب إلى الديمقراطية الحقيقية، مضيفة، وإذا كان ذلك يعنى توتر العلاقات مع الحلفاء المستبدين، فإنه بالتأكيد أفضل من دعم الخطأ، فى إشارة إلى ما فعلته إدارة أوباما، فى أغلب الأحيان، على مدار الشهرين الماضيين، حيث أن الأنظمة التى تسعى إلى مقاومة تيار التغيير، سواء كانت متحالفة مع الولايات المتحدة أو لا، فهى بالتأكيد الأضعف، مشيرة، أنه كلما تحررت المجتمعات العربية، كلما عادت بالنفع على المصالح الأمريكية على المدى الطويل.

ما وراء مد الثورة الراهنة

من جهته يقول كيرت فولكر (سفير أمريكا في حلف شمال الأطلسي سابقا) في مقال له نشر مؤخرا،من اكبر التحديات في عالم الاستخبارات القيام بتحليل للمعلومات لمعرفة التغييرات الكبيرة المتوقعة، واكثر التحليلات امانا عادة هي تلك التي تشير الى ان القوى التي شكلت الاشياء حتى لحظة التحليل ستستمر في عملها، وهكذا يصبح استمرار الوضع القائم من اكثر الاحتمالات ترجيحا ما لم يتغير لسبب مفاجئ.

وهذا في الواقع ما يدفع صناع القرار السياسي لالتزام الحذر، فحتى خلال التطورات الجديدة – تظاهرات، ازمات اقتصادية أو حرب – يتوقع كثيرون ان تصحح السفينة مسارها وتعود الاشياء الى طبيعتها. لذا من المفيد عندئذ الانتظار واخذ الحيطة لمعرفة لمن ستكون الغلبة ومن ثم العمل لحماية مصالح الامن القومي. اذ ما الفائدة من القفز لتأييد احد الاطراف اذا كانت هناك فرصة جيدة امام الطرف الآخر للفوز؟

لكن على الرغم من كل شيء، ثمة تغييرات كبيرة تحدث على نحو غير متوقع، وما انهيار الاتحاد السوفييتي الا مثال على ذلك، وهنا لا بد من القول ان الخطأ في توقع التغيير على نحو صحيح ينطوي على تكاليف كبيرة عادة.

ثمة امر مهم جدا ايضا وهو ان اتخاذ موقف متحفظ أو حذر عندما يبدو التغيير حتميا يمكن ان يؤدي لاطالة امد الازمة، بينما يمكن ان يؤدي القيام بعمل ما عندئذ الى الوصول لحل اسرع، وربما اسلم واكثر فائدة.

والواقع ان المهارة هنا تكمن في معرفة متى يكون التغيير الكبير قد بدأ يتبلور أو ما اذا كان ما يحدث هو مجرد شيء عادي.

وهنا مكمن الخطأ الذي لايزال الغرب الى الآن يقع فيه في التعامل مع الثورات التي تجتاح العالم العربي اليوم.

ففي تونس اولا اعتقد معظم المراقبين ان التظاهرات التي اندلعت في شوارعها لا تستطيع الاطاحة بالديكتاتور الحاكم.

ويشير كيرت، ثم اعتقد هؤلاء المراقبون في وقت لاحق ايضا ان تغيير النظام هناك لا يمكن ان يؤدي لتغيير نظام مماثل في مكان آخر، وبالطبع كان هؤلاء على خطأ في كلا الحالتين.

وفي مصر لم يتوقع معظم المراقبين ان تؤدي الاحتجاجات الى اسقاط الرئيس السابق حسني مبارك، كما لم يعتقد معظم المحللين ان نظام ليبيا، الذي يتميز باستعداده لاستخدام القوة بقسوة ووحشية، يمكن ان يتغير، وهذا يعني ان الغرب كان في كل مرة مخطئا في تحليله للوضع والتطورات، وكان في كل مرة ايضا بطيئا في اعلان موقفه وفي تأييد التغيير وبطيئا في العمل. لذا، يتعين ان نسامح اولئك الذين عرضوا حياتهم للخطر في الشرق الاوسط اذا ما اعتقدوا ان الولايات المتحدة والغرب وقفا ضدهم.

غير ان السؤال هنا هو: لماذا اخطأ الغرب في تقديره؟ الحقيقة هناك ستة اسباب لذلك هي:

اولا: اعتقاده ان الانظمة السلطوية سوف تنتصر بالنهاية مما يعني عدم الاستعجال لاحراق الجسور معها.

ثانيا: الخوف من ان يؤدي أي تغيير لموجات كبرى من اللاجئين باتجاه اوروبا.

ثالثا: الخوف من أن يختطف المتطرفون الاسلاميون الثورات المشتعلة ثم يفرضون انظمة اكثر سوءا من السابقة.

رابعا: القلق من ألا تحترم الانظمة الجديدة الترتيبات الراهنة مع اسرائيل.

خامسا: الاعتقاد المتطرف الذي يزعم اصحابه ان العرب غير مستعدين بعد للديموقراطية.

سادسا: وربما هو الاكثر اهمية، عدم ادراك الحكومات الغربية ببساطة ان الثورات العربية الراهنة تستند بالفعل الى قيم انسانية وافكار نبيلة.

لقد اعتاد حكام العرب السلطويون ابلاغ الغرب منذ سنوات طويلة ان الاسلام الراديكالي هو البديل الوحيد لحكمهم. واستخدموا النزاع الفلسطيني – الاسرائيلي ورقة للتستر على انظمتهم القمعية واللا شرعية ثم منعوا الناس من الوصول لمصادر المعلومات واستعمال وسائلها مما جعل الغرب يستسلم للاعتقاد بأن التغيير الديموقراطي في العالم العربي هو شيء مستحيل بالفعل.

ويتابع، غير ان الامر لا يتطلب الآن سوى قراءة مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت لندرك ان ما يحدث اليوم في الشرق الاوسط مختلف تماما عن كل ما ألفناه في الماضي. لقد نسف الناس الآن الاساطير والاوهام التي تذرّع بها الحكام الديكتاتوريون امام الغرب منذ سنوات.

فموجة الثورة الراهنة في العالم العربي هي ليست حول الاسلام، ولا حول اسرائيل أو الغرب بل هي حول الحقوق والحرية التي سلبها الحكام الديكتاتوريون من شعوبهم ولا سيما الجيل الشباب الجديد.

صحيح ان هؤلاء الحكام حرموا شعوبهم من المؤسسات الديموقراطية منذ سنوات طويلة الا ان حاجة هذه الشعوب للحرية وحقوق الانسان بقيت ثابتة ولم تتغير، وهذا ما فشلت التحليلات السياسية والاستخبارية الغربية في ادراكه.

لكل هذا، لابد من الاعتراف بأن الحاجة الى التغيير في المنطقة لن تتبدد ببساطة، ولأن من الصعب بالطبع التنبؤ بمثل هذه الاشياء عادة، علينا في الغرب ان ندرك ان ما يجري امامنا الآن ليس شيئا عاديا بل هو تغيير كبير. بل ونستطيع الجزم ان القلق حول الاستقرار والامن الاقليمي والخوف من التطرف الاسلامي سوف يتجسد على ارض الواقع بالفعل اذا قاومنا هذا التغيير بدلا من دعمه.

ان فرص احراز تقدم حقيقي في قضايا الاستقرار، السلام الاقليمي، الامن العالمي ومناهضة التطرف سوف تكون اكبر بالتأكيد اذا ما تحول الشرق الاوسط الى الديموقراطية، عندئذ سوف تصبح مضامين هذا التحول اكبر بكثير من مثيلاتها في حربي العراق وافغانستان.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 22/آذار/2011 - 15/ربيع الثاني/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م